لتحصيل التقوى لابد من التحقق بعداوة الشيطان الرجيم
لتحصيل التقوى لابد من التحقق بعداوة الشيطان الرجيم
الأستاذ : عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم:” يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”، وذكرنا في الأسبوع الماضي بأن تذييل الله سبحانه وتعالى هذه الآية بقوله:”لعلكم تتقون” فيه بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع الصيام، فاالله سبحانه وتعالى لم يشرع للأمة صيام شهر رمضان إلا لكونه منهج تربية للإنسانية، يزكي النفس ويروضها لتصل لتقوى الله، غير أن الوصول لتقوى الله وخشيته ونيل رضاه تعالى، يواجه بعقبات جسيمة تتمثل في النفس والشيطان والدنيا والهوى، هذه العقبات الأربع التي ينبغي لكل عاقل في دار الدنيا أن يكون منها على بال حتى يغادر الحياة بسلام، وسنتوقف في هذا اليوم المبارك عند العقبة الثانية المتمثلة في الشيطان الرجيم باعتباره عدوا للإنسان يحول بينه وبين تحصيل التقوى، يقول الله عز وجل: “ألم أعهد إليكم يابني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم”، قال العلماء: المراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يزينه، عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها، وقال عز وجل في آية أخرى:” إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ”.
أيها الإخوة الكرام، إن شر النفس وفسادها ينشآن من وسوسة الشيطان كما بينا في الأسبوع الماضي، فهي مركبه وموضع شره، والشيطان اسم لكل خبيث متمرد من الجن، وإذا زاد في الخبث والتمرد يسمى عفريتا، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إبليس إذا مرت عليه الدهور وهرم عاد ابن ثلاثين سنة، وذلك في قوله تعالى:” قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ “، وهو بذلك واحد من مخلوقات الله تعالى شأنه الوعد بالشر والأمر بالفحشاء والتخويف عند الهم بالخير بالفقر، روى البيهقي والدارقطني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” بعثت داعيا ومبلغا وليس إلي من الهداية شيء، وخلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلالة شيء”، يعني أنه يوسوس ويزين المعصية وليس بيده أكثر من ذلك. وجنود إبليس الذين يستعين بهم في الوصول إلى غاياته في الناس عشرة وهم: الظلم، والخيانة، والكفر، وترك حفظ الأمانة، والنميمة، والنفاق، والخديعة، والشك في الواحد الخلاق، والمخالفة لما أمر به ذو الجلال والإكرام، والتغافل عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:” قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس” يقول: يدخل في صدور الجن كما يدخل في صدور الإنس فيوسوس في صدورهم، فإذا ذكروا الله خنس وخرج من صدورهم، وذكر عن وهب بن منبه رحمه الله أنه قال:” إن إبليس لقي يحيى بن زكريا عليهما السلام، فقال له يحيى بن زكريا: أخبرني عن طبائع ابن آدم عندكم؟ فقال إبليس: أما صنف منهم: فهو مثلك معصومون لانقدر منهم على شيء، والصنف الثاني: فهم في أيدينا كالكرة في أيدي صبيانكم وقد كفونا أنفسهم، والصنف الثالث: فهم أشد الأصناف علينا، فنقبل على أحدهم حتى ندرك منه حاجتنا ثم يفزع إلى الاستغفار فيفسد به علينا ما أدركنا منه، فلا نحن نيأس منه ولا نحن ندرك حاجتنا منه”.
أيها الإخوة الكرام، يقول الله عز وجل حكاية عن إبليس: ” قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم”، يعني أن عمل الشيطان الأول والدائم هو أن يتعرض لكل واحد منا على طريق الهداية، ويقعد له في الطريق المستقيم ويرصده ويصده ويأتيه من بين يديه، يعني من أمر الآخرة، حتى يجعله في الشك، ومن خلفه فيزين له الدنيا حتى يطمئن إليها، وعن أيمانه، يعني يأتيه من جهة الدين، وعن شمائله يعني من جهة المعاصي، ولا تجد أكثرهم شاكرين، يعني على نعم الله.
وفي هذا المقام ذكر في الخبر إن إبليس لعنه الله جاء إلى موسى عليه السلام وهو يناجي ربه، فقال له ملك من الملائكة: ويحك ما ترجو منه على هذه الحالة؟، فقال أرجو منه ما رجوت من أبيه آدم وهو في الجنة”، ويقال أيضا إذا حضر وقت الصلاة أمر إبليس جنوده بأن يتفرقوا ويأتوا الناس ويشغلوهم عن صلاتهم، فيجيء الشيطان إلى من أراد الصلاة فيشغله ليؤخرها عن وقتها، فإن لم يقدر فإنه يأمره بأن لا يتم ركوعها وسجودها وقراءتها وتسبيحها ودعواتها، فإن لم يستطع فإنه يشغل قلبه بأشغال الدنيا، فإن لم يقدر على شيء من ذلك أمر إبليس بأن يوثق هذا الشيطان ويقذف به في البحر، فإن كان يقدر على شيء من ذلك فإنه يكرمه ويبجله، اللهم يارب لا تجعل لإبليس وجنوده علينا سلطانا، أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فيا عباد الله، يحسن بي ونحن بصدد هذا الموضوع المهم أن أنبه إلى مداخل الشيطان وأبوابه الكثيرة لنكون منه على بال، فمن أهم هذه المداخل، الغضب والشهوة، فإن الغضب فيه سرعة حدة، ومهما غضب الإنسان لعب الشيطان به كما يلعب الصبي بالكرة يدحرجه كيف يشاء، ومن مداخله الحرص، فمهما كان العبد حريصا على كل شيء أعماه حرصه وأصمه، ومنها أيضا الشبع من الطعام وإن كان حلالا صافيا لا شبهة فيه، فإن الشبع يقوي الشهوات والشهوات أسلحة الشيطان، ومنها حب التزين من الأثاث والثياب والديار التي نسكنها، فإن الشيطان إذا رأى ذلك غالبا على قلب الإنسان باض فيه وفرخ، ومنها الطمع في الناس فإذا غلب الطمع على القلب لم يزل الشيطان يحبب إليه التصنع والتزين لمن طمع في ماله أو جاهه بأنواع من الرياء والتلبيس حتى يصير المطموع فيه كأنه معبوده، ومن مداخل الشيطان اللعين العجلة وترك التثبت في الأمور، ومنها الدراهم والدنانير وسائر أصناف الأموال من العروض والدواب و المواشي والعقار، فكل ما يزيد على قدر القوت والحاجة فهو مستقر الشيطان، ومن مداخله البخل وخوف الفقر، فإن ذلك هو الذي يمنع الإنسان من الإنفاق في سبيل الله ومن التصدق على المستحقين ويدعوه إلى الادخار والكنز، ومنها أيضا حمل العوام الذين لم يأخذوا العلم بالتعلم وبالدراسة بالغوص في مشكلاته بالتفكر في ذات الله تعالى وصفاته وفي أمور لا يبلغها حد عقولهم حتى يوقعهم في الشك في أصل الدين أو يخيل إليهم في الله تعالى خيالات وظنونات يتعالى الله عنها ويجل شأنه عن نسبتها إليه
ختاما اعلموا أيها الإخوة والأخوات أن ألد أعداء الشيطان هم أهل الطاعة والعبادة والإخلاص لله والصدق مع الله وخدام الدين والصادقون في توبتهم مع الله، أما رفقاؤه وأصدقاؤه وأصحابه فهم أهل المعصية ومن يمشي في طريق الضلالة، وصدق يحيى بن معاذ الرازي وهو من كبار التابعين والربانيين عندما قال: الشيطان فارغ عن الشواغل فلا يشغله إلا أن يهلكك، وأنت مشغول بأنواع المشاغيل إما دنيوية وإما أخروية، والشيطان يراك وأنت لاتراه، وأنت تنساه وهو لا ينساك، بمنع الخير وإيقاع الشر عليك، ومن نفسك للشيطان عليك أعوان، فإذن لا بد من محاربته وقهره وإلا فلا تأمن الفساد والهلاك، فعليكم عباد الله بعداوة الشيطان، واعملوا على مجاهدته ومحاربته وقهره، فإنه عدو مضل مبين ولا مطمع فيه لمصالحة، ولا وجه إذا للأمن من مثل هذا العدو والغفلة عنه، لهذا الموضوع تتمة سنأتي عليها في خطبة لاحقة بحول الله تعالى والحمد لله رب العالمين.