مداخلة الشيخ خالد سانا بعنوان: ” دور الطريقة التجانية في نشر الإسلام في أفريقيا”
الشيخ خالد سانا
داعية إسلامي، مدير المركز الإسلامي بواغادوغو، بوركينافاسو
الحمد لله حقَّ حمدِه حمداً يستغرقُ جميع وجوهِ المحامِد كما يحبّ ويرضى، وحتّى يرضى، وأصلّي وأسلّم على شمس الهداية وبحر الفيوضات والرحمة الربانية سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين وأصحابه الأطهار ، وعلى كلّ من اقتفى أثرهم وسار على نهجهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
صاحبَ السماحة الشيخ مولاي إسماعيل بصير شيخ الطريقة الشاذلية الدَّرقاوية الإبراهيمية البصيرية.
حضرة السادة الكرام المؤتمرين والمؤتمرات المشاركين في هذه الندوة العلمية المباركة،
أيها الحضور الكرام،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد….
إذا أردنا الحديثَ عن دور الطريقة التجانية في نشر الإسلام في إفريقيا، يحسن بنا الرجوع قليلا للحديث عن حقيقةِ التصوّف الإسلاميّ، الذي تُعَدّ الطريقة التجانية جزءاً لا يتجزّأ منه.
يقول أبوبكر الكتّاني المتوفَّى سنة (223ه) في تعريف التصوّف: “التصوّف خلقٌ، فمن زاد عليك في الخلُقِ فقد زاد عليك في الصفاء”،ويقول أبو الحسن النوريّ: “ليس التصوف رسماً ولا علماً، ولكنّه خلقٌ”، ثمّ يعلِّل ذلك قائلاً: “لأنّه لو كان رسماً لحصل بالمجاهدة، ولو كان علماً لحصل بالتعليم، ولكنّه تخلُّق بأخلاق الله، ولن تستطيعَ أن تُقبل على الأخلاقِ الإلهية بعلمٍ أو رسمٍ”، وسُئل الشبلّي عن التصوّف فقال: ” بدؤُه معرفةُ الله، ونهايتُه توحيدُه”.
وأمّا التعريف الجامع فهو قول أبي بكر الكتّاني: “التصوّفُ صفاءٌ ومشاهدةٌ”.
ولقد بدأ التصوّف بالتزامن مع بزوغِ فجرِ الإسلامِ؛ وذلك استناداً إلى كونه خلقاً كريماً واتّجاهاً إلى الله في اليسير من الأمور والعظيم منها، وهذا هو كنه الإسلام.
ومن أوائل الصوفية من حيث مفهومه الأخلاقيّ واتّجاهه السلوكيّ بعد الصحابة والتابعين، إبراهيم بن أدهمُ، والفُضيل بن عِياض، وذو النون المصريّ، والحارث بن أسد المحاسبيّ رضي الله عنهم أجمعين؛ إذ التصوّف ما هو إلاّ التماسٌ لمقام الإحسان الوارد في حديث جبريل عليه السلام، لمّا سأل المصطفى صلى الله عليه وسلّم عن الإحسان؟ فقال: “الإحسان: أَنْ تَعبُدَ اللهَ كَأنّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنّهُ يَرَاكَ”.
شهادة علماء الإسلام للتصوف
وهذه جملةٌ من شهادة علماء الأمة الإسلامية لمنهج التصوفّ السنيّ والصوفية، ونبتدئ بالأئمة الأربعة رضي الله عنهم.
فقد نقل الفقيه الحنفِيّ الحصكفِيّ، صاحب الدرّ المختار، أنّ أبا عليّ الدقّاق رضي الله عنه قال: “أنا أخذتُ هذه الطريقةَ من أبي القاسم النّصر آباذيّ، وقال أبو القاسم: “أنا أخذتُها منَ الشبلّي، وهو من السريّ السقطيّ، وهو من معروف الكرخيّ وهو من داوود الطائيّ، وهو أخذ العلم والطريقةَ من أبي حنيفة رضي الله عنه. وكلٌّ منهم أثنى عليه وأقرّ بفضله؛ ثم قال صاحب الدرّ معلّقاً: “فيا عجباً لك يا أخي، ألم يكن لك إسوةٌ حسنةٌ في هؤلاء الساداتِ الكبار؟ أكانوا متّهَمين في هذا الإقرار والافتخار، وهم أئمةُ هذه الطريقة وأرباب الشريعة والحقيقة، ومن بعدهم في هذا الأمر فلهم تَبع ، وكلّ ما خالف ما اعتمدوه مردودٌ مبتدع (1) .
وقال الإمام مالك رضي الله عنه: ” مَن تفقّه ولم يتصوّفْ فقد تفسّقَ، ومن تصوّف ولم يتفقّهْ فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقّقَ”. وذلك في كتاب الشفا للقاضي عياض، شرح ملا علي القارئ (2). وجاء عن الإمام الشافعيّ قوله: ” حُبِّب إليّ من دنياكم ثلاثٌ: ترك التكلُّف، وعشرةُ الخلقِ باللّطفِ، والاقتداء بطريق أهل التصوّف” (3). ونقل العلامة محمد السفارينيّ الحنبلي، عن إبراهيم بن عبد الله القلانسي، أنّ الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه قال عن الصوفية: ” لا أعلم أقواماً أفضل منهم ، قيل: إنهم يستمعون ويتواجدون، قال: دعوهم يفرحوا مع الله ساعةً” (4).
فهذه مجموعة من أقوال الأئمّة الأربعة رضي الله عنهم في بيان فضل التصوف، ومنزلة السادة الصوفية في الإسلام، فإذا كانت هذه هي آراء بعض علماء هذه الأمة وخيرة رجالها، فإنْ حكمْنا على التصوف من خلال واقع سلوك الكثير من المنتسبين إليه، فسيكون حكمنا عليه بأنّه غير صالحٍ للتطبيق، ونكون بذلك قد ظلمناه؛ لأنّ واقعَ سلوك هؤلاء الكثيرين يخالف واقع حقيقة التصوف.
فكما أنّ انحراف بعض الناس عن الإسلام لا يستدعي الحكمَ بعدم صلاحية الإسلام ؛ فكذلك انحراف الآخرين عن الصوفيّة لا يبرّر الحكمَ بعدم صلاحيّة التصوف؛ فالعبرة إذاً بصلاحيّة المنهج، وأما التطبيقُ السلوكيّ فيخضع لمؤثّراتٍ بيئِيّة مختلفةٍ، ولاعتباراتٍ واقعيّةٍ تُسهِم سلباً أو إيجاباً في اتّساع رقعة التطبيق أو ضيقها.
وبما أنّ التصوّفَ يمثّل الجانب الأخلاقيّ في الإسلامِ، فإنّ الالتزام به أشقُّ على النفسِ من الالتزام بسائر تعاليم الإسلام الأخرى، وباعتبار أنّ ترويض النفس على الأخلاق الفاضلة يستدعي مجاهدة أهوائها وشهواتها؛ فإنّ هذا هو سرّ عزوف الغالبية العظمى من سلوك طريق التصوّف، وتعثّر بعض السالكين على طريقه.
إنّ التصوفَ الإسلاميّ في حقيقته وجوهره منهجٌ تربويّ من صميم تعاليم الإسلام الحنيف، يستهدف تزكية النفس، وتطهيرها من رذائلها الخُلقيّة، وتزويدها بالفضائل؛ امتثالاً لقول الحقّ تبارك وتعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا{7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا{8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا{9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا{10}) (5) .
الانتشار العالمي للطريقة التجانية وثمرة جهودها في التربية الروحية والاجتماعية
بذل علماء الطريقة التجانية قصارى جهودهم في غرس القيم والأخلاق والآداب الإسلامية الفاضلة في نفوس مريديهم، وبذلك استطاعوا أن يبنوا مجتمعاً تسود فيه روح الفضيلة والمودّة والمحبّة والوئام وغيرها من الصفات الحميدة التي ساعدتْ على تماسك المجتمع، وتوطيد دعائم التكافل الاجتماعيّ بين مختلف شرائح المجتمع البشريّ المتديّن، وكان من جرّاء ذلك أن تأثّر بهم من حولهم من سائر الناس، فالتحقوا بركبهم، وهذا الأمر ساعد بشكلٍ أوسع في نشر هذه الطريقة وتغلغلها في أنحاء مختلفةٍ من بقاع العالم، وأكثر المناطق انتشاراً فيها هي إفريقيا ثمّ تليها آسيا.
وقد اتّسمَت الطريقة التجانية واشتهرت بأنها طريقة العلم والعلماء حتّى إنّ أحدَ ألدّ أعدائها وصفها بذلك. وقد أورد ذلك الشيخ عمر مسعود التجاني حفظه الله تعالى ضمن العوامل التي جعلت الطريقة تنتشر وتشتهر بها فقال: “إنّ خصوم الطريقة التجانية والمنكرين عليها مُقرّون لها بأنّ شيوخها علماء من عليّة القوم، ويكفينا ذلك أنّ الهلاليّ، وهو عدوّ التجانيين اللدود وخصمهم الشديد الخصومة لهم يقول عنهم: ” رأيتُ الطرقَ المنتشرةَ في بلادنا قسمينِ: قسمٌ ينتمي إليه العلماء وعلية القوم، وقسمٌ ينتمي إليه السوقةُ وعامّة الناس، ثم قال: والطريقة التجانية والدرقاوية والكتانية، وإن كان أهلها في بلادنا قليلاً تؤلّف القسمَ الأوّل” .
ويصف الشيخ عبد الحليم محمود مفتي جمهورية مصر العربية التجانية بأنّها من طرق أهل التزكية وتزكية النفس، الذين تخصّصوا لتصفية القلوب من المعاصي الباطنة، وهم الذين يسمّيهم العلماء المحقّقون (الصوفية) ، ثمّ استطرد قائلاً: “وإذا كان من العلماء من تخصّصوا لدراسة العقائد، وردّ شبه الملحدين والمشكّكين، ومنهم من تخصّص في دراسة السنّة ورجالها لتمييز الصحيح من غيره من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّ منهم من تخصّص في تزكية النفوس وتربية الهمم، وتطهير القلوب من الأدران والأرجاس، سيراً في طريق التقرّب إلى الله سبحانه وتعالى بحسب الطاقة الإنسانية، وهم الصوفيّة ومنهم التجانيّون”.
ولهذا ظلّ الشيخ سيدي أحمد بن محمد التجاني، مؤسس هذه الطريقة- رضي الله عنه ، طول حياته يربّي أتباعَه على تزكية النفس ، والرقيّ بها إلى عالم المُثُل، ويحضّهم على التمسّك بمبادئ الشرع الحنيفة، ثمّ عمل على نهجه خلفاؤُه وأتباعُه من بعدِه، فربّوا بذلك أجيالاً قادوا مسيرةَ هذه الأمّة، وما أروعَ تلكَ النصائح التي أوصى بها الشيخ رضي الله عنه خلفاءَه ومقدّميه، وإنّها لأكبر دليلٍ على بَصماتهِ الواضحة في منهجه في التربية الروحية والاجتماعية.
وهكذا استطاعوا تأسيس دولةٍ إسلاميّةٍ تجانيّةٍ في غرب إفريقيا عملتْ على مقاومة الاستعمار الفرنسيّ، والتصدّي له بكلّ أنواعِ المقاومة، حتى قال عنها بعض المؤرّخين وهو يذكرُ دور التجانية في نشر الإسلام: ” لولا قضاء فرنسا على سلطنة التجانية كادت إفريقيا كلها أن تكون مسلمةً” . وكما وصفها الكاتب والمؤرّخ التشاديّ الشهير الدكتور عبد الرحمن عمر الماحي بقوله: ” وإذا ألقينا نظرةً شاملةً على حركة الحاج عمر نجدُ أنّها نجحتْ في تقوية الوحدةِ بين المسلمين في غربِ إفريقيا، وأنّها أقامتْ دولةً إسلاميةً أكثرَ مركزيّةً من دولة سكتو، أو دولة الشيخ أحمدُو لوبُو في ماسينا. وقد تكوّنتْ هذه الدولة في منطقةٍ عرفت الإسلام في وقتٍ مبكّرٍ. وكان الحاج عمر ينادي بالتربية الروحية عن طريق ممارسة أوراد الطريقة التجانية، وهي أحدثُ من الطريقة القادرية التي أنتهجها كلٌّ من الشيخين عثمان بن فُودي وأحمد لوبو”.
ويتضح لنا من خلال ذلك المنهج الذي رسمه الشيخ سيدي أحمد التجاني، أن الطريقة التجانيّة قد بذلتْ جهوداً جبارة جديرة بالتقدير في تنمية الجانب الروحيّ للفرد المسلم، كما اهتمّتْ بالجوانب الاجتماعيّة في المجتمعات التي انتشرتْ في أوساطها، إذ إنّ المعنِيّ الذي يمثّل جانباً هامّاً في حياة الإنسان هو الجانبُ المعنوِيّ وخاصةً الأخلاقيّ، والذي يجعل الإنسان وَفق ما حباه الله من فطرةٍ أن ينمو بذاته، ويضبط سلوكَه ، ويرتفعَ بقدر نفسِه، ويعلُوَ على الماديّاتِ الحسِيّة المتمثّلة في مساوئ الشهواتِ وما يُصاحبها من ماديّاتٍ، كما يتطلّع إلى الجانب المضيئِ في بنائِه الشخصيِّ، وهو الجانب الروحيّ، والذي أشارت إليه الآيات القرآنية الكريمة عندما أوضحت سواسية الخلقِ، وأنّهم من نفسٍ واحدةٍ، وأنّ الإنسانَ الفردَ له قيمته، والجماعة الإنسانيّة لها كيانُها ووجودها أيضاً.
فالإسلامُ لا ينادي بالفرديّة، بل يدعو إلى التماسّك والتعاون، وأن تكون المسافة الاجتماعية بين الأفراد في علاقاتهم متقاربةً وليس متباعدةً، كما ينادي بنبذ العصبيّة، فلا فرق بين أبيض وأسودَ، ولا فرقَ بين جماعةٍ أو جماعةٍ أخرى إلاّ بالتقوى. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (6) .
وأقربُ ما يكون التجانيون من تطبيق المنهج الروحي والاجتماعيّ الذي جاء به ا لإسلامُ واتّبعتْه طريقتهم هو عند اجتماعهم لأداء أورادهم، ويتجلّى ذلك في تلاوة الوظيفة، وذكر الكلمةِ المشرّفة (لا إله إلا الله) من عصر يومِ الجمعةِ، حيثُ تتغذّى أرواحُهم بنور الله أثناء الذكر، فتصفو قلوبُهم وينجلي صدؤها وتزداد نوراً، وبذلك تكون مهيّئةً لقبول كلّ ما جاء به الإسلامُ من خصالٍ طيّبةٍ تُسهِم في بناء مجتمعٍ متكافلٍ تسود فيه روح المودّةِ والمحبّة والرضا والعفو ، كما تكون بعيدةً كلَّ البعدِ عمّا يُعكِر صفاءَ المودّة والمحبّة بينهم، وبذلك يكونون قد أسّسوا مجتمعاً صالحاً متماسكاً يتصدّى لكلِّ من يريدُ تفكيكَ خلاياه وتدميرها عملاً بقوله تعالى: ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) (7) .
الطريقة التجانية وأثرها في تماسك المجتمع
إنّ للتجانيين حظّاً وافراً من المجهودات لا يمكن إنكاره في لمّ شمل المسلمين وجمع كلمتهم، وربط وحدتهم وقُوّتِهم، ويتبلورُ ذلك في تمسّكهم بكتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، والحفاظ على قيمة الوقتِ، ونصبِ ميزان الشرعِ ، وتعليم العلم ، وعدم التفريق بين المسلمين بتكفيرٍ أو تفسيقٍ أو تبديعٍ، كما يفعلُ خصوم التصوّف وأعدائه، وما يقال عنهمْ من تكفير مَن تركَ التجانية إنّما هو كلامٌ ساقطٌ ، ردّه كثيرٌ من علماء هذه الطريقةِ وغيرِهم، بيد أنّ دعاة التجانية كغيرهم من رجال الصوفيّة يتأسّفونَ كلّ الأسفِ على من يخرجُ من طريقهم، وذلك أنّهم يرونَ – وهو حقٌّ – أنّ هذه الطرقَ هي معارج إلى اللهِ، وذكرٌ وتسبيحٌ، وتعاهدٌ بالتزام الطاعةِ، وتقرّبٌ إلى الله بشتّى الوسائل الشرعيّة الصحيحة، ومن أخذ طريقةً ثمّ تركها يكون إذن تاركاً لطاعةٍ قد تعهّد بالتزامها، وبايع الشيخَ على الطاعة لله ورسوله، وشخصٌ مثله يكون قد نقض ما عاهد الله عليه على يد الشيخ، وهو لم يوفّ بعهده، فهو إذن عاصٍ، وعليه أن يتوب توبةً خالصةً، وكلّ هذا ليس خاصّاً بالطريقة التجانية، وإنّما هو عامٌّ بالنسبة لكلّ الطرق الصوفية؛ وأكبر دليلٍ على ما يقوم التجانيون به تجاهَ وحدة الأمة الإسلامية وربط نسيجها هو تلك المساجد والزوايا والكتاتيب التي قاموا بتأسيسها سواء داخل المجتمعات التي تنتشر فيها طريقتهم وخارجها، والتي يجتمع فيها المسلمون لتفقّد أحوالهم وحلّ خلافاتهم ومشكلاتهم التي تنشب بينهم.
وما أكثر التعاليم التي وضعها الشيخ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه في الحثّ على وحدة المسلمين، وها هي كتبهم مليئة بذلك لمن أراد أن يستفيد منها. ويكفي الطريقة التجانية فخراً وقوفُها ضدّ الحركة القاديانيّة التي تغلغلت إلى صفوف المسلمين ومقاومتها للتبشير والتنصير
إسهام التجانيين في نشر الفكر الإسلامي
يعلم المجتمع العالميّ أنّ للصوفية الفضلَ العظيمَ في نشر الدعوة الإسلامية في كثير من البلدان الإفريقية والآسيوية، وذلك بالمرابطة في سبيل الله تعالى، وبذل الأنفس رخيصةً في سبيل وحدة المسلمين .
والتجانية صاحبت المواقفَ الصعبةَ في تاريخ التصوّف الإسلاميّ، وخير شاهدٍ على ذلك أنّ الأكثريّة المسيحية في العالم الأوروبي والأمريكي يعتنقون الإسلامَ على أيدي رجال التصوّف، ومنهم التجانيون.
لقد أدّى علماء الطريقةِ الأجِلاّء دوراً هامّاً في نشر الإسلام ودعمه؛ وذلك عن طريق الوعظ والإرشاد، وبناء المراكز الدينية والمساجد والزوايا، ومن أبرز علماء الطريقة وخلفائها الذين ساهموا في هذا المجال، نذكر: العارف بالله الربّاني والحكيم الصمداني، الشريف النوري، سيدي الحاج عمر حفيد القطب الأكبر شيخنا سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه، فقد قام برحلةٍ واسعة النطاقِ استغرقتْ ثلاثَ سنواتٍ مبتدئاً من غربِ إفريقيا وجنوبها إلى الشرق الأوسط، داعياً وواعظاً ومرشداً، فقد اعتنق الإسلام بفضل الله على يديه الآلاف من الملوك والوثنيين، ودخل في الطريقة التجانية الملوك والسلاطين والعلماء الأعلام.
وقام من بعده بجولةٍ كبرى في الأقطار الإفريقية إلى الشرق الأوسط سيدي محمّد الصغير حفيد القطب سيدي الحاج علي التماسيني، الشريف الحسني، رضي الله عنه؛ لنشر الدعوة الإسلامية، واعتنق الإسلام على يديه خلقٌ كثيرٌ، كما أخذ الطريقة على يديه عدد كبير. ويمكن أن نجمل مساهمات التجانيين في الفكر الإسلامي فيما يلي:
1- نشر الإسلام: لعب التجانيون دوراً عظيماً في نشر الإسلام ومبادئه وثقافته بعد عهد الصحابة والتابعين، وكان لهم نشاطٌ ميمون في الدعوة إلى الله تعالى، وذلك أنهم يدعون الناس إلى دين الله بالقدوة الطيبة والأسوة الحسنة، ومما سهّل لهم عملية الدعوة وانخراط العامّة في صفوفهم اعتناؤُهم بالجوانب الروحية والأخلاقية والوجدانية والاجتماعية، وهذه مطلب كلِّ مسلمٍ، وكذلك من العوامل التي سهلّت لهم نشر الدعوة والدين وضوحُ العقيدة وتبسيط العلومِ على حسب المقدُرات الخاصّة بالأفرادِ، فكبار الحفّاظ والقرّاء والأدباء في البلاد الإسلامية من الصوفية ولا سيما التجانيين.
ومن النماذج المرموقة في ميدان الدعوة الإسلامية الشريف سيدي الحاج بن عمر رضي الله عنه، فقد قام برحلةٍ واسعةٍ في البلاد استغرقتْ سنواتٍ للدعوة إلى دين الله تعالى.
2– المؤلفات: يعدّ التجانيون في طليعة العلماء الذين أخذوا من كلّ فنٍّ بحظٍّ وافرٍ، ويشهد التاريخ بمؤلفات لهم كثيرة في مختلف فروعِ المعارف الإسلامية، كعلم الفقه والتفسير والسيرة واللغة والأدب والميراث والمصطلح وفقه الطريقة، فمعظم هذه المؤلفات مطبوعةٌ، وبعضها لا تزال مخطوطة. وما تمسّك الطريقة بالجانب الروحيّ إلاّ لأنها سهّلت الطريق للعلماء في حفظ دستور الأمّة باللسان والقلم، وحثّت على خدمة الأمة تعليماً وتثقيفاً.
3- محاربة الاستعمار والمستعمرين: حارب رجال الطريقة من الأفارقة الاستعمار بهدي الشيخ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه، وسقط على أيدي الكثير منهم دعاةُ التبشير من المسيحيين.
4- الجهاد : لعب التجانيون دوراً كبيراً في محاربة الوثنيين وإعلان الجهاد ضدّهم بقيادة الشيخ سيدي الحاج عمر الفوتي الذي كوّن جيشاً حارب به الوثنيين وهزمهم شرّ هزيمةٍ، وأقام للتجانية سلطةً عظيمةً وسطَ بلاد الزنوج، ثمّ جاء بعده مَن عمل على توسيع دائرة فتوحاته، ومقاومة الاستعمار الفرنسيّ، حتى صار وجود هذه السلطة التجانية وسط بلاد السودان خطراً عظيماً على الاستعمار.
وقد أشار بعض المؤرّخين إلى أنّ إفريقيا كادتْ تكون كلّها دولةً إسلاميةً لولا قضاء فرنسا على سلطة التجانية، كما أنّ أوروبا كادت تكون كلها بلادا إسلامية لولا انتصار شارلْ هارتِل على العرب في موقعة بُواَتيه.
5- بناء المدارس والمعاهد الدينية والزوايا: قامت الطريقة التجانية بإسهامات كبيرة في مجال التعليم والتربية، فأنشأ رجالها معاهد دينية قوامها الطريق إلى الله تعالى، كما أسسوا الآلاف من الزوايا المعمورة بأداء الصلوات ومجالس الذكر وقراءة القرآن، فهي حافلة بإقامة الشعائر الدينية، ولا تعرف الكلل ولا الملل، يتجنّد في هذه المساجد والزوايا الأئمة والمؤذّنون والعلماء مجاناً لعمارتها ليلاً ونهاراً بالعلم والهدى والمعرفة، ومن ضمن تلك المؤسسات التعليمية والمعاهد الدينية في شتى بلاد إفريقيا ما كانت في موريتانيا وتشاد ونيجريا والسنغال وغانا ومالي وبوركينا فاسو وغينيا وسيراليون وساحل العاج وغيرها من البلاد؛ فقلّما تجد خليفة أو مقدّما منتسباً إلى حضرة الشيخ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه إلاّ وقد أسّس مدرسةً لتعليم أبناء المسلمين المبادئ الإسلامية واللغة العربية، كما كانت بعض هذه المعاهد تدرّس إلى جانب اللغة العربية والعلوم الإسلامية بعض اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية.
6- المؤتمرات والندوات العلمية: يسهم التجانيون في عقد العديد من المؤتمرات والندوات العلمية في شتى أنحاء العالم الإسلامي، وذلك للمشاركة في إلقاء المحاضرات ومناقشة الشؤون والقضايا الدينية. وخدمةً لسير عملية الدعوة الإسلامية يتكفل كل من المؤتمرين بتطبيق ما تمّ التوصّل إليه من توصيات خلال هذه المؤتمرات في أوطانهم وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة.
7- الإصلاح: يؤدّي التجانيون دوراً لا يستهان به في مجال إصلاح المجتمعات، بتزويد الأفراد والجماعات بالأفكار الإسلامية السديدة والمفيدة، فيسعون في إصلاح ذات البين، والتحذير من التحاسد والتباغض بين المسلمين، وحضّ الناس على التحابب والتوادِّ والتزاور واحترام المقدسات، والسعي إلى التعاون مع أفراد المجتمع وقضاء حوائج الناس؛ وذلك لاحترام الطريقة للقواعد الدينية والمبادئ الشرعية ووضعها أمام الناس بصورة طيبة وحسنة، ومنهجها في ذلك القدوة والأسوة الحسنة، و هذا المنهج سهلّ للطريقة الانتشار الواسع في إفريقيا وجنوب الصحراء.
الخاتمة والنتائج:
1- المنهج الصوفيّ منهجٌ أخلاقيّ قويمٌ قواعده أُرسِيت على العمل بالكتاب والسنة، يقول صاحب الطريقة التجانية: “إذا بلغكم عنّي شيءٌ فزنوه بميزان الشرعِ، فإن وافق فاعملوا به وإن خالفَ فاترُكوه”.
2- صلاحيّة منهج التصوّف السنيّ في تحقيق الوحدة بين مختلف شرائح المجتمع والعمل على غرس بذورِ المحبة والتوادد والإخاء بين المسلمين في البلاد.
3- الشغل الشاغل للدعاة الصوفية هو نشر الهدى والتزكية، وإعادة روحانيّة الدين الإسلاميّ إليه والعودة بالمسلمين إلى ظلال دوحة الأنس بالله تعالى ونعيم مناجاته.
4- دعاة التصوف من التجانيين وغيرهم كان لهم الفضلُ في نشر الإسلام وإرساء تعاليمه في البلاد الإفريقية، وساهموا في تشييد المدارس الدينية والمعاهد التعليمية في مختلف المدن الإفريقية.
5- إسهام الدعاة التجانيين في الجهاد ومحاربة الاستعمار ووقوفهم أمام المدّ المسيحي في إفريقيا كالطود الشامخ منعاً من انتشاره. نموذج على ذلك ومقاومة الشيخ عمر الفوتي للاستعمار الفرنسي ومحاربة الوثنيين، أنموذج كبير على ذلك.
6- إغناء دعاة الطريقة الفكر الإسلامي في شتّى ميادين العلم والمعرفة، بالمؤلفات وعبر المساجد والزوايا.
7- لدعاة الطريقة الفضل في نشر اللغة العربية وتنظيم مجالس الذكر، مع إذكاء الجانب الروحيّ لدى المواطن المسلم.
وفي الختام أقول: من خلال ما استعرضنا ندرك الصلة الروحية والعلاقة الدينية الوطيدة بين بلاد المغرب الأقصى وبلاد ما وراء الصحراء الكبرى وسائر دول إفريقيا منذ عصر بعيدٍ، وندرك جازمين ما أدّاه المغاربة من أدوار جبارة في إيصال الإسلام ونشره في إفريقيا عبر الصحراء الكبرى، فمن المغرب وصلت إلينا الطريقة التجانية من خلال موريتانيا على يد الشيخ محمد الحافظ بن مختار الشنقيطي (ت:1830م)، ومن موريتانيا دخلت التجانية السنغال ومالي وغيرهما من بلدان غرب إفريقيا جنوب الصحراء، ثمّ واصلت طريقها إلى بقية بلدان إفريقيا، وتلزمنا أمانة التاريخ أن ننوّه بالجهود الجبارة التي أدّاها الشيخ الحاج عمر الفوتي (ت:1864م) في تجسيد الدولة الإسلامية في كلٍّ من بلاد منطقة الفوتا على ضفاف نهر السنغال.
أدام الله تعالى لبلاد المغرب أمنها وأمانها واستقرارها وسائر بلاد المسلمين، وردّ الأمة جمعاً إلى هدي نبيّها المصطفى صلى الله عليه وسلم، وشكراً للجميع على حسن الاستماع.
(1) – الدرّ المختار، ج 1/ ص 43، وعليه حاشية ابن عابدين.
(2) – ج 5/ ص 408، وانظر في كتابه عين العلم وزين الحلم، ج1/ ص44، ونقلها كذلك العلامة العدوي على شرح الإمام أبي الحسن في الفقه المالكي، ج2/ ص195.
(3) – كشف الخفاء ومزيل الإلباس في ما اشتهر من الأحاديث عن ألسنة الناس، للعجلوني، ج! / ص341.
(4) – غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، ج1/ ص120.
(5) – الشمس: ٧ – ١٠
(6) – الحجرات ، الآية: 13.
(7) آل عمران، الآية: ١٠٣
[wpdevart_youtube]izTh_ZyZsw4[/wpdevart_youtube]