لماذا لا نستسلم لخالقنا؟!
لماذا لا نستسلم لخالقنا؟!
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لاأحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، المفروض وقد خلقنا الله تعالى لعبادته في دار الدنيا أن نكون من الخاضعين لجلال وجهه ولعظيم سلطانه، مستسلمين له منقادين لأوامره ونواهيه، لا نحيد عن ذلك طرفة عين، ولكن المتأمل بعمق في مختلف تقلباتنا وأحوالنا وأطوارنا يجد الغالبية منا غافلة عن الله تعالى، غير مستسلمة له، وإنما مستسلمة لغيرها، مستسلمة لشيطانها تطيعه في كل هواجسه، مستسلمة لنفسها الأمارة بالسوء، مستسلمة لشهواتها ورغباتها اللامحدودة، مستسلمة لغيرها من الناس أمثالها، ولا يهمها سوى إرضائهم، وأن تكون كما يحبون لا كما يحب الله تعالى. وهذا عباد الله سبب من الأسباب في تجرئ العباد على كثرة المعاصي والآثام، ولا من يراقب ربه، ولا من يعود ويؤوب إليه.
تأملوا عباد الله في قول الله تعالى: “ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا”، وقوله عز وجل:” ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور “، وكلمة (أسلم وكلمة يسلم) في الآيتين من الإسلام، ويعني ذلك أن تسلّم زمام أمورك لواحد، وما أجدر الإنسان أن يسلم نفسه لمن خلقه، أليس هذا هو أفضل الأمور؟ فعندما أسلم زمامي لمن خلقني فهذا منتهى الحكمة. والإسلام هو أن تسلم زمامك لمن آمنت به إلهاً قوياً وقادراً وحكيماً وعليماً وله القيومية في كل زمان ومكان.
فأهم شيء ينبغي أن تقوم به أيها المسلم هو أن تسلم نفسك ووجهك واتجاهك ووجهتك إلى خالقك، وأن تكون مستحضرا ذلك في كل وقت وحين، وتخلص عبادتك ودينك وقصدك إلى الله تعالى وتتوكل عليه توكلا صحيحا، وتفوض أمورك لربك، وأن تحسن، بأن تعبده وكأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، لأن العبادة من غير إحسان ولا معرفة قلب لا تنفع، وبذلك تكون قد استمسكت بالعروة الوثقى، أي استمسكت بطريق لا إله إلا الله كما فسر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، وإلى الله عاقبة الأمور، أي مصير باقي أمورك، لا تدبرها ولا تحمل همها فهناك من يكفيك ذلك، وهو الله تعالى.
وساعة نسمع استفهاماً مثل قول الحق سبحانه: “وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وهو محسن؟”، فذلك يقتضي أن نفهم أن الذي أسلم وجهه لله وهو محسن هو الأحسن ديناً، وقد يسأل سائل ما معنى وهو محسن هنا؟ أقول في الجواب: كلنا آمن بالله غيباً، ولكن عندما ندخل بإيماننا بالله تعالى إلى مقام الإحسان الذي بينه النبي ﷺ، فإننا نصير نعبد الله وكأننا نراه فإن لم نكن نراه فهو يرانا.
تأملوا عباد الله في هذا الحوار الرباني الذي دار بين رسول الله ﷺ وأحد صحابته، وكان اسمه الحارث حين سأله: «كيف أصبحت يا حارث؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا. فقال رسول الله ﷺ: انظر ما تقول؛ فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت لذلك ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها (يتصايحون فيها) فقال: يا حارث عرفت فالزم ثلاثا”. وأهل الصلاح في لقاء دائم مع الله، وهم يعلمون أن كل أوقاتهم لا تخلو من نظر الله إليهم متحققون بقوله عز وجل: “وهو معكم أينما كنتم”، مستحضرون كونهم لا يغيبون عن الله طرفة عين فيستحيون أن يعصوه، وتجدهم دائما يقولون في أذكارهم صباحا ومساء: “الله معي، الله شاهدي، الله ناظر إلي”، لكي يربوا أنفسهم على أن يعبدوا ربهم وكأنهم يرونه، وعندما تتيقن أن الله ينظر إليك فكيف تعصيه؟ فالعبد لا يجرؤ أن يعصي ربه وهو متأكد من أن عبدا مساوٍ له ينظر إليه، فكيف يفعل ذلك مع الله؟، أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المستسلمين لخالقنا ومن المراقبين له في كل لحظة من لحظاتنا أمين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد، فيا عباد الله، تتميما لما ذكر، تأملوا قصة جبريل عليه السلام لما جاء لنبي الله سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، عندما ألقاه أهله في النار، فقال جبريل يا إبراهيم: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا. فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. فقال الله: “يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم”، أي أنه لا يطلب من جبريل بذاته شيئاً. وتلك قمة الإسلام لله. وتأملوا أيضا في قصته مع ابنه سيدنا إسماعيل عليه السلام، الذي ولد له في آخر حياته، وأوحى إليه ربه بقوله:” يا بني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى”؛ دققوا فالإبن لا يموت موتة الآدميين؛ ولا يقتله أحد، ولكن يقوم الأب بذبحه، ويجعل الحق ذلك برؤيا منامية لا بالوحي المباشر، وسار سيدنا إبراهيم لتنفيذ أمر ربه، ولننظر إلى ما قاله إسماعيل عليه السلام، فإنه لم يقل: افعل ما بدا لك يا أبي. ولكنه قال: “يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين”، أي أن إسماعيل وإبراهيم أسلما معاً لأمر الله واستسلما، فماذا استحق بذلك سيدنا إبراهيم؟ استحق أن يقول فيه الحق عز وجل:” إن إبراهيم كان أمة”، واستحق أن يقول فيه: “واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً”، أي اصطفاه الحق اصطفاءً خاصاً، أي لا مشاركة لأحد في مكانته.
ختاما عباد الله، قال عز وجل:” أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين”ـ دققوا فقد خلقك الله من نطفة وقدر مقاديرك كلها قبل أن تخرج للعالم، قدر أن تخرج ذكرا أو أنثى، وقدر أرزاقك وأعمالك، وقدر أتكون سعيدا أم شقيا وقدر وقت وفاتك، ولطف بك، ولما أعطاك العقل وأصبحت تميز وتفكر أصبحت خصيما مبينا لربك، عجيب أمرك أيها الإنسان. أصبحت ضدا لربك وندا له في الأرض، فالأجدر بك أن تطيعه وتستسلم له وتكون عبدا خاضعا له لا لغيره، أسأل الله تعالى أن يوفقنا لذلك، والحمد لله رب العالمين.