كيف ينبغي استثمار نفحات العشر الأوائل من ذي الحجة؟
كيف ينبغي استثمار نفحات العشر الأوائل من ذي الحجة؟
فضيلة الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، بعد يوم أو يومين ستحل العشر الأوائل من ذي الحجة، التي تبث في عمل الخير فيها أجورا عظيمة، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم مقسما بها: “والفجر وليال عشر”، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: “ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر، قالوا ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء”، وروى الإمام الطبراني والترمذي عن محمد بن مسلمة أن النبي ﷺ قال: “إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها، لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبدا”، والمؤمن الصادق في علاقته بربه يحرص على اغتنام مواسم الخير، لأنه يعلم أنها فرصة الفلاح والنجاح ونيل رضى الله تعالى وأنها أيضا سريعة الانقضاء.
عباد الله، إن الله تعالى أكرم إخوانا لنا في هذه الأيام بالحج هذه السنة، منهم الآن من هو بالبقاع الطاهرة المقدسة، ومنهم من يعد العدة للوصول إلى هنالك، ومنهم من هو في الطريق إليها، وإذا كان هؤلاء الحجاج قد تجشموا الصعاب وصرفوا الأموال والأوقات وبذلوا الأنفس والنفيس من أجل القيام بهذه الشعيرة العظيمة وتحصيل فوائد شتى في تلكم البقاع، فإن الله عز وجل جعل لكل واحد منا في مكانه وموطنه نصيبا من هذه الأعمال الصالحات في هذه الأيام المباركات.
ومن رحمته سبحانه وتعالى أنه لم يُكلِّف بأداء فريضةِ الحج غيرَ المُستَطِيع، ومن مزيد فضله سبحانه وتعالى أنه لم يحرم غيرَ المستطيع للحج أنْ يعيشَ معاني التقوى والإيمان التي يعيشها الحاجُّ، فقد شرَع الله عزَّ وجلَّ لنا أعمالَ خيرٍ وبِرٍّ، وطاعةٍ وعبادة، خاصَّة في أيَّام الحجِّ؛ ففي الوقت نفسه الذي يكون فيه الحاجُّ في مكَّة يؤدِّي المناسك، يمكن لنا في محلاتنا أن نحصِّل من الأجرِ الكثيرَ والكثيرَ، فهذه أعظَمُ عشرة أيَّام في العام كله كما أخبر سيدنا رسول الله ﷺ.
عباد الله، إن هذه العشر الأوائل من ذي الحجة جزء من الأشهر الحرم، فكما تعظم فيها أجور الطاعات، تشتد فيها العقوبة وتُغلَّظ على الذين يقترفون الآثام والذنوب والمعاصي، فبماذا إذن يستحسن أن نعمرها؟.
أول شيء يستحسن القيام به هو ملء الأوقات بذكر الله تعالى، أن نحرك ألسنتنا بالتهليل والتحميد والتكبير وغيرها من الأذكار، ونفعل كما كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يفعلون في هذه الأيام، تأملوا في كل الآيات التي يتكلم فيها المولى عز وجل عن فريضة الحج تجدوا بأن القصد الأول هو ذكر الله تعالى، يقول الله تعالى: “وأذن في الناس بالحج ياتوك رجالا وعلى كل ضامر ياتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات”، انتبهوا إلى العلة في هذه الآية إنه شهود المنافع في الحج، ومن هذه المنافع التي خصت بالذكر هنا، ذكر الله تعالى، وقال تعالى في آية أخرى مؤكدا على ذكره:” ويذكروا اسم الله”، وقال أيضا في آية أخرى:” فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين”، وفي آية أخرى في موضوع الحج نفسه يقول الله تعالى: “واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى”، ويقول أيضا: “ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله”، وفي موضوع الحج أيضا يقول:” فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا”. فلا شيء إذن أعظم من ذكر الله تعالى في هذه الأيام. قال رسول الله ﷺ فيما رواه الإمام أحمد:” ما مِنْ أيامٍ أعظمَ عند الله ولا أحبَّ إليه العملُ فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثِروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد”، أسأل الله تعالى أن يوفقنا لذلك وأن يكتب لنا ولكم أجر ذلك وأمثال أمثاله، أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فيا عباد الله، وعموما فالعمل الصالح في العشر الأوائل من ذي الحجة محبوب أيًّا كان نوعه، فيُشرع فيها كذلك قراءة القرآن، والصيام والصدقة على المحتاج والأرملة والمريض والمسكين، والدعاء، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتوبة إلى الله تعالى، والاهتمام بالأعمال القلبية، ومنها: الصدق مع الله تعالى، والإخلاص لله تعالى، والصفح والعفو عن عباد الله تعالى، والتخلص من الحقد والشحناء والبغضاء في معاملة خلق الله تعالى، وترك سائر الأعمال التي لا يحبها الله تعالى.
والذي ينبغي أن يعلم أن حكمة الباري سبحانه وتعالى اقتضت أن تكون أمة سيدنا محمد ﷺ أقلَّ الأمم عُمْرًا في هذه الدنيا، فأعمارها قصيرة، مقارنةً بأعمار الأمم السابقة لها، روى الإمام الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم مَنْ يَجُوز ذلك”، ومع كون هذه الأمة أقصر الأمم أعمارا، لكن الله تفضَّل عليها بما لم يتفضَّل به على الأمم قَبْلَها، وأكرمها بما لم يُكرم به غيرها، فقد عُوِّضَتْ ببركة أعمالها؛ فأعطاها الله أعمالا كثيرة مباركة في الثواب، وشرَع لها قُرُبات نافعة ذات أَجْر عظيم وثواب عميم، متى استثمرها المسلمُ انتفع نفعًا عظيمًا، وبذلك يكون عمره الفعلي للعبادة أطول من عمره الحقيقي.
ومما يجري عليه ذلك، العمل بهذه الفائدة العظيمة، روى الإمام الترمذي وقال حديث حسن، أن النبي ﷺ قال:” من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة”، قال رسول الله ﷺ:” تامة، تامة، تامة”، وفي رواية الإمام الطبراني:” انقلب بأجر حجة وعمرة”.
ختاما عباد الله، تعرَّضوا لنفحات الجليل واغتَنِمُوا أوقاتَكم ولا تضيعوها في الغفلة والسهو والفضول، وافعلوا الخيرَ لعلكم تفلحون، فعسى أن تُدْرِكَ المرءَ نفحةٌ من نفحات الكريم، فيسعد بذلك سعادة ما بعدها شقاء.
عباد الله، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
الدعاء لمولانا أمير المؤمنين ولكافة المسلمين.