مداخلة الدكتور عادل الحرازي بعنوان: ” الفراغ الروحي والضعف الإيماني لدى الأفراد والمجتمعات وضرورة التزكية”
فضلية الشيخ الداعية إسماعيل بصير وإخوانه الأحبة الفضلاء
سعادة عامل صاحب الجلالة على إقليم الفقيه بن صالح
وزير الشؤون الدينة بدولة باكستان
السادة الحضور، كل واحد باسمه ومكانته المحترمة، أحيّيكم بتحية الإسلام ، وتحية أهل الجنة، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في هذه اللحظات المتأخرة من الليل، أحاول أن أوجز مداخلتي، وهي بعنوان:
“الفراغ الروحي والضعف الإيماني لدى الأفراد والمجتمعات وضرورة التزكية”
قد جعل ربنا تبارك وتعالى التزكية ركنًا من أركان البعثة ، فقال عز وجل:
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
وقَدَرُنا أن نوجد في هذا العصر ، العصر المادي، الذي ابتلي فيه جمع غفير من الأفراد والأسر والمجتمعات بالضعف الإيماني الشديد والفراغ الروحي، وهو مشكلة لا مثيل لها، باعتبار الروح سر الوجود، مشكلة تولّدت عنها جميع الأمراض الأخلاقية والسلوكية والاجتماعية الخطيرة ، والفساد الذي نشاهده في المجتمع سببه فساد النفوس، فسدت النفوس ففسد هذا الواقع، وما لم تصلح النفوس، وتربط القلوب بعلام الغيوب ، فلا يؤمّل ولا يرجى صلاح الواقع.
ومن أسباب هذا الفراغ فيضان بحر الفتن، الذي خرج من بوّابة الحضارة الغربية، تلك الحضارة التي نقدّر أنها خدمت البشـرية في جوانب خدمية متنوعة، تشكر عليها ولا تنكر، ولكنها تقدِّس المادة، وتعبد الشهوات، وتعولم الرذيلة، وتجعل عقول الشباب تصبح وتمسي وهي مشتعلة بنار الشوق لإشباع الشهوات بكل صنوفها.
ولذلك ظهر جليًّا التدهور العجيب في الأخلاق والسلوكات، حتى صارت السمة البارزة لهذا العصر هي سمة طغيان المادة على الروح، والتقليل من شأن القيم والأخلاق، وتغلّبت لغة المصالح، حتى ضعف وفقد التعاطف والتراحم، لأن الكل أو المعظم يبحث عن مصلحته وتحقيق رغبته.
في مثل هذه الظروف والأوضاع الحرجة التي تمر بها الأمة الإسلامية، كان لابد من تضافر جهود العلماء الربانيين والدعاة الصادقين المخلصين، الذين لا يخلو منهم عصر، وإن كانوا قلة قليلة، لكن لم تخل الأرض من قائم لله بحجة، كان لابد من التعاون لملء هذا الفراغ الروحي، ومعالجة ظاهرة الضعف الإيماني، ولا يمكن أن تتحقق معالجة الضعف الإيماني والفراغ الروحي إلا بتحقيق التزكية الربانية القرآنية المحمدية على صاحبها أزكى الصلاة والسلام.
إن القيام بهذا العمل ليس نافلة أو سنة أو طوعاً، بل هو فرض الساعة، وهو واجب محتّم، سيسألنا رب العالمين، هل قمنا بهذا الواجب أم ضيعناه، كما أن القيام بفريضة التزكية وتحقيقها ونشرها بين الأمة صمّام أمان للحيلولة دون العقوبة الجماعية، كما قال ربنا تبارك وتعالى: [وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] هود:117
تصوروا يا إخواني ، إذا كنا نهتم بعلاج أجسامنا، ونقوم بفحصها دورياً من الأمراض العضوية والمعدية – عافانا الله وإياكم –، مع أن نهاية هذه الأجساد إلى التراب، ولكننا نهتم بها غاية الاهتمام، ولذلك أسست المستشفيات والمراكز الطبية في كل البلدان، وتم توجيه وتشجيع أجيال من أبناء المجتمع لدراسة علوم الطب بجميع شعبه وأنواعه،
كل هذا الاهتمام لأجل عافية الأجسام، ولكن القلوب والنفوس في هذا العصر المليء بالفتن والمغريات والشهوات، في أمسّ الحاجة لوجود أطباء القلوب من العلماء الربانيين والدعاة الصادقين المخلصين، الذين تتزكى النفوس وتتنوّر القلوب بسماع مواعظهم الدينية وخواطرهم الإيمانية.
ولنعلم أن علاج الفراغ الروحي والضعف الإيماني لا يكفي فيه أبداً خطبة جمعة، ولا يتأتى بموعظة مختصـرة أو خاطرة قصيرة فقط، بل لابد من إعداد خطة تزكية عصرية شاملة كاملة تنطلق إلى المجتمع بجميع شرائحه بلا استثناء، بعد دراستها ومعرفتها للواقع المعاصر، وتشمل المنهج العلمي والعملي، لتقدم للأمة والأجيال أطباء القلوب وصيادلة النفوس، فيعالجون هذا الفراغ الروحي الكبير، وهذا الضعف الإيماني، وهذه الخطة العصرية الشاملة الكاملة ينبغي أن تطبق في المدارس والجامعات، وتنشـر في قنوات الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي .
وهذه الأوضاع التي نعيشها، هي أوضاع مستجدة، والعقليات التي نراها في أجيالنا في المدارس وشبابنا في الجامعات هي عقليات عصرية متفتحة، وهذه العقليات تحتم علينا، وتحتم بالأخص على شيوخ الطرق الصوفية وجود مراجعات صادقة للتمييز بين ما هو من لب لباب التزكية والإحسان والتصوف و مقامات العارفين بالله رب العالمين، وبين ما هو من شكليات وطقوس ورسوم صوفية، وما دخل في التصوف من شطحات وكلمات تعارض أصول الشريعة والمذاهب الفقهية، وكما قال أبو بكر الكتاني: «التصوف كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق، فقد زاد عليك بالتصوف» ، حتى لا ننفر الأجيال المثقفة، ولا ننفر شباب المدارس والجامعات، من روح التزكية والتصوف، وكذلك لابد من تأهيل من نرجو أن يكون من أطباء القلوب، نؤهله بدراسة المنهج الشرعي كاملاً لكي يكون كما يوصف من محققي الصوفية، وفقهاء الصوفية، ومحدثي الصوفية، مع العناية بأمهات كتب التزكية المعتمدة، كالرسالة للقشيري، والإحياء للغزالي، وكذلك العناية بكتب مؤصّل علم التزكية للإمام المحدث الفقيه المتفنن زرّوق عليه رحمة الل ، وأستحسن من خلال تجربة بسيطة أن يقرر أو يعتنى بكتاب العلامة الذي عرف في العالم الإسلامي بربانيته وحكمته ووسطيته، وهو سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى، وله كتاب قيم نفيس بعنوان «ربانية لا رهبانية»، وهذا الكتاب يخاطب القلب ويقنع العقل، وتستطيعون أن تسموا هذا الكتاب ” بوّابة التصوف بلغة العصر”
ويحضرني في هذا المقال – أحبتي وإخواني في الله – دور بعض المصلحين حين رأى شيئاً من دخول بعض الخرافات والخزعبلات والشطحات الصوفية في لب حقيقة التزكية والتصوف، فأراد أن يبين حقيقة التصوف ، وهو أبو القاسم الصقلي الأندلسي من القرن الخامس الهجري ، فقال: “ليس التصوف لبس الصوف ترقعه، ولا بكاؤك إن غنّى المغنّون، ولا صراخ، ولا رقص، ولا طرب، ولا تغاش كأن قد صرت مجنوناً، بل التصوف أن تصفو بلا كدر، وتتبع الحق والقرآن والدينا، وأن تُرى خائفاً لله، ذا ندم على ذنوبك طول الدهر محزوناً”
ورحم الله شاعر الإسلام، الشاعر الباكستاني، فيلسوف الشرق، الدكتور محمد إقبال حين قال: “أرى التفكير أدركه خمول ولم تبق العزائم في اشتعال، وأصبح وعظكم من غير سحر ،ولا نور يطلّ من المقال، وبين الناس فلسفة ووعظ، ولكن أين تلقين الغزالي؟ منابركم علت في كل ساحٍ، ومسجدكم من العبّاد خالي، وجلجلة الأذان بكل حيٍّ، ولكن أين صوت من بلال؟”
أنتم تعظون، ولكن أين وعظكم من وعظ عبد القادر الجيلاني؟ أين وعظكم من وعظ الحسن البصري ؟ أين وعظكم من المواعظ التي كانت تهز القلوب، وترعش النفوس؟
لذلك – إخوتي وأحبتي في الله – أؤكد على أن الخدمة التي نقدمها لأنفسنا ومجتمعاتنا تتمثل في أننا نتحقق بحقيقة التزكية، فحقيقة التزكية لا ينكرها مسلم، لأنها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومن أنكر حقيقة التزكية، فقد أنكر حقيقة الإيمان والتقوى وسائر مقامات السائرين إلى رب العالمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يحققنا وإياكم بحقيقة التزكية وحقيقة الإحسان، وأن يجعلنا وإياكم دعاة إلى الله وإلى رسوله، مبشرين ومنذرين.
وأشكركم على هذه الاستضافة، وأسأل الله تعالى أن يجمعنا وإياكم على الخير أبداً