مشاهد رائعة من وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره،
أما بعد، فياعباد الله، سنتابع ونحن في آخر جمعة من شهر الله محرم الحرام، مشاهد رائعة من وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، حيث استقبله الأنصار فرحا وسرورا،كما سأتعرض لأهم أعماله الأولى.
أيها الإخوة الكرام، قال عروة بن الزبير سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظارهم، فلما آووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم-حصن من حصونهم- لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته يامعاشر العرب، هذا جدكم الذي تنظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، وكبر المسلمون فرحا بقدومه وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا بهم طيفين حوله، والسكينة تغشاه، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك.
وخرجت ولائد من بني النجار فيما يرويه ابن هشام فرحات بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجواره لهن وهنّ ينشدنّ، فقال عليه السلام لهنّ : ( أتحببنني ؟ ) فقلن: نعم، فقال: الله يعلم أن قلبي يحبكنّ.
فاستقبله من في قباء أربع عشرة ليلة، حيث أدركه فيها علي رضي الله عنه، بعد أن أدى عنه الودائع إلى أصحابها، وأسس النبي صلى الله عليه وسلم هناك مسجد قباء، وهو المسجد الذي وصفه الله بقوله:” لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه”، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا المكان مربدا-أي موضعا يجفف فيه الثمر، وتحبس فيه الإبل والغنم-، ورد في فضله أحاديث كثيرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه في كل اثنين وخميس راكبا وماشيا، فيصلي فيه، وأثنى الله سبحانه عليه وعلى أهله بالطهارة، وهو أول مسجد بني في الإسلام.
وسار من قباء يوم الخميس، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلاها في بطن وادي رانوناء، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، واتخذ موضع مصلاه مسجدا، وسمي مسجد الجمعة، ثم واصل سيره إلى المدينة فدخلها فالتف حوله الأنصار، كل يمسك زمام راحلته يرجوه النزول عنده، فكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم: “دعوها فإنها مأمورة”، فلم تزل راحلته تسير في فجاج المدينة وسككها حتى وصلت أمام دار أبي أيوب الأنصاري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:”ههنا المنزل إن شاء الله”، وجاء أبو أيوب رضي الله عنه، فاحتمل الرحل إلى بيته، فاختار الله له ماكان يختاره، فقد كان يحب النزول على بني النجار، لنسبه فيهم، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “خير دور الأنصار دار بني النجار، فهم أوسط دور الأنصار وأخوال عبد المطلب”، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في منزل أبي أيوب الأنصاري حتى ابتنى مسجده ومساكنه صلى الله عليه وسلم، وكانت إقامته عنده شهرا، ولما اطمأن صلى الله عليه وسلم، اشتد سرور الأنصار به، وأظهروا الأسف على مافاتهم من نصره.
روي أبو بكر بن أبي شيبة وابن إسحاق والإمام أحمد ابن حنبل من طرق متعددة بألفاظ متقاربة، أن أبا أيوب رضي الله عنه قال وهو يحدث عن أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده: “لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي في أسفل البيت، وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له: يانبي الله بأبي أنت وأمي إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في الأعلى، وننزل نحن نكون في الأسفل، فقال: يا أبا أيوب، إنه لأرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في أسفل البيت، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن، ولقد انكسرت جرّة لنا فيها ماء يوما، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء، تخوفاً أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء فيؤذيه، فنزلت إليه وأنا مشفق، فلم أزل أستعطفه حتى انتقل إلى العلو.
قال: وكنا نضع له العشاء، ثم نبعث به إليه، فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده، فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له بصلاً وثوماً، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر ليده فيه أثر، فجئته فزعاً فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي، رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك، وكنت حينما ترد علينا فضل طعامك أتيمم أنا وأم أيوب موضع يدك نبتغي بذلك البركة، فقال: إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجي، فأما أنتم فكلوه، قال: فأكلناه، ثم لم نضع في طعامه شيئاً من الثوم أو البصل بعد. نسأل الله أن يعرفنا بسيرة نبينا وأن يزيدنا محبة فيه، أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فياعباد الله، إن من أهم الأعمال التي باشرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد اطمئنانه بالمدينة، بناء المسجد، ورد في الصحيح من الأحاديث أن أرض المسجد النبوي الشريف توجد في دار بني غنم بن مالك بن النجار، وبني حيث مبرك راحلته صلى الله عليه وسلم، وكان هذا المكان مربدا للتمر، وكان يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النجار، فقال:” ثامنوني بحائطكم هذا”، فقالوا لا والله مانطلب ثمنه إلا إلى الله، ولما كان المكان ليتيمين في حجر أسعد بن زرارة، لم يقبله صلى الله عليه وسلم إلا بالثمن، ثم ابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنائه وأعانه عليه المسلمون وكان ينقل معهم اللبن، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرغب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار، ودأبوا فيه، فقال قائل من المسلمين:
لئن قعدنا والنبي يعمل * لذاك منا العمل المضلِّل
وارتجز المسلمون وهو يبنونه يقولون :
لا عيش إلا عيش الآخره * اللهم ارحم الأنصار والمهاجره
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: لا عيش إلا عيش الآخرة ، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار . وارتجز علي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ :
لا يستوي من يعمر المساجدا * يدأب فيه قائما وقاعدا
و من يُرى عن الغبار حائدا
ذكر في قصة البناء هذه، أن عمار بن ياسر دخل وقد أثقلوه باللبن، فقال يارسول الله، قتلوني يحملون علي مالايحملون، قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض وفرته بيده، وكان رجلا جعدا،… وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم مربعا، وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وطوله سبعين ذراعا في ستين أو يزيد، وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق بمكة منهم أحد، إلا مفتون أو محبوس، وباقي الدور فإنها أغلقت بمكة ولم يبق فيها ساكن.
أيها الإخوة الكرام، هاأنتم ترون كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم شارك بنفسه في عملية بناء المسجد، كما شارك الصحابة رضي الله عنهم بأيديهم، وفي ذلك إشارة، أن من أهم الأعمال التي يمكن أن يقوم بها المسلم هي أن يكون في خدمة المسجد إذا فاته المشاركة في بنائها، كما أن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام لدورهم ومساكنهم وبلدتهم، دليل على أن المحافظة على الدين والعقيدة أهم من كل شيء، وها أنتم ترون كيف بدأ الصحابة حياتهم الجديدة من لاشيء، فتجشموا الصعاب وزاحموا الناس في الأسواق، فصارت لهم بيوت وأموال، ومنهم من اختار طريق العبادة والزهد ومنهم من جمع بين التجارة والعبادة، وفي كل خير، اللهم احفظ علينا ديننا وعقيدتنا واشحذ عزائمنا لتقوى على الخير وتيسير الخير، آمين آمين آمين والحمد لله رب العالمين.
الدعاء