كيف يكون الصوفي إيجابيا في مجتمعه؟

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله العلي القدير، الغني اللطيف الخبير، المنفرد بالعز والكبرياء والإرادة والتدبير، الحي العليم الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير،

تبارك الذي له الملك وهو على كل شيء قدير، نحمده سبحانه حمد عبد معترف بالعجز والتقصير، وأشكره جل وعلى، على ما أعان عليه من قصد ويسر من عسير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير له ولا وزير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة يفوز قائلها غدا يوم القيامة من الله بمغفرة وأجر كبير، وحسبنا الله ونعم الوكيل، فنعم المولى ونعم النصير.

 

ثم أما بعد
أيها الإخوة الكرام، بادئ ذي بدأ يطيب لي أن أحييكم بتحية من عند الله مباركة طيبة، فسلام الله عليكم جميعا ورحمة الله تعالى وبركاته.
وثانيا أزف إليكم سلام أشقاءكم في الجزائر، وثالثا ومن دون إطالة عنوان هذه المداخلة المتواضعة هو “كيف يكون الصوفي إيجابيا في مجتمعه؟”.
ويجدر بنا قبل أن نحلل هذا التساؤل أن نعطي ولو لمحة وجيزة عن بعض المحاور والتي أولها حد التصوف والصوفي، لغة واصطلاحا، وثانيا بعض الإيجابيات لدى الصوفي وتحديدا عند الطريقة الشاذلية، وأخيرا سأنهي هذه المداخلة بعينات من بعض رجالات ا لتصوف الذين أعطوا لنا دروسا في مجتمعاتهم.
فأقول وبالله التوفيق: التصوف من حيث الاشتقاق اختلف فيه على أقوال كثيرة، مرجعها إلى خمس كما يقول العلامة ابن حمدون المغربي، أولها أنه من الصوفة لأن الصوفي كالصوفة المطروحة لاتدبير له، وثانيا أنه من صوفة القطر لأن الصوفي هين لين كبير، وثالثا الصفة إذ مجمله اتصاف بالمحامد وترك الأوصاف المذمومة، والرابعة أنه مشتق من الصفاء، وهو أرجح الأقوال، والمختار كما في لطائف المنن عن المرسي، حتى قال أبو …. رحمة الله عليه:
تخالف الناس في الصوفي واختلفوا      حتى ظنوا جهلا أنه مشتق من الصوف
ولست امنح هذا الاسم إلا فتى     صاف كصوف حتى سمي صوفي
(في رواية غير فتى)

والخامسة أنه منقول من صفة المسجد النبوي الذي كان منزلا لأهل الصفة لأنه الصوفي تابع لهم فيما  أثبت الله لهم من الوصف حيث قال جل وعلا: (واصبر نفسك مع الدين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه). وهو الأصل الذي يرجع إليه في كل قول. وهذا ما قرره العلامة الشيخ زروق وأنشد في المدخل:
ليس التصوف لبس الصوف ترقعه   ولا بكائك إذا غنى المغنون
ولا صياح ولا رقص ولا طرب    ولا تغاش أن قد صرت مجنون
بل التصوف أن تصفو بلا كدر    وأن تتبع الحق والقرآن والدين
و أن ترى لله خاشعا مكتئبا     على ذنوبك طول الدهر محزونا
هذا بالنسبة إلى الاشتقاق من حيث الأصل. وأما اصطلاحا فالتصوف قيل فيه ما قيل، قال أبو القاسم الجنيد: “أن يميتك الحق عنك ويحييك به”. و قال أيضا “وقيل التصوف أن لا تملك شيئا ولا يملكك شيء” وقيل: “ذكر مع اجتماع ووجد مع استماع وعمل مع إتباع. وقيل أيضا “التصوف هو الإناخة على باب الحبيب وإن طرد. إلى غير ما قيل في ذلك. والصوفي الصادق كما يذكره ابن عجيبة: “علاماته أو أماراته أن يفتقر بعد الغنى، ويذل بعد العز، ويخفى بعد الشهرة. وعلامات الصوفي الكاذب عكس ذلك، أن يستغني بعد الفقر، وأن يعز بعد الذل، ويشتهر بعد الخفاء. قاله أبو حمزة البغدادي. وقديما قيل: “حب الظهور يقصم الظهور”.
وقال الحسن بن منصور: “الصوفي كالأرض يطرح عليه كل قبيح، ولا يخرج منه إلا كل مليح، ويطؤه البر والفاجر”. وقال الشبلي: “الصوفي منقطع عن الخلق متصل بالحق”. لقوله تعالى: (واصطنعتك لنفسي) .
وقال العلامة الشيخ زروق رحمة الله عليه: “قد حد التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ الألفين ترجع كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى”. وإنما هي وجوه فيه والله أعلم. ثم قال: “والاختلاف في الحقيقة الواحدة إذا كثر ذل على بعد إدراك جملتها، ثم هو أن رجع لأصل واحد يتضمن جملة ما فيها. كانت العبارة عنه بحسب ما فهم منه وجملة الأقوال واقعة على تفاصيله واعتبار كل واحد على حسب مثاله علما وعملا وذوقا وحالا وغير ذلك… والاختلاف في التصوف من ذلك.
من أجل ذلك ألحق الحافظ أبو نعيم رحمه الله بغالب أهل حليته عند تحلية كل شخص قولا من أقوالهم يناسب حاله قائلا: إن التصوف كذا فاقتضى من هذا الكلام أن كل من له نصيب من صدق التوجه له نصيب من التصوف، وأن المتصوف كل واحد صدق توجهه فافهم.
المحور الثاني: (سأذكر فيه كما أسلفت) عينة عن إيجابيات الطريقة الشاذلية.
وقبل ذلك أقول: يلاحظ المتأمل لأحكام الإسلام على اختلافها أنها مردودة إلى أساس أخلاقي، سواء في ذلك الأحكام الفرعية التي هي موضوع الفقه بحيث إذا افتقرت إلى هذا الأساس كانت صورة لا روح فيها وهيكلا فارغا من المضمون.
وقد نبه صوفية الإسلام إلى ضرورة قيام جميع الأعمال الشرعية على مبدأ الإخلاص وهو مبدأ أخلاقي هام. وإلى ذلك يشير ابن عطاء الله السكندري في حكمه قائلا: “الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها”.
وذهبوا كذلك إلى القول بسهولة العلم وصعوبة العمل فما أكثر ما تجد من العلم في الكتب بحيث يسهل عليك تحصيله أما الأخلاق فتحصيلها عسير، لأنها تكون ثمرة ممارسة شاقة، وصراع بين الإنسان ونفسه الأمارة بالسوء ليلزمها جادة الصواب. فالعلم بدون سلوك العمل الفاضل والفاصل لا قيمة له. وقد عرف الصوفية أنفسهم علمهم بأنه العلم الباحث في الأخلاق، يقول على سبيل المثال ابن القيم في مدارج السالكين: واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم على أن التصوف هو الخلق. قال الكتاني: “التصوف هو الخلق من زاد عليك في الخلق زاد عليك في الصفاء”. وعلم التصوف بهذا يعتبر مكملا لعلمي الكلام والعقيدة والفقه بل إنه يطلق على هذه العلوم الثلاثة أسم الشريعة بالمعنى العام الذي أشار إليه أيضا العلامة ابن عاشر المغربي بقوله أيضا: “في عقد الأشعر وفقه مالك وفي طريق الجنيد السالك”.
وسأشير في هذه المداخلة على سبيل المثال لا الحصر إلى ثلاثة مبادئ من مبادئ التصوف تذل على إيجابية واضحة في التفكير والعمل؟
أول هذه المبادئ مبدأ محاسبة النفس، وثانيها مبدأ الزهد، وثالثها مبدأ الحرية.
أول هذه المبادئ هو مبدأ محاسبة النفس، وهو عند ابن عطاء الله وعند غيره من الصوفية هو مبدأ ايجابي هام في التغير الاجتماعي وهو عندهم بداية الطريق بحيث إذا لم يصح لم يصح التصوف. ولو لم يكن في التصوف الإسلامي إلا هذا المبدأ لكان من ألزم ما يكون لمجتمعنا هذا المرحلة التي يمر بها من تطور لأن محاسبة النفس ومخالفة أهوائها مما يدفع الإنسان دفعا إلى العمل الايجابي والإخلاص فيه. وخاصة في مجتمعه مع تقدير كامل للمسؤولية، ولو حاسب كل واحد منا نفسه عما قدمه لمجتمعه لكان هذا كفيلا بتصحيح كثير من الأوضاع الخاطئة. وما أجمل ما يقوله ابن عطاء الله في محاسبة النفس: “أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضى عن النفس. وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضى منك عنها”.
ثاني هذه المبادئ مبدأ الزهد: ومعناه أن يكون الإنسان معرضا عنك كل ما يملك لا أن يكون معرضا عما لا يملك فإن من لا يملك شيئا ففيما يكون زاهد. وهذا الزهد الذي هو أحد أركان التصوف، وهو الايجابي في المجتمع بالنسبة للصوفي. يستمد من أدب القرآن وسنة الرسول وطريقة الصحابة رضوان الله عليهم.
فقد حملت كنوز كسرى إلى عمر بن الخطاب فنظر إليها وقال: “اللهم إني أعلم انك تقول في كتابك الكريم سنستدرجهم في ذلك من حيث لا يعلمون. وأمر بوضعها في بيت المال حتى لا يفتتن بها.
ويؤدي الزهد أيضا إلى الثبات النفسي، وما أجمل ما يقول ابن عطاء الله: للزاهد في الدنيا علامتان: علامة في فقدها، وعلامة في وجدها. فالعلامة التي في وجدها الإيثار منها، والعلامة التي في فقدها وجود الراحة النفسية منها. والإيثار أخوة الإيمان هو شكر للنعمة الوجدان ووجود الراحة منها شكر لنعمة الفقدان. وبهذا كله يصبح الزهد شعارا للمجتمعات الجادة التي تريد بناء نفسها وتحقيق تقدمها، لأن المجتمعات لا يركن أفرادها إلى حياة الترف والكسل والتهالك عن الكماليات.
وثالث هذه المبادئ الإيجابية مبدأ الحرية، فقد كان لصوفية الإسلام مفهوما عميقا للحرية بحيث يحق لنا أن نفخر به، وهم يستمدونه أساسا من الكتاب والسنة ذلك. إن الإنسان في رأيهم لا يكون حرا بالمعنى العادي أو بالمعنى الحقيقي للحرية إلا إذا ارتفع فوق شهواته وأهوائه ونزواته بإرادته. أي بفعله الحر وهم يعيبون على الإنسان تمزقه الروحي بين اللذة والألم فنحن في العادة نفخر حين تقبل على الدنيا بأسبابها وقد يحدث أن تزول هذه الأسباب على الرغم منا فنتألم لذلك أشد الألم وتصبح حياتنا بين تعاقب الفرح والألم عذابا نفسيا لا يطاق. إلى غير ما قيل في هذا المبدأ من كلام.
حتى لا أطيل أشير أخيرا إلى بعض العينات من رجالات التصوف الذين بينوا لنا إيجابية وجودهم في مجتمعاتهم ففي المشرق العربي مثلا: السري القسطي هذا خال الجنيد، يروى أنه ذات يوم كان في المسجد يقيم الليل من صلاة، وتلاوة لكتاب الله وذكر، وقد غلبته عيناه فنام بالقرب من المحراب ورجلاه إلى القبلة. وإذا بهاتف يقول له أتمد رجليك بحضرتنا، قال فاستيقظت مرعوبا وحلفت نذرا (والنذر هو أن تجيب على نفسك ما ليس بواجب كما يقول الفقهاء) أن لا أنام في حياتي قط. وحقيقة يقول عنه أبو القاسم الجنيد: “والله ما رأيناه نائما ولا مضطجعا لا في الليل ولا في النهار إلا في مرض موته فقد بلغ ثمان وتسعين سنة”. هذا واحد من الرجال العظام، من بين هؤلاء أيضا أحد الصوفية العظام في بلاد الجزائر وهو الشيخ أحمد بن المصطفى بن عليوى ويعرف بالشيخ العلوي دفين مدينة مستغانم سنة 1914 في العقد الثاني من القرن الماضي فتحت السلطات الفرنسية مسجد باريس واستدعت علماء وأحبار ورهبان من شتى الأقطار والبلدان وكان من بين الحضور هذا الشيخ الزاهد الشيخ العلوي رحمه الله شيخ يرتدي جبة وقد وضعها فوق رأسه مطأطأ لرأسه وأثناء الافتتاح بدأت الصحافة الفرنسية تقدم الحاضرين من بينهم القساوسة من الأحبار والرهبان وخريجي جامعة السربون فجاءوا إلى الشيخ هذا بن عليوة وقالوا له من أي جامعة تخرجت فانظروا كيف كانت الإجابة قال بداهة: “تخرجت من الجامعة التي تخرج منها عيسى بن مريم (عيسى بن مريم لم يتخرج من جامعة السربون قط ولا من أية جامعة أخرى). وإنما تخرج من الجامعة الإلهية. وهكذا كان رجال التصوف. شيخ آخر في وسط الجزائر وكان أيضا في بداية القرن الماضي وهو الشيخ المشرقي من مدينة صغيرة اسمها العطاف من عمالة عين الدفلة هذا الرجل في ذلك الوقت إبان الاستعمار الفرنسي كان يأخذ القمح والزرع والحنطة من زكاة الفلاحين، ويجمعها خوف تمسيح أهل البلد، لأن تمت بعض المسيحيين الذين جاؤوا إلى هذه المنطقة تحديدا لأنها كانت فقيرة ولكنهم ما استطاعوا وقد بعث أحد المسيحيين المختصين لهذه العملية إلى كاردينال باريس يخبره قائلا: كل ما نبنيه في الليل أو في النهار يهدمه المشرقي. هذا الشيخ رحمة الله عليه استطاع أن يبعد هؤلاء الناس والفقراء والأيتام عن الدخول إلى المسيحية.
شيخ أخر في منطقة غريس (و هي المنطقة التي نبغ فيها الأمير عبد القادر الجزائري) هذا الشيخ اسمه أبو عبد الله الغريسي من إيجابياته أنه كان فقيها عالما في شتى الفنون. ولكنه كان محتاجا إلى الشعر لا يعرف علم العروض والقوافي. فسافر إلى قرية قريبة من بلدته معسكر اسمها المحمدية. ودرس على بعض الشيوخ هذا العلم ورجع من أجل أن يكون ايجابيا في نشر الدعوة الصوفية في البلد بالشعر أيضا وترك لنا ديوانا عظيما أذكر منه بعض الأبيات يقول من خلالها:
سقوني وقالوا لا تغني ولوا سقو   جبال حنين ما سقوني لغنتي
سقوني خمرا عتيقا عما التذاذه    أجزائي بإسرها سر بكليتي
سقوني خمرا فزال عقلي بين الورى  وأوصوني بالكتمان في حال فيضتي
فقلت عفا الإله عني وعنكم   إذا فاضت الأمواج هل من حيلتي
حلوني جمالا لو حلوه لصخرة   لغنت وتاهت في الورى بفصاحتي
إذن أقف عند هذا الحد، والله أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه. وأتمنى أن تكون هذه الكلمة نابعة من القلب حتى تصل إلى القلوب كما قيل قديما. ونسأل الله تبارك و تعالى أن يجعل هذا الجمع جمعا تعمه الرحمات والنفحات الإلهية. وأسأل الله سبحانه عز وجل أن يسدي الخير لهذه الزاوية وأن يجعلها منارة للقرآن والعلم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون والحمد لله رب العالمين.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *