معاناة شخصية: اختطاف المدنيين وسجنهم بدول مجاورة
بسم الله الرحمن الرحيم
أقدمي شكري الجزيل لكل من ساهم من قريب أو بعيد في تنظيم هذا اللقاء القيم وعلى دعوتهم لي للمشاركة فيه، إن ما سيرد في مداخلتي هاته لم أستقيه من مراجع أو أخذته
من أشخاص، إنها أحداث عشتها شخصيا ووفقني الله عز وجل بعنايته الربانية لأسجلها كتابة، وأنا حينها بين جدران سجن الربوني جنوب تندوف، وسخر الله لي أحد أعضاء لجنة الصليب الأحمر الدولي ليخرج بطريقة سرية مذكرتي تلك لتطبع بالمغرب في كتب باللغة الفرنسية تحت عنوان: «الرعب»، مما عجل بإطلاق سراحي بعد أزيد من ثلاثة وعشرين سنة قضيتها سجينا، وذنبي الوحيد هو أنني أنتمي إلى بلد يكرهه الحكام الجزائريون.
بدأت قصتي يوم 20 غشت 1980، عندما هاجم أفراد مسلحون من البوليزاريوا حافلة للركاب رقم 5311 التابع لشركة لسطاس، والتي كان من سوء حظي أن كنت واحدا من ركابها، حدث ذلك غير بعيد عن منزل أهلي بمدينة طاطا، بعمق التراب المغربي المستقل منذ سنة 1956، وبعيد كل البعد عن أماكن النزاع المفتعل، وهكذا تم اختطافي وسبعة أفراد آخرين، بعد ذبح امرأة طاعنة في السن كانت على ما يبدو تجمع الحطب بعين المكان.
قبل قدوم الحافلة في اليوم التالي، سلمنا مختطفونا إلى حرس الحدود الجزائري بالمركز الحدودي المسمى امكالة، حيث خضعنا لأولى الاستنطاقات، مصحوبة طبعا بأولى عمليات التعذيب والإهانة، ثم تم نقلنا بعد ذلك إلى جنوب تندوف الجهنمي، حيث قضيت 8400 يوم في مراكز الاعتقال المنتشرة هناك: مركز الرابوني، مركز 9 يونيو، مركز الغزواني، مركز الحنفي، وإنني لم أكن المدني الوحيد الذي وقع بين أدرع هذا الأخطبوط الجزائري المتوحش المسمى البوليساريو، بل كنا حوالي مائة وثلاثين شخصا تقريبا، كلنا مدنيون موزعين على مجموعتين تتكون أولهما من مائة وخمسة أفراد، وكنت من بينهم، وضعونا بسجون جنوب تندوف، أما مجموعة خمسة وعشرون فردا الباقين، فنقلوهم مسافة تقارب 1600 كيلومتر شمالا ليسجنوا بالسجن العسكري المعروف ببوغار، غير بعيد عن العاصمة الجزائرية، حيث كان يقبع سجناء آخرون مدنيون أبرياء من الدول المجاورة للجزائر، خصوصا من موريطانيا ومالي، كنا جميعا مواطنين بسطاء، منا العامل و منا التاجر البسيط ومنا البناء وسائق الشاحنة أو سيارة الأجرة والحطاب والراعي والكساب، بل وحتى بعض الحمقى المتسكعين تم اختطافهم واستنطاقهم وتعذيبهم وقتلهم.
لقد عانينا بشكل مستمر خلال عقدين من الزمن من الجوع والعطش واستنزاف قوانا البدنية والعقلية، كانوا يعملون على تحطيمنا بدنيا بالأشغال الشاقة، المتمثلة في أعمال البناء وصنع الأجور وحفر الآبار والخنادق وبناء المستودعات الكبيرة تحت الأرض لتخزين المواد الغذائية والأسلحة والذخيرة والشحن وتفريغ مختلف محتويات قوافل لاتنتهي من الشاحنات العسكرية والمدنية القادمة من ليبيا والجزائر والعمل بمناجم الملح القريبة من مدينة تندوف، إلى غير ذلك من الأشغال الشاقة التي كان السجناء يقومون بها تحت الضرب بسياط الحراس المصنوعة من أسلاك الكهرباء المفتولة، أما العذاب النفسي فحدث ولا حرج، كنا نعمل طوال أيام الأسبوع على مدار السنة دون منحنا ولو أدنى فترة للراحة، وكانت وثيرة الضرر ترتفع وشراسة الحراس تشتد، خصوصا خلال أيام الأعياد الدينية منها أو غير الدينية، بل كنا ممنوعين خلال السنوات الأولى من الصلاة، إلى حين نجاح جبهة الإنقاذ الوطني بالجزائر في الانتخابات التي تسببت في الإطاحة بالرئيس الشاذلي، كانوا يوقظوننا ليلا لإحصائنا، وكان ممنوع علينا أخذ فترات للراحة نهارا، أو التوقف عن العمل أو قضاء الحاجة البيولوجية، مما يدفعك للتبول، بل والتبرز في الأسمال التي نرتديها، أما أن تطفأ عطشك خلال العمل، فذلك يعتبر مستحيل المستحيلات، حتى ولو تجاوزت الحرارة أربعين درجة في الظل، كما كان ممنوعا علينا لسنوات طويلة الغسل وترقيع أسمالنا الممزقة، أما مرضانا فكانوا مرغمين على العمل مهما بلغت خطورة مرضهم، وكانوا يخفون كل مدني عن الصحافة وعن هيئة الصليب الأحمر الدولي، التي لم تتمكن من تسجيلنا، حيث قضى معظمنا أكثر من خمسة عشرة سنة في غياهب تلك السجون الجهنمية، وكان مصير كل من حاول الهرب منها القتل دون رحمة.
قبل الختام أريد أن أشير إلى أن اختطاف ما يقارب ثمانين مدنينا مغربيا في ذلك الوقت، كان حينها يمسك فيه بمسؤولية الأمن الجزائري الكولونيل قصبي مرداح، بينما أختطف خمسين تقريبا خلال فترة خلفه يزيد الزرهوني، أما موت السجناء المدنين فكان كالتالي: اثنين قتلا في عهد قصبي مرداح، واثنين في عهد خليفته يزيد الزرهوني، وخمسة قتلوا في عهد الجنرال الكحل عياض، وسبعة في فترة الجنرال محمد مدين الملقب بتوفيق، كما أن لوائح الجلادين رؤساء أو مرؤوسين متوفرة، أريد أيضا أن أعبر عن شكري الشديد وشكر جميع السجناء المدنيين رفاقي في سجون الجزائر، وأعبر عن شكر الشديد لأفراد الحراسة من البوليزاريو، الذين كانوا يحسنون معاملتنا وإلى سائق الشاحنات الجزائر، الذين كانوا يساعدوننا في تسريب رسائلنا إلى خارج الجزائر، أما أولئك الذين كانوا يتفننون في تعذيبنا فأنا شخصيا أسامحهم سامحهم الله .
وأخيرا من هذا المنبر العزيز، أقدم شكري إلى كل الحاضرين هنا للعمل على كشف وفضح الجرائم ضد الإنسانية التي طالت مدنيين أبرياء مغاربة وموريطانيين، بل حتى الجزائريين أنفسهم داخل الأراضي الجزائرية، خصوصا وأن الدلائل المادية الواضحة وضوح الشمس متوفرة، كما أرجوا بهذه المناسبة من السيد رئيس جمعية ذاكرة وعدالة الموجود معنا هنا والذي يمثل مدنيين موريطانيين، أن نوحد بمعيته جهودنا ونعمل سويا على إيقاف دوران هذه الرحى الجزائرية الجهنمية التي طحنت دون رحمة أو شفقة آلاف الأبرياء رحمهم الله جميعا، والسلام عليكم ورحمة الله.