مراقبة الله
يسم الله الرحمان الرحيم
مراقبـة الله
الأستاذ مولاي يوسف بصير
الحمد لله، الحمد لله القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على كل جارحة بما ارتكبت، المطلع على ضمائر القلوب إذا هجست، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض تحركت أو سكنت، نحمده تعالى ونشكره على نعمه التي عمت العباد وشملت، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، الذي حذر أمته من مغبة التقصير، وأنذرهم يوم الوعيد، يوم العرض على الله العلي القدير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا لله أشد خشية وأكثر مراقبة، وسلم تسليما كثيرا،
أمَّا بعد .فيا أيها الإخوة المؤمنون، يقول الله عز وجل في كتابه المكنون: “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون”، أي خافوا الله واحذروا عقابه وانظروا ما قدمتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم القيامة، يوم تعرضون على الله ولا تخفى منكم خافية، لأن الله عز وجل عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم، مطلع على خفايا صدوركم، لا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير، ولا كبير ولا صغير، يعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، ففي الحديث الذي رواه سيدنا عمر (ض)، أن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “… أخبرني عن الإحسان، قال صلى الله عليه وسلم: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، ومقتضى هذا الحديث أن يكون العبد دائم المراقبة لله شديد الحرص على استحضار عظمة الله، مخلصا في عبادته لمولاه، عاملا على إتمامها وإكمالها لله، جاعلا نصب عينيه أن الله معه حيثما كان، وذلك هو أفضل الإيمان، قال تعالى: “واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، واعلموا أن الله غفور حليم”، فعن سيدنا أبي ذر الغفاري (ض) قال: “أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أخشى الله كأني أراه، فإن لم أكن أراه فإنه يراني”، وقال عبد الله بن عمر (ض): “أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال: “اعبد الله كأنك تراه”، وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني بحديث واجعله موجزا، فقال صلى الله عليه وسلم: “صل صلاة مودع، فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك”، ووصى صلى الله عليه وسلم رجلا فقال: “استحيي من الله استحياءك من رجلين من صالحي عشيرتك لا يفارقانك”، وقد دل القرآن الكريم على هذا المعنى في مواضع متعددة كقوله تعالى: “ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة”، وقوله تعالى :” وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه، وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين”، وقال عز وجل: “في سورة ق: “ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد”،وبهذه التوجيهات الربانية، والآيات البينة القرآنية علم أهل البصائر من العباد ، وأولوا النهى والرشاد أن الله تعالى لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقشون في الحساب، ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات، وتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار المحدقات إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في كل الأوقات على الحركات والسكنات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب، خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن إلى الله منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه قبل أن يحاسب دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته، قال سيدنا عمر بن الخطاب (ض): “وإنما يثقل الحساب يوم القيامة على قوم جازفوا الأمور (أي لم يهتموا بها) فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذر،
أيها المسلمون، أديموا مراقبة الله فإنه رقيب عليكم، “إن الله كان عليكم رقيبا”، ومعنى هذا، أن على العبد أن يتيقن ويعلم أن الله تعالى مطلع على ظاهره وباطنه، وأنه ناظر إليه سامع لأقواله، عالم بأفعاله، ومع ذلك فقد وكل به ملائكته يكتبون أقواله وأفعاله التي ستوضع بين يديه، يوم تجد كل نفس ما عملت محضرا، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا”، كما يجب على العبد أن يعلم أن أعضاءه وجلده وجوارحه ستشهد عليه “يوم لا ينفع مال ولا بنون” قال تعالى: “اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون”، فالله تعالى يشهد على العباد الملائكة الحفظة، والأنبياء والأمكنة التي عملوا عليها الخير أو الشر والجلود التي عصوه بها، وإن المؤمن العاقل إذا تذكر هذا وأحس به وتيقن من وجوده نظر في أعماله فأكثر من الطاعات، وتاب من المعاصي وخالف النفس والشيطان واجتنب الموبقات، ولكنه حينما ينسى الله يترك الإستعداد للآخرة ويفرط في جنب الله، ويضيع عمره فيما يغضب الله ويلقي به في الهاوية. إن مراقبة الله وخشيته هي التي منعت نبي الله يوسف عليه السلام من ارتكاب المعصية عندما “راودته التي هو في بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب وقالت هيت لك، قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون”، وإن مراقبة الله هي التي منعت ذلكم الرجل الذي راود بنت عمه على الفاحشة فلما تمكن منها قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام وتركها وترك المال الذي أعطاها خوفا من الله. وإن مراقبة الله هي التي منعت المرأة التي سمعها عمر (ض) حينما أمرتها أمها أن تغش اللبن الذي تريد بيعه للناس وأن تخلطه بالماء فقالت يا أماه ألا تخافين من عمر؟ فقالت لها أمها إن عمر لا يرانا، فقالت البنت: إن كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا، فأعجب بها عمر (ض) وسأل عنها ثم زوجها أحد أبنائه، فكان من نسلها عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الزاهد التقي النقي (ض)، فأين نحن من هؤلاء المتقين الذين راقبوا الله في جميع أحوالهم، وتركوا ما نهوا عنه من كذب في المعاملات، وخيانة في الأمانات، وخلف في الوعود والمعاهدات وصبر على الشدائد والمكروهات، امتثالا لأمر ربهم الرقيب عليهم، فتولى الله أمرهم وأصلح بالهم، وكانوا لله فكان الله لهم، يقول الله تعالى: “إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون”، نسأل الله عز وجل أن يعصمنا وإياكم بعصمته، وأن يربطنا بحبل طاعته، وأن يكتب لنا نعمة مراقبته وخشيته، جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبــة الثانـيـة:
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، راقبوا الله تعالى في جميع أحوالكم، وفي جميع أعمالكم وتصرفاتكم، فإنه معكم أينما كنتم، وهو رقيب عليكم يحصي أعمالكم ويعلم ما توسوس به نفوسكم، ويقول لكم: “يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، واعلم أخي أن حقيقة المراقبة هي ملاحظة الرقيب وانصراف الهم إليه، فمن ابتعد عن أمر من الأمور بسبب غيره يقال إنه يراقب فلانا ويراعي جانبه، والمراد بهذه المراقبة شعور في القلب يثمره نوع من المعرفة، ومعرفة الله تورث خشيته، وخشية الله ثورث الجنة، سئل أحد الصالحين، بم ينال العبد الجنة؟ فقال: بخمس خصال: استقامة ليس فيها روغان، واجتهاد ليس معه سهو، ومراقبة الله تعالى في السر والعلانية، وانتظار الموت بالتأهب له، ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب. هذا وقد قيل: إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ** خلوت ولكن قل علي رقيب ** ولا تحسبن الله يغفل ساعة ** ولا أن ما تخفي عليه يغيب ** ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب ** وأن غدا لناظره قريب. وقال ابن عطاء الله: أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات. وقال ذا النون المصري: علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما عظم الله، وتصغير ما صغر الله. ولهذا حكي أنه كان لبعض المشايخ العارفين الذين نور الله قلوبهم بنور اليقين تلميذ شاب، وكان يكرمه ويقدمه على غيره، فقال له بعض أصحابه: كيف تكرم هذا وهو صغير ونحن كبار؟ فدعا الشيخ بعدة طيور وناول كل واحد منهم طائرا وسكينا، وقال ليذبح كل واحد منكم طائره في موضع لا يراه فيه أحد، ودفع إلى الشاب مثل ذلك، وقال له مثل الذي قال لهم، فرجع كل واحد بطائره مذبوحا ورجع الشاب والطائر حي في يده يصيح، فقال الشيخ للشاب: مالك لم تذبح كما ذبح أصحابك؟ فقال: لم أجد موضعا لا يراني فيه أحد إذ وجدت الله مطلعا علي في كل مكان، فاستحسنوا منه هذه المراقبة وقالوا: حق لك أن تكرم. الدعاء.