مداخلة الدكتور رشيد مقتدر حول موضوع: الحركات الإسلامية الداعية للعنف(الجهادية): محاولة لفهم عناصر التمدد والانتشار

الحركات الإسلامية الداعية للعنف “الجهادية”: محاولة لفهم عناصر التمدد والانتشار

الدكتور رشيد مقتدر: أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة الحسن الثاني،

كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية عين الشق- الدار البيضاء

مقدمة

يحظى موضوع الحركات الإسلامية الداعية للعنف(الجهادية) باهتمام سياسي وإعلامي وطني ودولي، بحكم التمدد المفاجئ والانشار الغير المسبوق في أسلوب عمل هذه الجماعات خاصة مند سنة 2014، وطريقتها في الفعل والتعبئة والمواجهة وتمكنها من بلورة إيديولوجيا عابرة للحدود والقارات، متجاوزة بذلك للبعد العربي الإسلامي لتتمكن من استقطاب فضلا على الشباب العربي والمسلم، شباب أوربي وأمريكي وتجنيده ضد أبناء جلدته، وهي ظاهرة جديدة أضحت محط اهتمام عالمي، وتستلزم مجهودات علمية لتفكيكها وفهمها والإحاطة بمختلف عناصرها؛

بداية من الضروري بسط المسلمة الآتية: لا يرتبط التطرف بالإسلام فقط كديانة سماوية توحيدية -وهو ما تحاول بعض القوى العالمية ووسائل الإعلام الموالية لها نشره وإقناع الآخرين به- بل يتعلق الأمر بتأويلات ايديولوجية وقراءات سياسية دينية بشرية للنص الديني يصطلح عليها في العلوم الاجتماعية بالايديولوجيا، فالتطرف والعنف لا دين ولا جنس و لون له، فهو متواجد من القدم في الفكر المسيحي والفكر اليهودي القديم والمعاصر (الإيديولوجية الصهيونية)، وله في حضور في الفكر الاشتراكي الفوضوي، في الإيديولوجيات الماركسية والايديولوجيات اللبرالية والإيديولوجيات الشمولية (الفاشية والنازية)، متواجد عند الحركات العلمانية الراديكالية وكذلك عند الجماعات الإسلامية المشتددة (التكفيرية والداعية للعنف)؛

  1. I. الحركات الإسلامية الداعية للعنف (الجهادية): إشكالية تحديد المفهوم وتعريفه

الإشكال الأولي الذي يواجهنا لاستجلاء هذا الموضوع، هو تعدد المفاهيم والمصطلحات التي يمكن أن توصف به هذه الظاهرة وتباين مسمياتها، ولكي نتقيد بالمنهج العلمي ولا ننساق وراء مصطلحات ومفاهيم ذات دلالات ايديولوجية أو حمولات سياسية أو ذات بعد إعلامي وهي الأكثر تأثيرا؛

وتعكس هذه القضية أيضا التأثير المتنامي لوسائل الاعلام وصناعتها لمصطلحات ومفاهيم، وإن كانت تقتضيها الحاجة الملحة لمواكبة الأحداث والأخبار ومستجداتها وراهنيتها، فإن ما يثير الاستفهام هو التسرع في اعتمادها من لدن بعض الباحثين دون تمحيص أو تدقيق، ويفضي كثرة استعمالها إلى اكتسابها نوعا من الذيوع والانتشار الذي يزودها ببعض من الشرعية(الوهمية)، ومن بين الأمثلة المرتبطة بموضوعنا، مصطلح السلفية الجهادية والحركات الجهادية وغيرها على سبيل المثال، وهو ما يؤثر على بعض الباحثين في العلوم الاجتماعية الذين يواكبون هذا الواقع، دون حذر منهجي وحيطة علمية، الشيء الذي يعد من التحديات المنهجية التي تواجه كل باحث يرمي لتناول ظاهرة العنف السياسي لدى الجماعات المتشددة بالرصد والتحليل والمعالجة؛

تتعدد مسميات هذه الظاهرة، فهناك الحركات الجهادية، التنظيمات الجهادية، الجماعات الإسلامية المسلحة، الحركات السلفية الجهادية، الحركات الإسلامية المتشددة، الحركات القتالية… ويبقى المفهوم الذي نفضل استعماله، الحركات الإسلامية الداعية للعنف مضاف إليها بين هلالين “الحركات الجهادية” موفقين بذلك بين توخي الحذر العلمي في وضع المفاهيم والمقولات المعتمدة، وتدعيمها بمفاهيم متدوالة إعلاميا قريبة من الرأي العام على أساس تحديد المقصود منها؛

ونقصد الحركات الإسلامية الداعية للعنف “الحركات الجهادية”، الجماعات الإسلامية -سواء كانت حركية أو سلفية- الداعية للعنف السياسي خارج حدود سلطة الدولة،[1] وفقا لتأويل سياسي ديني راديكالي للنصوص الشرعية من قرآن كريم وسنة نبوية، وهي بذلك مجموعة من القوى الاجتماعية السياسية المتشددة المنضوية في تنظيمات عصرية حديثة، تحمل مفهوم “الجهاد “كإيديولوجيا وتسعى للوصول إلى  الحكم عبر ما تسميه الخلافة الإسلامية أو الدولة الإسلامية التي تمكنها من تطبيق “الشريعة الإسلامية”، والتي نحددها في شكلين الأول المجسد في تنظيم القاعدة الدولي وفروعه في المغرب العربي وجزيرة العرب وبلاد الرافدين، وجماعة بوكو حرام النيجيرية، أما الشكل الثاني فيمثله تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الموصوف اختصارا (بداعش)، وجهة نصرة أهل الشام والعراق المعروفة اختصارا “بجبهة النصرة”؛

  1. II. القوى الإسلامية الحركية والسلفية: محاولة للتصنيف

أما عن طبيعة هذه التيارات الإسلامية الداعية للعنف(الجهادية) فنعتبرها كرد فعل اجتماعي سياسي متطرف، على واقع الاقصاء والحرمان والقمع في شكل حلة دينية سلفية أو إسلامية متشددة، وفرت له يقينيات دينية شرعية إطلاقية لتبرير سلوك سياسي راديكالي يتناقض مع روح الدين الإسلامي ومسيء للإنسان كقيمة وتاريخ وحضارة؛

ومن بين الملاحظات الجوهرية التي نشير إليها الخلط الذي سقط فيه عدد من الباحثين، من خلال عدم التمييز بين المكونات المرجعيات التي تشكل أرضية تنهل منها الحركات “الجهادية” وباقي مكونات ما يصطلح عليه بالإسلام السياسي، التي تتضمن عدد من المكونات التي نوجزها في الأشكال الآتية:

  1. القوى الإسلامية الحركية التي تنقسم لقسمين:

قوى إسلامية إصلاحية تشتغل داخل اللعبة السياسية كحزب العدالة والتنمية المغربي وحزب النهضة التونسية وحركة الإخوان المسلمين بمصر، وهناك القوى الإسلامية الحركية الرافضة للمشاركة في اللعبة السياسية وتفضل العمل خارج المؤسسات السياسية كحركة احتجاجية كما هو حال جماعة العدل والإحسان بالمغرب، وهناك الجماعات التي تدعي النأي بنفسها عن السياسة وتركز على الدعوة كجماعة الدعوة والتبليغ، وهناك الجماعات الإسلامية المسلحة التي دخلت في مواجهات مع الدولة كجماعة الجهاد الإسلامي والجماعة الإسلامية بمصر؛

  1. 2. القوى السلفية:

لقد أفضى تطور التيار السلفي التقليدي إلى أخذ عدة اتجاهات:

أ- الاتجاه الأول:السلفية الداعية للعنف أو الجهادية الذي اعتنق تصورا تميز بالانغلاق الفكري والتطرف الإيديولوجي، فسقط في تكفير كل من لا يؤمن بطروحاته، وإباح الخروج عن الحكام العرب والمسلمين ومحاربتهم، لأنهم لايطبقون ما يسمونه شرع الله، وتبني نهج العنف الدموي ضد البلدان العربية الإسلامية والدول الغربية، ويضم تنظيمين أساسيين:

أولا: تنظيم القاعدة الدولي لأسامة بن لادن وتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي وبلاد الرافدين وجزيرة العرب وغيره؛

ثانيا: تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام(داعش)، وباقي الفروع التابعة له وتكمن قوة هذا التنظيم في استغلاله للفراغ السياسي في العراق وسوريا، وتمكنه من إنشاء أسماه بدولة الخلافة بزعامة أبي بكر البغدادي، ونظرا للخطر الذي أصبح يشكله على مختلف دول العام، شكل تحالف دولي للقضاء عليه خاصة بعد ضربه للعديد من العواصم العربية والغربية كباريس وبروكسيل وغيرها؛

ب- الاتجاه السلفي الثاني: السلفية التقليدية أو العلمية غير مهيكلة في تنظيمات عصرية، وقد حافظ على اعتداله رغم حدة خطاباته الدينية، إلا أنه ظل ينتهج سياسة الابتعاد عن العمل السياسي والمشاركة السياسة، واقتصر مجال عمله على الدعوة إلى تلقي العلم الشرعي، والقيام بالتأطير الديني والتربوي عبر الوعظ والإرشاد البعيد عن كل ما له علاقة بالسياسي، كالسلفية الأبانية لناصر الدين الألباني في سوريا والأردن والسلفية المغراوية (لمحمد المغراوي) في المغرب وغيرها؛

ج- الاتجاه السلفي الثالث: السلفية السياسية، فقد أدى اعتناقه للطروحات المعتدلة والمرونة التي يتسم بها، إلى الاندماج في مؤسسات الدولة والمشاركة في المؤسسات التشريعية والحكومية،كنموذج التيار السلفي في الكويت،[2] وقد تطورت هذه السلفية إلى سلفية سياسية برزت مع ما سمي “بالربيع العربي” من خلال انخراط هذه القوى في الفعل السياسي بعد أن كانت تفتي بتحريمه سابقا، من نماذج ذلك حزب النور المصري؛

فما هي إذن أوجه التباين وعنصر التشابه بين القوى الإسلامية والقوى السلفية؟

  1. 3. أوجه التشابه والتباين بين القوى الإسلامية والقوى السلفية

بالرغم تقاسم القوى الإسلامية النهل من الإسلام كدين، فإن هناك عناصر تشابه وتباين بين التيار الإسلامي الحركي والتيار السلفي، فأما نقط الالتقاء فتتحدد في اعتماد الإسلام كمرجعية عليا للمجتمع، وأن أي حل للأزمات والمشاكل التي تتخبط فيها الأمة والدولة، لا بد أن تنطلق من الإسلام مجسدا في القرآن الكريم والسنة النبوية، ثم  تسليمهما بضرورة الخروج من المسجد، ومحاضن التأطير والتربية والمساجد إلى المجتمع، والانفتاح على الناس ومحاولة استقطابهم للاقتناع بالنموذج المدافع عنه”[3]، ثم تلازم السياسي والديني في الإسلام وانعدام الفصل بينهما، فإذا كان هناك اتفاق حول هذه النقطة، فإن الاختلاف ينصب حول ماهية العمل السياسي وإمكانية الدخول إلى ممارسته وهو ما يشكل نقط اختلاف.

أما أبرز الاختلافات بين الإسلاميين والقوى السلفية، فتتحدد في العناصر الآتية: الموقف من العقل، طبيعة الرؤية للعمل السياسي، الموقف من الحداثة، والشريعة وقضية المرأة.

وإذا كان هناك اختلاف كبير في كيفية النظر إلى التراث الإسلامي وتفسيره وإعادة فهمه وقراءته، فإن النظر إلى علاقة العقل بالدين، يعكس تحول كبير حيث يرفض السلفيون العقل بناءا على نظرة متأثرة بالسجال القديم بين الفقهاء والفلاسفة ويعتبرون الدين يناقض الفلسفة،[4] وهو ما يفسر وقوف السلفيون في حدود النص لا يتجاوزونه، ورفضهم للقياس وغيره من المصادر التشريعية المعتمدة، وبالمقابل فإن الإسلاميون الحركيون يؤمنون بنجاعة العقل وفاعليته لتطوير الاجتهاد.

أما عن موضوع السياسة فقد بدأت تهتم به القوى الإسلامية وغدا محور الاهتمام بالسياسة هو الوصول للسلطة، وتحولت نظرة الإسلاميون والسلفيون أيضا بفعل التأثر بالسياسة في نظرتها إلى الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية؛[5]

أما الموقف من الحداثة فهو إيجابي بالنسبة للإسلاميين الحركيين، ماداموا يميزوا أولا الحداثة عن العلمانية التي تظل مسألة مرفوضة، إلا أن قبولهم للحداثة ينحصر في بعدها العلمي والتقني الذي أوصل الغرب إلى تحقيق النهضة وإقرار التطور وزعامة الأمم، أما الحداثة المرفوضة فيقصد بها التشبع بالفلسفة الغربية في مستوياتها المادية والأخلاقية المرتبطة بالإباحية والانحلال وتفسخ العلاقات وإبعاد الدين عن الحياة الاجتماعية والعامة، وبالمقابل فإن الموقف السلفي يرفض الحداثة جملة وتفصيلا، فلا يميز بين مستوياتها وحدودها.

فماذا عن موضوع المرأة؟ الإسلاميون الحركيون من مؤيدي تعليم النساء ومشاركتهن في الحياة السياسية والاجتماعية، شريطة أن تكون منقبة أو محجبة عكس السلفيين الذين يرفضون مسألة خروج المرأة؛

سنعالج في هذه المداخلة موضوع الجماعات الداعية للعنف “الجهادية”، بالتركيز تحديدا على طبيعة هذه التنظيمات وهويتها الايديولوجية ومرجعيتها الفكرية وأشكالها التنظيمية ومشروعها السياسي، ومقارنته ذلك مع تنظيمات متشددة كتنظيم القاعدة الأم، أو تنظيمات متطرفة تابعة له أو تدين له بالولاء كجماعة بوكو حرام في إفريقيا أوتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي، وهناك إشكال جوهري ثاني سنحاول فيه البحث عن تفسيرات لكيفية تمدد هذه التنظيمات وانتشارها في أكثر من دولة خاصة الفقيرة منها، التي لا يجد صعوبات في اختراقها، وهو ما يستدعي دعم دولي للدول الافريقية الأفقر في العالم كموريتانيا ومالي والنيجر للحد من تمدد القاعدة في المغرب الاسلامي؛[6]

  1. III. الحركات الإسلامية الداعية للعنف (الجهادية): النشأة، المرجعيات،
  2. 1. نشأة القوى الإسلامية الداعية للعنف (الجهادية)

تعود نشأة الجماعات الإسلامية الداعية للعنف “الجهادية” تاريخ اغتيال الرئيس أنور السادات سنة 1981، وشكلت بداية الألفية الثانية مرحلة الوجود العملي لتنظيم القاعدة الدولي، الذي بدأ يبلور آليات جديدة في طريقة استقطابه وأسلوب عمله، وما هو ما جسدته العمليات التي قام بها التنظيم التي يبقى أبرزها تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 والذي أدخلت الولايات المتحدة الأمريكية عبر تحالف دولي في مواجهة معها؛

وقد تمكن تنظيم القاعدة الدولي من انتاج عدد من الفروع التابعة له، إما تنظيميا أو إيديولوجيا من قبيل تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وغيره؛

والمفاجئ هو بروز تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) كتيار متشدد سنة 2014، والذي تميز بخاصيتين أساسيتين: أولا قدراته الكبيرة على التجنيد والاستقطاب من داخل الدول العربية وأوربا والولايات المتحددة، ثانيا براعته في توظيف مكتسبات الثورة الرقمية كالانترنيت والفيسبوك وغيرها لتسويق طروحاته المتشددة، فأضحينا أمام صناعة إلكترونية للتنظيم، وإطلالة بسيطة على الأرقام التي تطرح بين الفينة والأخرى تأكد حجم القدرة التعبوية التي أضحى يمتلكها هذا التنظيم والتنظيمات الموازية له؛

لقد شكل الخطاب السلفي الجهادي رؤية إيديولوجية جديدة مختلفة عن الخطاب السلفي التقليدي العلمي، مع السعي لتجاوز الاختلالات التي يعاني منها[7]بالتركيز على:

  • إعادة الاعتبار للعمل الجماعي المنظم الذي كانت تعتبره السلفية التقليدية بدعة؛
  • الرهان على ايديولوجيا “الجهاد” لإقرار التغيير المنشود باستعمال العنف ضد أنظمة الحكم والسعي لإقامة طوبى الخلافة؛
  • ايلاء المزيد من العناية للعمل السياسي والسعي لتغيير قمة السلطة واعتبار الديمقراطية كفر والدخول للبرلمانات شرك، عكس السلفية التقليدية التي أهملته؛

فما هي أبرز المفاهيم والمقولات النظرية المؤسسة للجماعات “الجهادية”؟ وما هي المرجعيات الفكرية والإيديولوجية التي تعتنقها هذه الحركات الداعية للعنف؟

 

  1. 2. المرجعيات الإيديولوجية والفكرية للقوى الإسلامية الداعية للعنف (الجهادية)

تمزج هذه التنظيمات الإسلامية في مرجعياتها الإيديولوجية ومشروعها السياسي بين  تصور أبي الأعلى المودودي، والرؤية الثورية لسيد قطب خاصة في كتابه “معالم في الطريق” وعبد السلام شكري في كتابه “الفريضة الغائبة”، لقد تم تبني أبرز المفاهيم التي ميزت رؤيته كالحاكمية والجاهلية والتميز والمفاصلة، بل كانت هذه المفاهيم القطبية تفسر عقديا وفقا لمنهج موغل في التشدد خاصة الحاكمية والمفاصلة، ومن ثمة إسقاطها على الواقع المجتمعي فأنتجت إيديولوجيا مفرطة في الصدام والثورية؛[8] وقد شكلت مرحلة السبعينات بدايات التجسيد العملي لها عبر أشكال تنظيمية كجماعة الجهاد الإسلامي والجماعة الإسلامية في مصر؛

أما الأطروحات السلفية المتشددة فتؤطرها كتابات عمر ابن محمود المعروف ب”ابي قتادة” خاصة في كتابه “الجهاد والاجتهاد: تأملات في المنهج”، وكتاب “إدارة التوحش: أخطر مرحلة تمر بها الأمة” لأبي بكر ناجي، وأيضا كتابات أيمن الظواهري “التبرئة” وعبد الله عزام وأبي قتادة وغيرهم؛

وينهل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وتنظيم القاعدة من أطروحات سلفية موغلة في التشدد، من قبيل رفع شعار ” الدم الدم، الهدم الهدم” ووضع مفهوم “التوحش”، الذي يقصد به حالة الفوضى والهلع التي ستدب في الأمة، والتي سيعاني منها السكان بعد أن تحل القاعدة محل السلطات الحاكمة تمهيدا لإقامة الخلافة الإسلامية، لتحسن “إدارة التوحش” إلى حين استقرار الأمور؛

وأن صراع التنظيم سيتم مع ما يسمونه بطواغيت العرب والعجم”، وأنهم حملة لواء التوحيد الذي يعتبرونه خالصا تمسكا بمعيار الولاء والبراء، ومن ثمة فهو تيار يكفر الديمقراطية ويعتبر البرلمان شرك ويعتبر التشريع لله ولا يؤمن بالتعددية وحق الاختلاف؛[9]

بل إن تنظيم داعش تمكن من السيطرة على مناطق واسعة من سوريا والعراق، وأعلن عبر زعيمه أبي بكر البغدادي عن إقامة الخلافة الإسلامية، وهو ما شكل خطوة غير مسبوقة من الناحية السياسية في منطقة الشرق الأوسط، بل إن عدد من التنظيمات المتشددة كتنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي وجماعة بوكو حرام بنيجريا، عملت على تقديم البيعة لتنظيم “الدولة الإسلامية”، وهو ما يطرح للتأمل والتفكير إمكانية فهم هذا التحول المفاجئ وكيفية فهمه فهما موضوعيا؛

وقد تشكل تحالف دولي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وشن ضربات جوية على معاقله بالعراق ودخلت الحكومة العراقية في مواجهة عسكرية معه، كما شكل تحالف عربي بقيادة السعودية للقضاء على التنظيم الذي بدأ مند سنة 2016 يعرف العديد من التراجعات في سوريا والعراق بحكم الضربات الجوية المتعددة، كان آخرها دخول روسيا للمعترك السوري لدعم نظام الأسد المترهل، والتدرع بشن هجمات على تنظيم الدولة تم انسحابها بعد أن اعلنت عن تحقيق أهدافها العسكرية.

أ‌- الإيديولوجية الإسلامية الحركية الثورية:

ساهم في بناء الإيديولوجية الإسلامية الحركية الثورية عدة منظرين سنركز على أبرزهم، وهم سيد قطب وعبد السلام فرج، فالأول تميز بالتنظير الفكري والإيديولوجي لمشروع سياسي ينسلخ عن السلطة السياسية ومجتمعها، الذي ارتد في نظره وأصبح يعيش جاهلية جديدة، والثاني انطلق من هذا البعد التنظيري إلى بلورته على أرض الواقع، وميزة كلا الرجلين أنهما قد أعدما نتيجة لمشروعيهما، الأول أعدم على يد نظام جمال عبد الناصر، والثاني حكم عليه بالإعدام إثر تورطه في مقتل الرئيس أنور السادات.

لقد أصبح المشروع الإسلامي المعلن، يمثل رسالة دينية تسعى إلى إعادة تغيير ما تسميه واقع المجتمع الجاهلي المرتد، البعيد عن نقاء الإسلام وصفائه،[10] أما الحل المقترح فقد تحدد في تطبيق المنهج الإسلامي للقضاء على مؤثرات “الجاهلية”، بالاقتناع بضرورة القيام بالمشروع السياسي الثوري، الذي ينحصر هدفه في تقويض ما يسميه بنظام الحكم الجاهلي المستبد؛[11]

فالجاهلية الحالية هي جاهلية الماضي، مظاهرها الجلية البعد عن الشريعة الإسلامية وميوعة الأخلاق وتفسخها، وضعف العقيدة والتكالب على المصالح المادية والنزعات الحسية، وقد انزلقت المجتمعات إلى الجاهلية نتيجة لارتدادها عن الإسلام ورفضها الإقرار بحاكمية الله، ويغتصب فيها الإنسان حق الله تعالى في التشريع، ويطبق فيها القوانين الوضعية مبتعدا بذلك على القوانين السماوية جاعلا من المادة والمصلحة هدفه الأسمى.

ينحصر هدف هذه الدعوة الإسلامية في أبعادها الإيديولوجية، إلى تقويض المرتكزات العقدية والفلسفية والفكرية التي تستند عليها الأنظمة والمجتمعات، حتى تنسجم مع الوضع المثالي للدين الإسلامي، ويتم ذلك عبر “الجهاد” الذي يعتبره  فريضة شرعية على الدولة القيام بها.

بينما تستمد رؤية عبد السلام فرج[12]في كتيبه “الجهاد الفريضة الغائبة”، من أطروحة سيد قطب وتنهل من أبرز مفاهيمها وتصوراتها، دون القدرة على تطويرها أو تجاوزها، فما يشكل أطروحة عبد السلام فرج، هو تركيزه على أن مبدأ الجهاد فريضة أساسية أهملها علماء الأمة، فهم قد تطرقوا لأركان الإسلام الخمسة، وحثوا عليها دون تكليف أنفسهم الحث على القيام بفريضة الجهاد التي نسوها أو تناسوها “[13]

فالإسلام قادم لا محالة طبقا لنصوص دينية صحيحة، وأن الدولة الإسلامية على منهج الخلافة قادمة بدورها، فعلى كل مسلم السعي إلى إقراراها الذي هو دفاع عن إعادة الخلافة والبيعة؛[14]

يرى فرج أن القانون الذي يخضع له المسلمين قانون وضعي، لأن الأحكام التي تطبق فيه “أحكام كفر”، بذلك فقد ارتد واضعيها والخاضعين لها، ليخلص إلى أن عقوبة “المرتد” أعظم من عقوبة “الكافر”؛[15]

فما هو مصدر الفساد في نظر عبد السلام فرج، يتحدد أصل الفساد في النظام السياسي الحاكم وليس في المجتمع، فتنظيم الجهاد لا يتردد في تكفير الحكام وأنظمتهم ومؤسساتهم، فالحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله كافر وخارج عن الإسلام، كما أن مجالس الشعب تصدر تشريعات مخالفة لشرع الله، “فحكام هذا العصر في ردة عن الإسلام تربوا على موائد الاستعمار .. سواء الصليبية أو الشيوعية  أو الصهيونية – فهم لا يحملون من الإسلام إلا الأسماء وإن صلى وصام وأدعى أنه مسلم- [16]

ويشير فرج إلى أن الرغبة في إقامة الدولة الإسلامية، هو تنفيذ لأمر إلهي لا يستطيع أي مسلم عدم الاستجابة له، مادام حكم الله عدل وقوانينه عدل “أن إقامة الدولة الإسلامية هو تنفيذ لأمر الله، ولسنا مطالبون بالنتائج والذي يتشدق بهذا القول الذي لا فائدة من ورائه إلا تثبيط المسلمين عن تأدية واجبهم الشرعي بإقامة شرع الله، وقد نسي أنه بمجرد سقوط الحكم الكافر فكل شيء سوف يصبح بأيدي المسلمين بما يستحيل معه سقوط الدولة المسلمة ثم أن قوانين الإسلام ليست قاصرة ولا ضعيفة عن إخضاع كل مفسد في الأرض خارج عن أمر الله ..وبالإضافة إلى ذلك فإن قوانين الله كلها عدل لن تجد سوى كل ترحاب حتى ممن لا يعرف الإسلام”.[17]

وإذا كانت تصورات فرج اعتبرت المرجعية المعتمدة من طرف جماعة الجهاد الإسلامي، فإنها قد اشتملت على جانبين العقيدة والطريقة والفكر والممارسة، وإذا كانت العقيدة منحصرة في التوحيد والمنهج، فإن الطريقة تحددت في الجهاد، إلا أن ما يسم الجماعة هو خلطها بين مفهوم التوحيد كما هو في التصور القديم عند المتكلمة والمعتزلة أي توحيد الأسماء والصفات مع التوحيد العملي الذي تحدث عنه العلماء والفقهاء،[18] وواقع الحال أنه من الصعب التمييز بين الجانب توحيد الأسماء والصفات وبين التوحيد العملي، لأن مفهوم الحاكمية ينبثق عن التوحيد وفي نفس الوقت هو أساس الدولة الإسلامية[19]

ب‌- الإيديولوجيا السلفية الداعية للعنف (الجهادية)

يتبنى هذه الأطروحة التيارات السلفية التكفيرية والداعية للعنف[20] التي أرست قطيعة مرجعية مطلقة مع الحداثة والديمقراطية وغيرها من المفاهيم المعاصرة، وتنقسم هذه القوى السلفية إلى اتجاه سلفي متشدد، يرفض الحضارة الغربية وما أتت به من قيم ومنجزات جملة وتفصيلا، وينحصر مجال عمله في ممارسة العنف الرمزي وبث التشدد الفكري والتصلب الإيديولوجي، منطلقا من مقاربة حرفية نصوصية للقرآن والسنة النبوية، متقيدة بحرفية النص لا تتعداه أو تتجاوزه، فوقعت في مطب النزعة التفسيرية الظاهرية، التي لم تستطع تطوير نفسها وآلياتها ومناهجها من أجل إغناء التراث الشرعي، وإعادة تجديد الفكر الديني حتى يواكب متطلبات العصر، بقدر ما تعاملت معه بمعزل عن سياقه التاريخي والاجتماعي الذي أنزل فيه، فأضحت تعيش جمودا وتحنيطا في شكل أزمة على مستوى التنزيل والفهم والتأويل.

وبين تيار سلفي تكفيري يدعوا إلى ما يسميه “الجهاد” ضد الحكام الذين لا يحتكمون بشرع الله، ومن أبرز المفاهيم التي يرفضها هذا التيار مفهوم الديمقراطية وحق الاختلاف وحكم الأغلبية التي يراها تتعارض قطعيا مع ثوابت الدين؛

إن أهم الأسس التي تستند عليه الديمقراطية مبدأ السيادة للشعب، “إن مبدأ سيادة الأمة من أهم الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية وتنادي بها، فالأمة في النظم الديمقراطية لها سيادة مطلقة فلا يوجد سلطة فوق سلطة الشعب، فهو صاحب التشريع من دون الله، فما أحله الشعب فهو الحلال وإن حرمته جميع الشرائع السماوية، وما حرمه الشعب فهو الحرام وإن اتفق على حله جميع الشرائع السماوية….إذا فمبدأ سيادة الأمة يعني أن لها حق التشريع وهذا كفر بالله تعالى”.[21]

كما أنه يرفض حق الاختلاف وحكم الأغلبية، كأحد أهم الدعائم النظرية للديمقراطية ويعتبر حكم الأغلبية متعارض مع الكتاب والسنة، وأن من شأن أي لجوء للأغلبية السقوط في مخالفات صريحة للتشريع الإسلامي؛

وتتميز هذه الرؤية بنظرتها التبسيطية للمصادر الشرعية، وتضمنها على الكثير من الغلو في النظر والقياس والاستنباط، بكيفية لا تخلوا من شكلانية وبتبسيط في الآليات والمفاهيم، والقواعد المعتمدة دون الأخذ بعين الاعتبار لاختلاف السياق، كما أنها تعكس رؤية دونية مبطنة لقدرة الإنسان على اتخاذ القرارات الصائبة؛

إن فسح المجال في نظرها لحق الاختلاف والأغلبية، من شأنه مخالفة الكتاب والسنة، في حين أقر معظم الفقهاء والعلماء على عدم مناقضة حكم الأغلبية لمضامين الإسلام، مادام الإسلام لم يحدد نظاما معينا للحكم، وتركه للإنسان حرية اختيار ما يلائمه من أنظمة ومؤسسات وقواعد، بل إن حق الاختلاف والأغلبية من القضايا السياسية التي لم تحظ بعد بحقها من الدرس والتمحيص، وقد ساهم استشراء النقص الكبير في التنظيرات السياسية، والاعتقاد الخاطئ أن معالجتها مخالف للشرع، ومتناقض مع مقاصده إلى عدم تطور النظرية السياسية للحكم في الإسلام : “إن أي أمر من الأمور لابد أن يخضع للتصويت، وإن الحق الذي يجب تنفيذه هو رأي الأغلبية حتى لو كان مخالفا للكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة، لأن سلطة الشعب في النظام الديمقراطي فوق أي سلطة…… إن المرجع في الإسلام للكتاب والسنة وليس للأغلبية، فإن الأغلبية قد تخطئ وقد يغلبها الهوى وشهوات النفس، أما الكتاب والسنة فلا يخطئان، وقد أمرنا الله تعالى برد التنازع إليه وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرنا برد التنازع لحكم الأغلبية، قال تعالى {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} (سورة الشورى:10).”[22]

وبالمقابل فإن التيار التكفيري يقر بشرعية الشورى، ويرفض الديمقراطية شكلا ومضمونا ويعتبرها كفرا صريحا، لأنها تعد في نظره شريعة وضعية لا يمكن مقارنتها مع شريعة الإسلام السماوية، لقد قام هذا التيار بعملية تفسيرية تأويلية للشريعة الإسلامية، صرف من خلالها مجموع قناعاته الإيديولوجية وتصوراته السياسية، في محاولة منه لإقناع الغير أنها موقف الإسلام من هذه القضايا، وهو ما يطرح أكثر من إشكال حول بنية هذه المرجعية، وطبيعة وعيها بما تطرحه من قضايا ومقولات.

ينظر هذا التيار للديمقراطية باعتبارها نظام وضعي ينافي الشريعة السماوية، ويخالف مفهوم الشورى ومفهوم الحاكمية، فالديمقراطية وفقا لهذا المنطق التعليلي تنافي الإسلام وتناقضه، وصولا إلى اعتبارها نوع من الكفر والشرك، ولمحاولة تأكيد طرح التيار التكفيري، تم نقد وتقويض أبرز الأسس الفكرية والسياسية التي تعتمد عليها الديمقراطية، كمبدأ سيادة الأمة، وسيادة القانون، وحق الأغلبية، وحق الحرية، وحق التصويت.. وتحريمها من الناحية الشرعية.

إن الهدف من هذا التأويل الإيديولوجي الخروج بنتيجة مفادها، أولا بطلان نظرية الديمقراطية وبيان مطابقتها للشرك والكفر مما يجردها من أية شرعية دينية، وثانيا عدم شرعية جميع المفاهيم التأسيسية التي ترتكز عليها الديمقراطية، كالحرية التي يفهم منها في نظر هذا التيار، حرية الكفر والإلحاد، وكذلك الإباحية وفسح المجال للنزهات البهيمية وممارسة الفجور، وحق الاختلاف الذي يفهم منه نشر التفرقة والخلاف، الذي ذمه الشرع ويفضي في نظرها إلى التطاحن والاقتتال، ومبدأ سيادة القانون الذي يقصد به التقيد بقوانين وضعية ومخالفة شرع الله وجعل سلطة البشر فوق سلطته؛[23]

عكس هذه الأطروحة نموذجا راديكاليا يقطع مع المجتمع والسلطة والسياسة، فيعتبر السياسة حرام وكل من يمارسها كافر فالمجتمع قد ارتد، والمشكل في نظرها هو الخروج عن شرع الله والكفر به، واعتماد القوانين الوضعية، لذلك فالحل المقترح هو الخروج على الحكام، ومحاربتهم على أساس أن التخلص منهم سيحل المشكلة، تم هجر السياسة الوضعية ومؤسساتها،[24] والقطع مع مفاهيمها المغلوطة والمستوردة، وإرساء دولة تطبق إسلاما نصوصيا منطلق من مشاريع مفرطة في المثالية وبعيدة كل البعد عن مقتضيات العصر.

إن العمل السياسي الذي يقره هذا التيار هو القيام بالخروج على الحكام، وحيازة السلطة ومحاربة كل من لا ينضبط بأحكام الشريعة وفقا لمفهوم نصي، وبذلك فتطبيق الشريعة وإزاحة الحاكم ومحاربة “الغرب الكافر” هو عمل سياسي بامتياز في نظر هذه الأطروحة.

ويجسد هذا النموذج مواقف سياسية وإيديولوجية وعقدية ذات نظرة نصوصية للكتاب والسنة، فهي رؤية يمتزج فيها السياسي بالديني، لها فهما معينا في تمثلها للسياسي في علاقته بما هو ديني، تأخذ شكل رؤية محرمة للعمل السياسي، ومكفرة للهيئات والمؤسسات التي يشتغل عبرها، وخاصة القنوات الرسمية كالحكومة والبرلمان وغيرها من التشكيلات السياسية.

 

 

 

  1. IV. الجماعات الإسلامية “الجهادية”: بماذا نفسر أسباب التمدد وعوامل الانشار؟

والسؤال المطروح بماذا نفسر التمدد غير المسبوق للتنظيم في مساحات واسعة في العراق وسوريا؟

التمدد الملاحظ آني ويرتبط بالمرحلة الراهنة وبتداعيتها الوطنية والإقليمية والدولية، كما أنها استفادت من الوضع الاقليمي بمنطقة الشرق الأوسط بعد الغزو الأمريكي للعراق وبروز حكومات انتهجت مسلكا طائفيا عزز مكانة الشيعة على حساب السنة وباقي المكونات والطوائف، دون أن نهمل تكوين تحالف دولي ضد تنظيم داعش بقيادة الولايات المتحدة تم تحالف عربي بقيادة السعودية، إلا أن تناقضات السياسة الاقليمية والصراع مع الحوثيون وخليفهم إيران أفضى لتكوين تحالف عربي سمي “عاصفة الحزم” وهو ما ألقى بتداعيات على التحالف الذي استهدف داعش، التي استغلت هذه التنافضات الاقليمية وعززت من وجودها العسكري الميداني وحاولت التألق مع الغارات الجوية ضد مقاتيليها.

ومن بين التفسيرات المقترحة لفهم عوامل تمدد تنظيم القاعدة وفروعه وتنظيم الدولة الإسلامية وباقي فروعه ما يلي:

1-              فشل الأنظمة العربية الإسلامية في تحقيق التنمية السياسية والتطور الاقتصادي: فقد أدى عجز الأنظمة العربية في تحقيق ما وعدت به شعوبها من تقدم وتنمية وعدالة وحرية، وفشل مشاريعها التحررية والتنموية الذي فوت عليها فرص اللحاق بالأمم المتحضرة، وهو ما أبرز إخفاق الدولة التسلطية في تحقيق ما رفعته من أهداف، فكان من الضروري اعتماد منهج بديل في الحكم والسياسة، يبرر شرعية الاستمرار في السلطة وقيادة المجتمع والدولة.

لقد حددت الإيديولوجيات الشمولية السائدة كالاشتراكية والقومية بمختلف تلويناتها من ناصرية وبعثية التي حددت رسالتها التاريخية، في قيادة الأمة العربية وإخراج شعوبها من نير التبعية والتخلف، أمام محاولات الغرب لإفشال هذا المشروع وعرقلته، فكان من سلبيات المشروع أنه كان ينفد بسلطوية لا تقبل النقاش أو الاختلاف، وهو ما أفضى إلى نهج ممارسات ثقافية وسياسية تسلطية على مختلف القوى الاجتماعية والسياسية، بمبرر حرق الهوة التاريخية والحضارية لفائدة الزعيم الذي يقتضي تجريده للمجتمع من حرياته لإيصاله إلى مصاف الدول المتقدمة، فلا يمكن الحديث عن الديمقراطية والحق في المعارضة والنقد، إلا بعد استثبات هياكل سياسية واجتماعية واقتصادية قوية تمكن من تحقيق الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فاعتبرت هذه الرؤية كشكل من أشكال الدعاية الوهمية حول إجماع الأمة إزاء مشروع الزعيم المخلص، فنظر للتعددية الفكرية والسياسية والحزبية كتخريب للمشروع النهضوي وإرجاع الأمة إلى عهد التشتت والتخلف والتبعية.[25]

 

2-              تأثيرات الإقصاء السياسي والاجتماعي المرفوق بالقمع: نجم عن استراتيجية والقمع والتنكيل التي واجهت بها بعض الأنظمة السياسية في العالم العربي المعارضة السياسية، والزج بمعارضها في السجون والمنافي دون الاحتكام لشروط المحاكمة العادلة، مصحوبة بظروف اجتماعية واقتصادية مزرية مقابل عيش النخب السياسية الموالية لحالة من الغنى الفاحش والبدخ، مما ولد نوعا من الحرمان النفسي والاقصاء الاجتماعي والسياسي الذي شكل ذهنية أضحت تفتقد للعدالة وتسعى للانتقام من هذا الواقع، وقد زكى هذا التوجه النزعات التسلطية والشمولية لبعض الأنظمة القومية، فترسخت القناعة باستحالة التغيير في ظل أنظمة ومجتمعات اعتبرتها جاهلية،[26] فأضحت الوسيلة للتغيير هو السعي إلى امتلاك وسائل القوة والسلطة، بغية الاستيلاء على الحكم السياسي كآلية فعالة لتطبيق المشروع السياسي الإسلامي وإعادة بناء السلطة من جديد.

3-              التشبع من معين المرجعيات الدينية والايديولوجية المتشددة: وقد سهل الواقع الذي سلف وصفه عملية التأطير الممنهج بالعودة للتشبع من مرجعيات متشددة وفقا لتأويل منغلق للنص الديني، فوجدت فيها ضالتها في التشدد الذي شكل فرصة لها للتنفيس عن ما بداخلها من ظلم وحرمان ومعانات ورغبة في التأثر من الدولة والمجتمع، فشكل ذلك بروز جماعات سلفية متشددة لها فهم متزمت للدين الذي تحصره في تطبيق الحدود وقطع الرقاب كنوع من رد الفعل والانتقام من واقع وطني وعالمي.

4-              ضعف الدولة وتوفر الأسلحة: أدى الضعف الملاحظ في العديد من الدول والأنظمة وعدم قدرتها على فرض سيطرتها على أقاليمها وتعدد المناطق خارج السيطرة، إلى إضعاف قدرة الدولة علة ضبط حدودها وتوفير الأمن لمواطنيها، وقد أدى اتباع بعضها لسياسة التأجيج الطائفي كنموذج العراق بعد الغزو الأمريكي أو الانهيار التدريجي للنظام السوري بعد مرحلة الربيع العربي الذي قام بتقتيل شعبه بعض رفض بشار الأسد التخلي عن الحكم، مما شكل أرضية مناسبة لبروز الجماعات الإسلامية المتشددة كتنظيم داعش، وجبهة النصرة؛

نفس الملاحظة تنطبق على النظام الليبي الذي يعاني تفكك الدولة والضعف المستشري في هياكلها، خاصة بعد مقتل معمر القذافي الذي انتهج سياسة الأرض المحروقة عبر تسليحه للشعب أمام الفراغ المؤسساتي والمدني، مما فسح المجال لنمو مختلف الجماعات المتشددة وامتلاكها لموارد مالية ونفطية وتوفرها على الأسلحة؛

بل إن الدول التي تنشط فيها هذه التنظيمات تعتبر دول منهارة وضعيفة تواجه مخاطر الفشل وخاصة أفغانستان والصومل والسودان وعراق ما بعد صدام وباكستان واليمن.[27]

5-              انسداد آفاق التغيير السياسي بالوسائل السلمية: ترتب عن احتكار السلطة السياسية في العديد من الأنظمة العربية الشمولية وحصر اللعبة السياسية بين الحكام والنخب المحيطة بهم، إلى انسداد آفاق التتغيير السياسي عبر الواسائل السلمية من خلال المؤسسات المؤطرة للعمل السياسي، لقد أدت محدودية إقرار التغيير السياسي السلمي بالرهان على المؤسسات السياسية إلى تشكل موجة سخط وإحباط لم تجد أية آذان صاغية لاحتضانها، فسقطت في براثن التقوقع في ايديولوجيات شمولية مغلقة ذات مسحة دينية، وانتهجت أسلوب العنف كآلية للتغيير السياسي من القمة عبر انتهاج استراتيجية الترويع وخلق الفوضى والهلع.

6-              التأثر بموجة الجهاد المعولم والرغبة في إقرار (حلم الخلافة): أدى الخلط بين الرسالة الدينية التاريخية والمشروع السياسي الثوري الذي سيعيد للإسلام مجده (حلم الخلافة الإسلامية)، مصدر إلهام وعنصر استقطاب للشباب الراغب في تحقيق حلم الخلافة الإسلامية وإقرار الشريعة الإسلامية، التي ستمكن من تفعيل ما يسمى بالجهاد العالمي ضد “اليهود والصلبيين لتحرير فلسطين المحتلة، والحد من الهيمنة الأمريكية التي ارتفعت حدة العداء لها بعد هجومها على نظام طالبان سنة 2001 وغزوها للعراق سنة 2003، إلى جانب تصاعد موجة الحملات المضادة للإسلام والساعية لتشويهه في الغرب، ومحدودية السياسة الأمريكية في مواجهة الإرهاب مند حملات الحادي عشر من سبتمبر، دون نسيان المشاكل التي تعني منها الأقليات المسلمة في عدد من الدول الغربية.[28]

7-              الجاذبية الإيديولوجية لأطروحات التنظيمات الجهادية: كان لجاذبية الشعارات الإيديولوجية التي ترفعها التنظيمات الجهادية من قبيل إقامة الخلافة وتفعيل الجهاد العالمي ضد اليهود والصلبيين وتحرير فلسطين، وإعلان العداء للهيمنة الأمريكية وتحديها الصريح ورفض سياساتها، مما خلق صورة إيجابية للتنظيم بل إن تمكنه التنفيذ العملي لعدد من العمليات ضد المصالح الغربية، منحه المزيد من الشرعية والقوة و اللمعان، إلى جانب انتهاج تنظيم القاعدة على سبيل المثال لإستراتيجية إعلامية مؤثرة لدرجة اعتباره للإعلام أحد الأسئلة الرئيسية في معركة كسب عقول وقلوب المسلمين، والاستفادة من الشبكة العنكبوتية الشيء الذي مكنها من نشر أفكارها ومعتقداتها على أوسع نطاق، وإقرار نوع من التواصل بين فروعه التنظيم وخلاياه،[29] وهو النهج نفسه الذي اعتمده تنظيم الدولة الإسلامية.

8-              التأثر بالمخلفات الإقليمية للسياسة الإسرائيلية وعجز الأنظمة العربية على مواجهتها، خاصة وأنها المدعومة بالسياسات الأمريكية المنحازة لإسرائيل ضد حق الفلسطينيين في الحرية والاستقرار، وهو ما وفر المزيد من الانشار لهذه التنظيمات، ورغم عدم استهدافه لإسرائيل فإن القضية الفلسطينية حاضرة في خطاباته السياسية والإعلامية، وقد نجم عن عجز العرب عن حل المشكلة الفلسطينية أما التجبر والغطرسة الاسرائيلية أمام العالم إللا استشراء حالة من اليأس والاحباط لدى الشباب العرب، واعتبارهم النظام العربي فاقد للمصداقية، فاستغل تنظيم القاعدة هذا الملف وصار يعزف على أوتاره.[30]

 

لاشك أن الانشار الجغرافي والتمدد الذي تشهده التنظيمات الجهادية آنية ومؤقتة وليست دائمة، لأن من السهل احتلال الأرض والسيطرة عليها لكن الصعوبة في المحافظة عليها، إن هذا التمدد لا يعني تنامي في قوة التنظيمات بقدر ما يعني استغلالها لضعف مؤقت للدولة وهشاشة في بنياتها، وأن الدولة سرعان ما ستستعيد تضميد جراحها والعودة لقوتها.

 


[1] نظرا للخلط بين مفهومي الإرهاب والعنف السياسي وتداخلهما من حال دون الحسم المنهجي والمعرفي للعلاقة بين المفهومين، اللذين يتسمان بصعوبة تحديدهما منهجيا، وحملهما لمعاني مختلفة ومضامين متباينة، تم قابليتهما للتوظيف السياسي؛

وبذلك فإننا نعرف الإرهاب كاستعمال للعنف والقوة خارج حدود الشرعيية والمشروعية المتوافق حولها، بهدف إثارة مشاعر الرعب والهلع، وفي السياق نفسه اقترحنا أربعة معايير للتمييز بين الفعل السياسي الاحتجاجي المشروع والعنف الإرهابي المذموم وهي:

  • معيار الغاية الإيديولوجية للعنف السياسي؛
  • معيار الهدف السياسي النبيل والمشروع؛
  • معيار الالتزام بالجانب الأخلاقي عند التنفيذ؛
  • وأخيرا معيار قبول أغلبية المجتمع لهذه العمليات وتأييده لها.

للمزيد من التفاصيل يرجى الرجوع إلى:

رشيد مقتدر: “الإرهاب والعنف السياسي: من تفجيرات الدار البيضاء إلى قضية بلعيرج“، كتاب مدارك 1، الطبعة الأولى مايو 2008، ص 57-71.

[2] مارينا أوتاوي عمرو حمزاوي: “الإسلاميون في السياسة: ديناميكيات المشاركة“، أوراق كارينغي، مؤسسة كارينغي للسلام الدولي، برنامج الشرق الوسط، العدد 98 ديسمبر/كانون الأول2008.، ص 16-17.

[3] أوليفيه روا: “تجربة الإسلام السياسي”، ترجمة نصير مروة، دار الساقي، الطبعة الثانية 1996. ص 41-42.

[4] أحمد الموصللي: موسوعة الحركات الإسلامية، مرجع سابق، ص 49 وص 64-65.

[5] أوليفيه روا: “تجربة الإسلام السياسي”، ترجمة نصير مروة، دار الساقي، الطبعة الثانية 1996. ص40-42.

[6] جان بيار فيليو: “هل تصبح القاعدة أفريقية في منطقة الساحل؟، أوراق كارنيغي، العدد 112 أيار //مايو 2010، ص 10-14.

[7] مروان شحاذة: تحولات الخطاب السلفي: الحركات الجهادية- حالة دراسة (1990-2007)، الشبكة العربية للأبحاث والنشر،الطبعة الأولى، بيروت 2010، ص 62-66.

[8] رشيد مقتدر: “الإدماج السياسي للقوى الإسلامية بالمغرب“، مركز الجزيرة للدراسات، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى 2010، ص 78.

[9] حسنين توفيق إبراهيم: “تنظيم القاعدة: أسباب الاستمرارية وعوامل البقاء”، في كتاب، “تنظيم القاعدة: قراءة جديدة”، مركز الجزيرة للدراسات، الملفات البحثية 2010، ص 12-17.

[10] سيد قطب: “معالم في الطريق” دار الشروق بيروت، دار الثقافة الدار البيضاء، طبعة 1420، 2000. ص 22.

[11] سيد قطب: “معالم في الطريق”، مرجع سابق، ص38.

[12] اثر تورط هذه الجماعة في اغتيال أنور السادات عن طريق خالد الاسلامبولي تمت محاكمة العديد من قيادييها، وقد تم إعدام المتورطين منهم من بينهم منظر الحركة عبد السلام فرج.

[13] عبد السلام فرج: ” الجهاد: الفريضة الغائبة”، بدون تاريخ، ص2.

[14] عبد السلام فرج: نفس المرجع، ص4.

[15] نفس المرجع.

[16] عبد السلام فرج: نفس المرجع، ص6.

[17] نفس المرجع، ص20.

[18] دكتور حسن حنفي: “الأصولية الإسلامية” (6) سلسلة الدين والثورة في مصر 1952-1981، مكتبة مدبولي – القاهرة، ص111.

[19] دكتور حسن حنفي: “الأصولية الإسلامية“، مرجع سابق، ص111.

[20] مفهوم الجهادي مفهوم غير دقيق ويسقطنا في متاهات الخطاب الإعلامي، لذلك فإننا نفضل تعويض مصطلح الجهادي بمصطلح الداعي للعنف، لأنه أبلغ تعبيرا وأكثر حيادية من المصطلح الأول.

[21] اللجنة الشرعية بجماعة الجهاد: “فتح الرحمن في الردّ على بيان الإخوان”، منبر التوحيد والجهاد.ص77-78.

[22] اللجنة الشرعية بجماعة الجهاد: “فتح الرحمن في الردّ على بيان الإخوان”، مرجع سابق، ص81.

[23] المرجع نفسه، ص 121-122.

[24] الفرق بين جماعة الهجرة والتكفير(لمصطفى شكري)، وجماعة الجهاد(لعبد السلام فرج)، أن الأولى تكفر السلطة والمجتمع معا في حين أن الثانية تكفر السلطة فقط.

فجماعة الجهاد تعتبر الجهاد فريضة وركنا من أركان الإسلام، في حين أن التكفير والهجرة تعد الانضمام إليها ركنا لكي يكون المسلم مسلما.

[25] د. رشيد مقتدر: “الإسلاميون: دراسات في السياسة والفكر“، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، الطبعة الأولى، 2013، ص 30-32.

[26] د. رشيد مقتدر: “الإسلاميون: دراسات في السياسة والفكر“، مرجع سابق، ص 33.

[27] حسنين توفيق إبراهيم: “تنظيم القاعدة: أسباب الاستمرارية وعوامل البقاء”، في كتاب، “تنظيم القاعدة: قراءة جديدة”، مركز الجزيرة للدراسات، الملفات البحثية 2010، ص 47.

[28] حسنين توفيق إبراهيم: “تنظيم القاعدة: أسباب الاستمرارية وعوامل البقاء”، مرجع سابق، ص 44-45.

[29] حسنين توفيق إبراهيم: “تنظيم القاعدة: أسباب الاستمرارية وعوامل البقاء”، مرجع سابق ص45-46.

[30] حسنين توفيق إبراهيم: “تنظيم القاعدة: أسباب الاستمرارية وعوامل البقاء”، مرجع سابق، ص50.

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *