مداخلة الدكتور مولاي هشام الإدريسي بعنوان: ” إضاءات حول الإسهامات العلمية والتربوية والصوفية للزاوية البصيرية”
الدكتور مولاي هشام الإدريسي
أستاذ العلوم السياسية وحقوق الإنسان/جامعة محمد الخامس الرباط
أشرف اليوم للمرة الثانية بالحضور إلى فعاليات هذه الندوة الدولية، التي تنظمها الزاوية البصيرية بمناسبة مرور 100 سنة على وجود الزاوية بمنطقة بني اعياط.
لقد اخترت في هذه المناسبة الشريفة موضوعا لتسليط الضوء على جزء من الجهود والمبادرات الجليلة التي تقوم بها الزاوية البصيرية إسهاما منها في تحقيق التنمية الشاملة، وعنونت الموضوع بـ : “إضاءات حول المساهمة العلمية والتربوية والصوفية للزاوية البصيرية”.
تعتبر الزوايا المغربية مؤسسة دينية وعلمية واجتماعية، تبلورت أنشطتها وخصوصياتها بدءا من القرن الثامن الميلادي إلى اليوم، فتوسع نشاطها وتجدر داخل المجتمع المغربي، مما جعلها تساهم في مختلف اهتماماته المادية والمعنوية، بل والتعبير عنها بكل صدق وموضوعية.
ولاشك أن من أهم تلك المهام وأنبلها، ما قامت به الزاوية المغربية من دعم وترسيخ للثقافة الإسلامية الصحيحة والأصيلة، سواء تعلق الأمر بالمعتقدات أو الفقهيات أو التربية الصوفية. ذلك أنها في كل تلك المهام، ظلت تستمد أصولها ومنابعها من الكتاب والسنة والسلف الصالح.
انطلاقا من هاته الأهمية التي مثلتها الزاوية المغربية، كان لا بد أن تجد اهتماما خاصا ومتزايدا من الباحثين والمهتمين بتاريخ الفكر الإسلامي ومؤسساته، وهذا ما ظهر فعلا من خلال كتابات المستشرقين ورواد المدرسة التاريخية، فاعتبروا الزاوية المغربية مؤسسة دينية واجتماعية متكاملة، تتميز بالتجدر داخل المجتمع المغربي، وأن لها إمكانيات خارقة في التأطير والتعبئة.
لقد أجمع الباحثون في مجال التاريخ على أن مفهوم الزاوية ارتبط أساسا بالمغرب الأقصى، واتخذ بعدين: بعد جغرافي وبعد ديني، ويتجسد البعد الجغرافي في المكان، والبعد الديني تمثله الوظيفة أو المهام التي تتولاها الزاوية.
وإذا كان البعد الجغرافي قد خضع تاريخيا للتطور؛ من مكان العبادة(المسجد) إلى مجال جغرافي أوسع كالقبيلة أو القرية، فإن الوظيفة نفسها خضعت هي الأخرى لتطورات متعددة ؛ بدأ مما هو اجتماعي (الإطعام والإيواء) إلى ما هو ديني (تعليم الدين والعبادة على الطريقة) إلى ما هو سياسي الجهاد والاستقرار.
بناء على هذا ،فقد كان للزاويةالبصيرية على الخصوص اشعاع متعدد الأبعاد والأوجه. متعدد الأبعاد من خلال حضورها المتعدد الصور جغرافيا وتاريخيا وسياسيا ودينيا واقتصاديا وإنسانيا، ومتعدد الأوجه من خلال اهتمامها بقضايا مختلفة دون حصر او عد.
وتتجلى صورة الإشعاع الجغرافي للزاوية من خلال تنقلها عبر التراب المغربي لما يقارب 250 سنة من الجنوب الصحراوي إلى الجنوب السوسي، وصولا إلى منطقة بني اعياط التي تتواجد بها اليوم بفضل هذا الإشعاع الجغرافي، وهي المنطقة الصغيرة والنائية التي بدأ يحج إليها الآلاف من الزوار والضيوف يوميا وسنويا من كل مكان بفضل هذه الزاوية الشريفة، التي تتواجد بأرض شاسعة خلو من البنيات السياحية والاقتصادية والصناعية، ما كان أحد ليقصدها ويشد الرحلة إليها لولا مؤهلاتها الدينية المجسدة في الزاوية التي صيَّرت المنطقة وجهة تضاهي كبريات المدن من حيث السياح والزوار، وقد سألت العاملين بالفندق الذي نزلت به عن مستوى السياحة بالمنطقة فاكدوا لي ان الفندق ينشط بفضل نشاطات الزاوية.
غير ان هذا الإشعاع الجغرافي لم يقتصر على حدود تراب هذا المكان وهذه المنطقة وهذه الأمكنة الثلاثة، بل تعداها إلى رحاب أوسع على امتداد التراب الوطني من جهة، وتجاوز ذلك إلى افريقيا وأسيا وأوربا، ولعل حضور مشاركين في كل ندوات الزاوية من آسيا وإفريقيا وأوربا لخير دليل على هذا الاشعاع الجغرافي والحضاري.
ويرتبط بالبعد الجغرافي بعد تاريخي له دلالات متعددة وقراءات متباينة، فالزاوية لها بصمة تاريخية تقارب أحيانا ولادة دول، بل تتجاوز دولا ومجتمعات حديثة النشأة، فالزاوية تحتفي اليوم بمرور 100 سنة على وجودها بمنطقة بني اعياط، وبمرور 250 سنة على تواجدها بالمغرب، وأنتم تعلمون أن عنصر التاريخ يعتبر أهم عناصر قياس قوة وحضارة الأمم والدول، وعامل قوي على استقرارها، وخلال هذه الفترة الزمنية الطويلة الممتدة على قرنين من الزمن ساهمت الزاوية في نشر الإسلام وقيمه، وساهمت في استقلال المغرب واستقراه ووحدته عبر تاريخ وجودها.
أما البعد الاقتصادي فيتمثل في تحقيق تنمية بشرية ونشاط اقتصادي بالمنطقة ورواج سياحي جد مهم.
ويتمثل البعد السياسي للزاوية البصيرية فيما مثلته الوظائف المؤسسة للزاوية المغربية بصفة عامة، حيث انتهت الزاوية البصيرية عبر تجربتها ووجودها التاريخي إلى أن تصبح على غرار جلِّ الزوايا الأخرى، مكونا ضروريا في توازن المجتمع المحلي والجهوي، فجمعت بين ما يتطلبه الناس من أمان وحاجيات عيش وتربية علمية ودينية، وما تنشده السلطة السياسية من استقرار سياسي واجتماعي.
فالزاوية سعت وتسعى دائما إلى إضفاء المشروعية على إمارة المؤمنين والمؤسسة الملكية، ولتجعل من مهامها الأساسية الحفاظ على النظام العام والاستقرار ومواجهة كل التيارات التي تروم المساس بهذا التعايش الاجتماعي والاستقرار السياسي.
كما يتمثل هذا الجانب السياسي أيضا في ربط المغرب بجدوره الإفريقية، حيث قامت الزاوية بأدوار طلائعية على مستوى العلاقات الدولية جنوب جنوب بين المغرب وإفريقيا، فعندما زار الملك محمد دول جنوب الساحل والصحراء لمس عن قرب هذا الإشعاع والحضور المغربي في هذه الدول عبر جهود الزوايا المغربية، خاصة أن المغرب كان هو بوابة نشر الإسلام والمذهب المالكي في إفريقيا، وبالتالي كانت الزوايا هي صلة وصل واتصال دائم بين المغرب وهذه البلدان.
كما كان للزواية حضور في علاقة الجنوب بالشمال من خلال علاقة المغرب بأوروبا وبجاليته و برجالات الدين بهذه القارة، أو شرق غرب المتمثلة في علاقة المغرب بالمشرق العربي و بدول شرق آسيا. وهذا الحضور الجغرافي السياسي الدولي للزاوية هو الذي ساهم في تقريب العلاقات المغربية مع هذه الدول وفي دعمها للقضايا المغربية ولوحدته الترابية.
أما الجانب الإنساني فيتمثل في نشر التعليم والتربية على قيم الإسلام والقيم الصوفية، ويشمل ذلك المغاربة كما يشمل الأجانب، ويوجد لدى الزاوية اليوم حوالى أربع مئة طالب منهم مئة وخمسة وعشرون من أصول إفريقية مقيمين بالزاوية، حيث توفر لهم الإقامة والتغذية والتعليم والتربية، ويشتمل البرنامج التعليمي على حفظ القرآن الكريم والتربية على القيم الدينية وأخلاق الصوفية.
أما في البعد الديني السياسي فقد ساهمت الزاوية بالأساس في توحيد المغاربة على المذهب المالكي، و نشرت قيم الإسلام السمح المعتدل مما كان له عظيم الأثر في نبذ أفكار التطرف والإرهاب. حيث تجسد الزاوية المغربية، بذلك من خلال وظائفها المتعددة، حقيقة الإسلام ورسالته الشاملة، التي لم تجعل فاصلا بين الاهتمامات الدنيوية والأخروية، بل إن الأولى فعلا مزرعة للأخرى.
فرجل الزاوية داعية للإسلام ومفقه للناس في أمور دينهم ودنياهم، وفي الوقت نفسه الوصي على مصالح المسلمين، والعامل على صيانتها والذود عنها، وعند الضرورة يحث صفوف المسلمين للتضحية بالنفس والنفيس ضد الأخطار المحدقة، وهذا ما قامت به الزاوية البصيرية خلال فترة الاحتلال وإلى يومنا على غرار باقي الزوايا بالمغرب، أمام ما تشهده الدول الأخرى من تطاحن وتضارب طائفي تسبَّب في ظهور دول إرهابيةدموية.
أما فيما يخص الوظيفة والمهام التي تتمثل في الإشعاع العلمي والتربوي للزاوية، فنجده يتوزع على عدة قضايا مختلفة، فالزاوية قبل كل شيء هي مدرسة دينية تربوية، تساهم في تكريس التعليم ومحو الأمية والتربية على الأخلاق والصوفية والقيم الإسلامية، يتخرج منها سنويا الحفاظ والمرشدون الدينيون من المغاربة أبناء المنطقة خصوصا وباقي مناطق البلاد عموما، مثلما يتخرج منها الأجانب الوافدون من إفريقيا وغيرهم من بعض دول أوربا.
كما أن الزاوية تنظم كل عام عدة لقاءات وندوات علمية دولية ووطنية لمناقشة قضايا العصر والمجتمع والدين، وهنا نجد الزاوية البصيرية ما فتئت تعالج موضوعات تهم العصر وتناقش كل الإشكالات التي تحيط به.
من ثم تناولت الزاوية البصيرية قضايا السياسة والدين والمجتمع وحقوق الإنسان من قبيل التطرف والإرهاب والأسباب المؤدية إليه والحلول التي يجب اتباعها للخروج من هذه المعضلة التي أربكت اليوم المنتظم الدولي وخلقت هلعا في المجامعات المحلية.
كما ناقشت الزاوية قضية إمارة المؤمنين ومساهمة هذه المؤسسة الدينية في استقرار المغرب وحفاظه على وحدته وتعاظم شأنه، ودورها أيضا في تحقيق التقارب بين المغرب وجذوره الإفريقية والعربية والإسلامية.
ومن الإسهامات العلمية الاقتصادية للزاوية تناولها لقضايا التنمية البشرية، فإلى جانب مساهمتها اليومية من الناحية العملية والواقعية في محو الأمية ونشر المعرفة والتعليم، فقد ناقشت فكريا إشكالية التنمية وكيف ستساهم الزوايا في إنجاح هذه المبادرة الملكية التي لها إشعاع وطني ودولي.
أيضا اتسع مجال الإسهامات العلمية للزاوية ليشمل قضايا حقوق الإنسان، وهي الزاوية التي أسهمت فعليا في مكافحة جريمة الاختطاف القسري، وناقشت علاقة التصوف في التربية على حقوق الإنسان ونشرها و نظمت عدة ندوات خاصة بهذا الموضوع، لقد وفرت إرثا علميا تربويا زاخرا يكمل ويغني هذا الإرث الديني الصوفي.
وانطلاقا من الملاحظة التي أثارها السيد عبد الهادي بصير رئيس هذه الجلسة الكريمة حول دعوته للطلاب الأجانب للدراسة بالمغرب، أريد أن أوجه نظر الزاوية إلى أن تعمل مع وزارة التعليم العالي ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على تبسيط مساطر تسجيل هؤلاء الطلبة الوافدين من دول إفريقيا وآسيا، وصرف منح لهم تشجعهم على الوفود إلى المغرب واختيار الجامعات المغربية، سيما أن المغرب يشكل وطنا فريدا وبلدا آمنا لديه كل الإمكانات والوسائل التعليمية والتربوية والكفايات العلمية لإنجاح هذه المبادرة الكريمة، بالنظر لما تعيشه دول أخرى من أزمات سياسية وصراعات لا تشجع على الدراسة بها.