كيف يكون الابتلاء في أحوال الشدة وفي أحوال الرخاء؟
كيف يكون الابتلاء في أحوال الشدة وفي أحوال الرخاء؟
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لاأحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله،قال الله تعالى في كتابه الكريم:” وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُم، إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ “، وصح في المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ ثَلَاثَةً في بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، بَدَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فأتَى الأبْرَصَ، فَقالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ؛ قدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عنْه، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا، وَجِلْدًا حَسَنًا، فَقالَ: أَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: الإبِلُ، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا، وَأَتَى الأقْرَعَ فَقالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هذا؛ قدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قالَ: فأيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: البَقَرُ، قالَ: فأعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقالَ: يُبَارَكُ لكَ فِيهَا، وَأَتَى الأعْمَى فَقالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَأُبْصِر به النَّاسَ، قالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قالَ: فأيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ الغَنَمُ: فأعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هذانِ وَوَلَّدَ هذا، فَكانَ لِهذا وَادٍ مِن إِبِلٍ، وَلِهذا وَادٍ مِن بَقَرٍ، وَلِهذا وَادٍ مِن غَنَمٍ، ثُمَّ إنَّه أَتَى الأبْرَصَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، أَي أَنَّ المَلَكَ أتَى الأَبْرَصَ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ أَبْرَص، فَقالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ، تَقَطَّعَتْ بيَ الحِبَالُ في سَفَرِي، فلا بَلَاغَ اليومَ إِلَّا باللَّهِ ثُمَّ بكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ، وَالجِلْدَ الحَسَنَ، وَالمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عليه في سَفَرِي، فَقالَ له: إنَّ الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، فَقالَ له: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فقِيرًا فأعْطَاكَ اللَّهُ؟ فَقالَ: لقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عن كَابِرٍ، فَقالَ: إنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إلى ما كُنْتَ، وَأَتَى الأقْرَعَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقالَ له: مِثْلَ ما قالَ لِهذا، فَرَدَّ عليه مِثْلَ ما رَدَّ عليه هذا، فَقالَ: إنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إلى ما كُنْتَ، وَأَتَى الأعْمَى في صُورَتِهِ، فَقالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بيَ الحِبَالُ في سَفَرِي، فلا بَلَاغَ اليومَ إِلَّا باللَّهِ ثُمَّ بكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بهَا في سَفَرِي، فَقالَ: قدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفقِيرًا فقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ ما شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لاأجْهدُكَ اليومَ بشيءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فإنَّما ابْتُلِيتُمْ؛ فقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ علَى صَاحِبَيْكَ”.
نعم عباد الله، إنها قِصَّةُ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ تَقَلَّبَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا بَيْنَ بَلَاءٍ بِالمَرَضِ وَبَلَاءٍ بِالنَّعِيمِ، هَذِهِ القِصَّةُالعجيبة مَلِيْئَةٌ بِالدُّرُوسِ وَالعِبَرِ والمواعظ، فَمِنْ ذلك إِثْبَاتُ المَلَائِكَةِ واجتماعها ببني الإنسان بقصد الاختبار والامتحان، وَالمَلَائِكَةُ عَالَمٌ غَيْبِيٌّ، خَلَقَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ نُورٍ، وَجَعَلَ لَهُمْ قُوَّةً فِي تَنْفِيذِ أَمْرِهِ، وَجَعَلَ لَهُمْ إِرَادَةً فِي طَاعَةِ اللهِ، فَهُمْ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ،وَفِي الحَدِيثِ أيضا إِثْبَاتُ أَنَّ المَلَائِكَةَ قَدْ يَتَشَكَلُونَ عَلَى صُورَةِ بَنِي آَدَمَ، فَإِنَّ الملَكَ أَتَى لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ بِصُورَةِ إِنْسَانٍ،وليس ذلك بغريب فقد قال الله عز وجل مخبرا عن ليلة القدر:” تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر”، وبينت الأحاديث بأن الملائكة يومئذ في الأرض كعدد الحصى، ويمكن أن يسلموا على الناس ويدعون ويستغفرون لهم، وَمعروف أيضا بأن سيدنا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام كان يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَلَى صُورَةِ الصحابي الجليل دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فلننتبه إذن فنحن أيضا معرضون للاختبار والابتلاء في كل لحظة من حياتنا.
وَمِنْ فَوَائد القصة أيضا أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ اِبْتِلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ اِبْتِلَاؤُهُم بِالمَرَضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بِالفَقْرِ، وَآخَرُونَ يُبْلَونَ بِالصِّحَةِ وَالغِنَى أَوْ غَيْرِهَا، فَالبَلَاءُ لايَكُونُ دَائِمًا بِالشِّدَةِ، بَلْ يَكُونُ فِي أَحْيَانٍ كَثِيرَةٍ بالرَّخَاءِ، قال عز وجل:”وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”، فَمَنْ يَتَأَمَلُ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَفَكَرَ فِي حَالِهِ، فَلَرُبَمَا كَانَ مُبْتَلَىً وَهُوَ لَايَشْعُرُ، وَالمعروف أَنَّ فِتَنَ السَّرَاءِ أَصْعَبَ فِي التَّوَقِي وَالتَّحَرُزِ مِنْ فِتَنِ الضَّرَاءِ عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنَ النَّاس، قَالَ سيدنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:” اِبْتُلِينَا بالضَّرَّاء فَصَبَرْنَا، وَاِبْتُلَيْنَا بالسَّرِاءِ فَلَمْ نَصْبَرْ”، وَمِنْ فَوَائِدِ الحَدِيْثِ أيضا: أَهَمِّيَةُ شُكْرِ النِّعَمْ،أنظروا لَمَّا شَكَرَ الأَعْمَى نِعْمَةَ رَبِّهِ عَلَيْهِ، وَأَدَّى شُكْرَهَا عَلَى الوَجْهِ المَطْلُوبِ، بَيْنَمَا أَنْكَرَ صَاحِبَاهُ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمَا؛ قَالَ لَهُ الملك :”قَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ علَى صَاحِبَيْكَ”، هذا هو جزاء من يشكر النعمة ولايسخطها، أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما سمعنا أمين وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد، فياعباد الله، إِنَّ شُكْرَ اللهِ لَيْسَ قَوْلاً بِاللِّسَانِ فَحَسْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ أَدَاءٌ لِحَقِّ هَذِهِ النِّعَمِ بِالوُقُوفِ مَعَ مَنْ فَقَدَهَا، وَبِالتَّوَاضُعِ وَنِسْبَةِ الفَضْلِ لِصَاحِبِ الفَضْلِجَلَّ جَلَالُهُ، وَعَدَمِ التَّكَبُرِ عَلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ، فالناس تتفاوت في شكر نعمة الله ونفع عباد الله، رَوَى الإمام مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ:”اُنْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ”.
وَمِنْ الفَوَائِدِ التي نستفيدها من القصة الآنف ذكرها،أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الّذِي يُعْطِي وَيَمْنَعُ؛ فَالرِّزْقُ مِنْ عِنْدِهِ، وَالشِّفَاءُ مِنْهُ، وَالبَرَكَةُ مِنْ عِنْدِهِ، وَهِدَايَةُ الزَّوْجَةِ وَالوَلَدِ كُلُّهَا بِأَمْرِه، وَتَيْسِيرُ الأمور بِيَدِهِ، فَبِلَحْظَةٍ إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى تَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال كما يقال، تأملوا جيدا الملَكُيَمْسَحُ عَلَى الأَبْرَصِ فَيَرْجِعُ جِلْدُهُ صَحيحًا سَلِيْمًا، وَيْمسَحُ عَلَى الأَقْرَعِ فَيُصْبِحُ مِنْ سَاعَتِهِ ذَا شَعرٍ يَرَاهُ النَّاسُ، وَيَمْسَحُ عَلَى الأَعْمَى فَيْفْتَحُ عَيْنَيْهِ، فإِذَا عَلِمْنا ذَلِكَ فَلماذانعَلِّقُ آمَالَنا بِالنَّاسِ وبالغير،فلَا مَانِعَ مِنْ بَذْلِ الأَسْبَابِ،ولَكِنْ نتَعَلَّقْ بِمُسَبِّبِ الأَسْبَابِ. ومن الفوائد أيضا:فضل الصدقة والحث على الرفق بالضعفاء وإكرامهم وتبليغهم مآربهم، والزجر عن البخل لأنه حمل صاحبه على الكذب وعلى جحد نعمة الله تعالى.
ختاما عباد الله، روى ابن أبي الدنيا عن علي بن أبي طالب أنه قال لرجل من همذان: “إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر متعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، ولن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد”، والحمد لله رب العالمين.