كلمة مولاي إسماعيل في الندوة العلمية الدولية 2024

كلمة مولاي إسماعيل بصير في الندوة العلمية الدولية 2024

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على سيدنا محمدِ سيدِ الكائنات، وعلى آله وصحبه أصحابِ الرتبِ العاليات، تسليما كثيرا مبارَكا فيه إلى يوم تُبلى فيه السرائرُ وتُكشفُ فيه النيات.
السيدُ والي صاحبِ الجلالة على جهة بني ملال خنيفرة المحترم.
السيدُ عاملُ صاحبِ الجلالة على إقليم أزيلال المحترم.
السيدُ رئيسُ الجهةِ المحترم.
السادةُ رؤساءُ المصالح الخارجية المرافقين للسيد الوالي وللسيد العاملِ؛ كلٌّ باسمه وصفتِه ورتبتِه.
السادةُ الضيوفُ القادمون من الأقاليم الصحراويةِ الجنوبية الغالية.
السادةُ رؤساءُ وأعضاءُ المجالسِ العلميةِ المحترمون.
السادةُ العلماءُ وشيوخُ الطرقِ الصوفية، والدكاترةُ والأكاديميون، والأساتذةُ المشاركون في أعمال هذه الندوة العلمية من داخل المغرب وخارجه.
السيدُ رئيسُ جامعةِ السلطان مولاي سليمانَ المحترم.
السيدُ عميدُ كليةِ الآداب والعلوم الإنسانية، والسادةُ الأساتذةُ المحترمون.
السادةُ رؤساءُ الشُّعبِ والمختبرات العلمية بالجامعات المغربية.
السادةُ البرلمانيون والمنتخبون.
السادةُ أساتذةُ التربية الإسلامية.
السادةُ شيوخُ ومقدمو ومريدو وأحبابُ الطرقِ الصوفية.
السادةُ أعضاءُ مؤسسة محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام بإقليمي أزيلال والعيون.
السادةُ أطرُ وأعوانُ مدارسِ الشيخ سيدي إبراهيم البصير للتعليم العتيق.
السادةُ رجالُ الإعلام والصحافة.
أيتها السيداتُ أيها السادةُ الحاضرون الكرام؛
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
بدايةً، يُشرفني ويُسعدني أصالةً عن نفسي ونيابةً عن آل البصير ومريدي الطريقة البصيرية ومقدميها وأساتذةِ مدراس الشيخ سيدي إبراهيم البصير الخاصة للتعليم العتيق وطلبتها، وأعضاءِ مؤسسة محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام بكل فروعها، أن أرحبَ بجمعكم المبارَك في هذه الزاويةِ العامرة بالله، وأرحبَ بكل من أتانا ليشاركَنا أعمالَ هذه الندوةِ العلمية الدولية التي نُنظمها تحتَ الرعاية السامية لمولانا أمير المؤمنين، صاحبِ الجلالة الملك محمدٍ السادسِ حفظه الله ونصره، والتي تخلّد الذكرى الرابعةَ والخمسينَ لانتفاضة سيدي محمد بصير الشهيرةِ بمدينة العيون.
واسمحوا لي باسمكم جميعا أن أرحبَ بشكل خاص بالسادة العلماء والأساتذة المبجَّلين والأكاديميين الذين استجابوا لدعوتنا ووافقوا مشكورين على المشاركة في أعمال هذه الندوة، وأخص بالذكر ضيوفَنا من دول: فلسطينَ، المملكةِ الأردنيةِ الهاشميةِ، جمهوريةِ مصرَ العربيةِ، سوريا، العراقِ، تركيا، موريتانيا، الجزائرِ، تونسَ، السودانِ، نيجيريا، كينيا، بوركينا فاصو، السنغال، جيبوتي، باكستانَ، بريطانيا، ألمانيا، إسبانيا، فرنسا، وجنوبِ إفريقيا، جزاهم الله عنا كل خير آمين.
وإن نسيت لا أنسى أن أقولَ: مرحبا، وألفُ مرحبا لاحدَّ لها ولا حصرَ، لإخواننا وأبناءِ عمومتِنا من أهلِ الصحراء المغربية، الذين وصلوا رحمهم وأبناءَ عمومتهم في قلب جبال الأطلس المتوسط قلبِ المغرب، وصلهم اللهُ بكل خير.
أيتها السيداتُ، أيها السادةُ الحاضرون الكرام؛
نجتمعُ بكم اليومَ لتخليد ذكرى انتفاضة المجاهد المغربيِّ سيدي محمد بصير، زعيمِ انتفاضة العيون يومَ 17 يونيو 1970م ضد الاستعمار الإسباني، وهي نفسُها ذكرى اختفائه القسري، التي نعتبر الدولةَ الإسبانيةَ مسؤولةً عنها يومَ كانت تستعمر الصحراء المغربية، ونتأسف من كونها ولحد الساعة لم تعترفْ بمسؤوليتها عن الاختفاء القسري، رغمَ أننا نطالبها بالحلِّ الوديِّ دون تبعات أخرى، ونؤكد مطالباتِنا الحبيةَ لها اليوم، خاصة أنها اعترفت بالحكم الذاتيِّ باعتباره حلا ناجعا للنزاع المفتعل حولَ مغربية الصحراء، وأنها أصبحت تنهَج سياسةَ التسامح والمصالحة في التعامل مع الكتلانيين، ومع ذاكرتها بصفة عامة، وكل ما نطالبها به اليومَ وهو الكشفُ فقط عن مصير المجاهد محمد بصير، ليُكَرَّمَ تكريمَ المقاوِمين المغاربة، ويدفَنَ جوارَ والدِه ووالدته وإخوانه وأخواته في مقبرة الزاوية البصيرية ببني اعياط بإقليم أزيلال.
ونقول للدولة الإسبانية بهذا الخصوص: ها نحن نمُدُّ إليك أيديَنا وديا وحبيا ودون متابعات أخرى لمساعدتك على استعادة الذاكرة وترميمِها دَرءا لأعطاب الماضي.
ونحن نقول هذا الكلامَ نتأسف مرة أخرى من كون قيادات الدُّوَيلة المزعومة لازالت تستغلُّ اسمَ المناضل محمد بصير أبشعَ استغلال دون وجه حق، ولعلكم تابعتم هذه الأيامَ انقسامَهم واختلافَهم وهم يمثلون على العالم حين الاحتفال بذكراه، بين من يُصرّ على نسبته إليهم زورا وبهتانا، وبين من أنكره جملة وتفصيلا، وهذا الاختلافُ الحادُّ حوله بينهم، كافٍ في الدَّلالة على أن المناضلَ سيدي محمد بصير بريء منهم إلى قيام الساعة، وبريء من أفكارهم الشيطانيةِ الداعية إلى الانفصال والانقسام بين أهل الوطن الواحد، ولْنُدققْ، ففي هذا الاختلافِ حولَه أعظمُ الرسائل لإخواننا وأبناء عمومتنا الصحراويين.
إن حقيقة المناضل هي ما تسمعون من أفراد عائلته، ويكفي الزاويةَ البصيريةَ ومؤسساتِها هذه الرعايةُ الساميةُ المتواصلةُ لمولانا أمير المؤمنين جلالةِ الملك محمدٍ السادسِ حفظه الله ونصره لذكرى المجاهد سيدي محمد بصير، فهي كافيةٌ في الدَّلالة على وطنيته الحقةِ أحبَّ من أحب وكره من كره.
أيتها السيداتُ أيها السادة، نجتمع بكم اليومَ كذلك في إطار فعاليات الندوة العلمية الدولية التي عوّدتْكم المؤسسةُ تنظيمها كلَّ عام بهذه المناسبةِ لمناقشة موضوع راهنيٍّ مهم نافع، يُهِمُّ الفردَ والمجتمع والوطن والأمة جمعاء، ويثير إشكالياتٍ عديدةً، ليكونَ محورا للنقاش بين السادة العلماء والشيوخ والأكاديميين المشاركين.
وبذلكم ارتأينا أن ننظمَها هذه السنةَ تحت شعار: “الدعوةُ إلى الله عندَ الصوفية: التنظيرُ والعملُ”، هذا الموضوعُ المهم في حياة الأمة الإسلامية وتقدمِها، غدا حساسا وشائكا ودقيقا ومتعددَ الجوانب في أيامنا هذه، وفي الآن نفسِه يُعدُّ موضوعا خطيرا، إذا أُسيء فهمُه وتم استخدامُ الأساليب المبتورة في التبليغ، مما ينعكسُ سلبا على فهم دين الإسلام وتقديمِه للعالَم بشكل قاصر.
فعندما نتكلم عن موضوع الدعوة إلى الله تعالى عند السادة الصوفية، فلأنّ الدعوةَ إلى الله تعالى تُعَدُّ عملَهم الأولَ وشغلَهم الشاغلَ منذ عرَفوا اللهَ تعالى وندبوا أنفسهم في خدمة سبيله، فقد اتخذوا من قول الله عز وجل: “﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ ‌إِنَّنِي ‌مِنَ ‌الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33] شعارا لهم، خاصة أن الجوابَ على هذا السؤالِ يقتضي أن نقول: لا أحدَ أحسنُ من هذا الذي يدعو إلى الله تعالى، ولا قَوْلَ أحسنُ من قوله، وهذا مدح من الحق سبحانه، يمدح منزلة الدعوة إليه ويجعلُها أحسنَ ما يقولُ الإنسان.
لذلك جعل السادةُ الصوفيةُ ما أسموه بالسياحة الصوفيةِ الدعوية، عملَهم الأولَ في التواصل مع الناس، وهم ينتقلون من منطقة إلى منطقة، ومن قبيلة إلى قبيلة، ومن دوار إلى دوار، بقصد دعوة الناس للتوبة، وتعليمِهم الضروريَّ من علوم الدين، وما يتصل بتزكية النفس ومعرفةِ الله تعالى كما ينبغي أن يُعرف، وإرشادِهم إلى الخير، وبناءِ المساجد، وإصلاحِ ذات البين. وغيرِها من الأعمال والأدوار.
ولْنتأمّلْ في حال الشيخ سيدي إبراهيمَ البصير الرقيبي، شيخِ الطريقة البصيرية، وصاحبِ هذه الزاويةِ التي نجتمع فيها اليومَ، فأصولُه تعود إلى الصحراء المغربية كما تعلمون، ولكن ما الذي أوصله إلى جبال الأطلسِ المتوسط؟ هذا المكانُ الذي يبعُد عن أصوله بأكثرَ من ألف كيلو متر، أقول في الجواب باختصار: إن واجب القيام بالدعوة إلى الله تعالى، هو الذي حرّكه، وهو الذي جعله يتنقل من الصحراء المغربية، ثم إلى منطقة الأخصاص بسوس، والتي دخلها سنةَ 1820م، ثم إلى إلِغ بسوس، ثم إلى اصبوية بسوس، ثم إلى مركشَ، ثم إلى الرحامنة، ثم إلى دكالة، ثم إلى منطقة البروج بالشاوية، ثم إلى الزيدانية نواحي بني ملال، ثم إلى إيرزان نواحي سدّ بين الويدان، ثم إلى آيت وايو ببني عياط الجبلية، ثم إلى بني عياط السهلية سنة 1920م، دققوا فهي مئةُ سنة من الحركة في رحاب الدعوة إلى الله تعالى.
وبعد تأسيس الزاوية هنا في بني اعياط، انطلق انطلاقةً أخرى صحبةَ مريديه وعلماءِ الزاوية يجوب غالبيةَ دواويرِ سهْل تادلةَ، ودواويرِ قبيلةِ بني اعمير، ودواويرِ قبيلةِ ازعير، ودواويرِ قبيلة الشاوية، ثم الدار البيضاء التي أسس فيها الزاويةَ بالحبوس سنة 1930م، وفي كلّ هذه المناطقِ داعيا إلى الله تعالى، وكان من ثمار ذلك أنه خلَّف فيها عشراتِ الزوايا، وآلافَ المريدين من المواطنين والمواطنات الصالحين والصالحات.
ولكم أن تتصوروا حجمَ المعاناة والتضحيات الجسام والصبر والنفس الطويلين التي اتصف بها هذا الشيخُ ومن كان في صحبته، إذا علمتم أن سياحاتِه الصوفيةَ الدعويةَ في كل هذه المناطقِ كانت على الدواب حينا، وعلى الأرجل حينا آخر، ووصلوا مناطق لا يمكن أن يصلَها إلا صاحبُ الإيمان واليقين، المؤمنُ برسالة الدعوة إلى الله تعالى، وأنهم كانوا عندما يصلون الأماكنَ التي كانوا يقصدونها، يُقيمون الخيام التي يحملونها معهم لاستقبال الناس طوالَ المدة التي يقيمونها هناك، ناهيكم عن الظروف القاسية التي ميزت هذه الفترةَ والمغربُ تحتَ وطأة الاستعمار ، وقلة ذات اليد، وعدمِ وجود طرق معبَّدة سالكةٍ، وفُشُوِّ الجهل بين الأغلبية من الناس وما إلى هنالك.
اسمعوا على سبيل المثال لا الحصر إلى بعض مما ذكره العلامةُ سيدي محمد المختار السوسي رحمه الله عن رحلة الشيخ سيدي إبراهيم البصير الدعويةِ، قال: “ثم مرَرنا بالرحامنة، فتوجهنا لنقطعَ الواديَ في مَشرَع الحليب، ولكن لم نملك درهما واحدا نقطع به، فبينما نحن في فُسطاط يَقرأ فيه من معي حزبَ القرآن ثم الحكمَ العطائيةَ، إذا بأهل قرية هناك جاؤونا وقالوا: إننا نقطعُكم على ظهورنا على وجه الله، ورجاء دعوتكم، فدخلنا في بلاد بني مسكين، فوجدنا البلادَ مكتظةً بحفظة كتاب الله وقراءِ السبع، ويكاد يكون حفظةُ القرآن نحوَ نصف السكان، وذلك من أجل أن عندهم قائدا يحرر كلَّ من حفظ القرآن، ويزداد حظوةَ إن حفظ السبع، فترامَ الناسُ على ذلك قصدَ الهروب من المغارم، ولكن وجدنا الصلاةَ قليلةً، وكم من بين حافظ للسبع، ما وضعَ قطُّ جبهتَه على الأرض، فأقبلنا على إرشادهم وموعظتهم، ونعظهم بقَبول أداء الصلاة، حتى إن الناس يُسمّون ذلك العام، العامَ الذي جاءتنا فيه الصلاة، فأَعجبَنا منهم حسْنُ القَبول، ورقّةُ القَبول ولم يكن إلا قليلٌ حتى شاع الخبرُ بأن أناسا جاؤوا يتتبعون القُرى، يعلمون الناس الدين والتوحيد والحلال من الحرام، فيأتينا الناس من أطراف القبائل تائبين، فتكوَّن لنا مجمَعٌ كبير، ومتى توجهنا إلى قرية يتلقانا أهلُها بالأعلام والأفراح، فشاهدنا من علامة إذن شيخنا وبركته ما نتعجَّب منه، فيتوبُ الناس أفواجا أفواجا، وهناك في قرية أولاد موسى من بني يخلوك…أقبلْنا على إرشاد الناس، وهم كأنما يبتدؤون الإيمانَ من جديد، فلا توحيدَ خالص، ولا صلاةَ، ولا حلالَ من حرام، وشتان ما بين هذه البلادِ وبين البلاد التي خلّفناها في سوس، وفي الحوز وراءَنا، وقد مشَيْنا في كل تادلة إلى أن وصلنا إلى أبي الجعد، ثم رجعنا أدراجنا لنتفقد الفقراء حتى وصلنا بني مسكين…إلخ .
فأيُّ همة هذه؟ وأيُّ إرادة هذه؟ وأي نشاط هذا الذي امتلكه هؤلاء الرجالُ الأفذاذُ في أمر الدعوة إلى الله تعالى؟ فقد حملوا بحق شعار: “من عرف ما قصد هان عليه ما وجد”، فما أحرانا إلى التشبه بهم وقد توفر لنا اليومَ كلُّ شيء مما لم يتوفر لهم.
ولا شك أيها السادةُ أيتها السيداتُ أن كلَّ زاوية وكلَّ طريقة من الطرق الصوفية في أنحاء العالم، كان هذا هو حالَ شيوخها الأوائل في علاقتهم بدعوة الناس إلى الله تعالى، وفي هذا المقامِ، فلنتأمل في الأدوار الكبرى التي لعبتها الرباطاتُ والزوايا في المجتمع المغربيِّ عبرَ التاريخ، فقد علمت وأرشدت وربّت وبنت وقاومت وجاهدت وأصلحت…إلخ، فحياةُ شيوخ الزوايا رحمهم الله كلُّها دعوةٌ وإرشادٌ في سبيل الله تعالى، دعوةٌ حقيقيةٌ صادقةٌ مخلصةٌ، تجاوزت التنظيرَ إلى العمل الميدانيِّ الحقيقيّ.
ونحن نذكر هذا الكلامَ عن تاريخ مشايخ أهل التصوف ونجاحِهم الباهرِ في أمر الدعوة إلى الله تعالى، نتأسفُ في الآن نفسِه لما آل إليه حالُ غالبيةِ الزوايا والطرقِ الصوفية في أيامنا هذه، حيث تركت الدعوةَ أو كادت، واكتفت الغالبيةُ بمجالسَ أسبوعيةٍ أو موسميةٍ يجتمع فيها بعضُ المريدين لقراءة الأوراد والأذكار ثم ينصرفون إلى لقاء قادم، فلا بدَّ إذن للزوايا والطرق الصوفية أن تسعى لتطوير نفسها لمسايرة العصر، أولا بإحياء أدوارها الأولى المتعلقةِ بالتعليم والتربية والإطعام والإيواء، ثم السعيِ بعد ذلك في إنشاء مدارسَ تعليميةٍ عصريةٍ لإفادة أبناء المسلمين، ومخالطةِ المجتمع بإنشاء جمعياتٍ مسؤولةٍ ومؤسسات فاعلةٍ تابعة لها، واعتمادِ الإعلام ووسائله وتنظيمِ أنشطة إشعاعية بين الحين والآخر للتواصل مع المجتمع؛ لأن الصوفيَّ ابنُ وقته كما يقال، وفي الآن نفسِه ينبغي أن تتكاثفَ جهودُ أهل التصوف في إعانة بعضهم البعضَ والتعاضدِ بينهم لنفع الناس وتوحيدِ كلمتهم؛ لأن الأنوارَ في النهاية لا تتعارض، والذي يتعارض هو النور والظُّلمة، ولِمَ التعارضُ والتصادمُ والمقصودُ واحد؟ ولم التعارضُ والتصادم وكلٌّ يدعو لمعرفة الله والخضوعِ لله والاستسلام لله؟ فإذا كان هناك من اختلاف بين أهل التصوف فليُعلَم إذن بأن المقصودَ غيرُ الله تعالى، ويا أسفى أن يصبحَ أولُ من يدعو إلى التزكية يحتاج إلى التزكية.
وفي هذا المقام ينبغي لأهل التصوفِ كذلك توحيدُ كلمتهم، خاصة في التبرؤ من المدّعين الذين لم يسلكوا الطريقَ على أيدي الشيوخ المجازين، والذين لم يثبت لهم سندٌ في طرق أهل الله، والذين يرتكبون حماقاتٍ ويدّعون مقاماتٍ ويتلفظون بجهالات تخالف الكتابَ والسنةَ على الإطلاق، والذين كثُروا في شتى المجتمعات والأوطان، وهم بذلك يعملون على تشويه المسار الحقيقيِّ لأهل الله تعالى، حتى أصبح القلةُ ممن يسلكون على الدرب لا يدرون أيجيبون أصحابَ التيارات الدخيلة المتسمةِ بالجمود والتشدد والغلو والتطرف في الدين، أم يجيبون أهلَ الطرق الدخيلة؟
وبالمناسبة، ونحن بصدد هذا الموضوعِ، ألا يحق لنا أن نتساءل: ماذا فعلت الزوايا والطرق الصوفية في دعوة غيرها وقد توفر لها كل شيء؟ وكم خرجت من الشباب والدعاة المعتدلين الناجحين؟ وبالجملة، بماذا أفادت اليومَ مجتمعاتِها وأوطانَها وهي تعاني التحدياتِ التي لا قِبلَ لها بها؟ ولماذا اختفى شُعاع غالبية الزوايا والطرقِ الصوفية في علاقتها بالناس؟ لماذا لا تَستغلُّ هذه الثورةَ التكنولوجيةَ وقد قرَّبت كلَّ بعيد؟ أين حضورُ غالبية الزوايا والطرق في وسائل ووسائط التواصل الاجتماعي وقد سكنها كلُّ البشر؟ ماذا فعلت الزوايا والطرقُ الصوفيةُ من أجل دعوة الغربيين الذين يعانون الفراغَ الروحيَّ القاتل، ويعانون ما يعانون من الأهوال والمتاهات؟ وهل تُخطط الطرقُ الصوفيةُ والزوايا للمستقبل ليستمر نفعُها، أم أنها لا تخطط، وتترك الأمرَ حتى يتنازعَ أهلُها حولَ المشيخة وحولَ الأملاك وغيرها وتأتي نهايتُها؟ ماذا فعل أهلُ التصوف لكي يعملوا على إحياء أدوار الزوايا التاريخية التي أُغلقت وانتهى نفعُها؟
وقبل أن أختم أقول: إن هذا الذي ذكرتُه ممارسا لشيء من النقد الذاتيِّ الداخليِّ، حاثّا نفسي وإخواني على القيام بأمر الدعوة إلى الله تعالى على نفس منهج شيوخنا رحمهم الله، هو ما أرجو أن يقومَ به أهلُ كلِّ مجال من المجالات بشكل صريح وصادق، فإذا كانت ثمةَ منكراتٌ أو بدعٌ أُدخلت على علم التصوف، أو تسرّبت إليه، فأي علم وأي جماعة وأي مجال لم يندسَّ فيه الطالحون والمبتدعون؟ أم أي عقيدة لم تلتصقْ بها طفيليات؟ ولأنه دون أن نحاسبَ وننتقدَ أنفسَنا من الداخل لا يمكن أن نرتقيَ بطُرقنا في علاقتها بالله تعالى.
وقبل أن أختم، لابد أن أهنئ بلدَنا المملكةَ المغربيةَ على إطلاقها الأسبوعَ الماضيَّ للمشروع الرائد، المسمى بمشروع “تسديد التبليغ”، والذي تشرُف عليه الأمانةُ العامة للمجلس العلمي الأعلى بتنسيق مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والذي يروم تصحيحَ منهج التبليغ، حيث سيقوم علماءُ الأمة بإرشاد الناس ووعظهم ليتقلصَ البعدُ الحاصل بين كمال الدين المفضي للحياة الطيبة، وما يوجد من نقص في التدين أو الممارسة اليومية العملية للعبادات، والذي يترتب عنه الشقاء والخسران. فهو عمل عظيم سيكون له ما بعده من أثر طيب في المجتمع.
وقبل أن أختم أشكر مجددا السادةَ العلماءَ والشيوخَ والأساتذة والأكاديميين المشاركين في أشغال هذه الندوةِ العلمية الدولية، والذين سنستفيد من إضافاتهم القيمة، وتجارب زواياهم المفلِحةِ ومناهجِ علمائِهم الربانيين الرائدة، وأشكر أعضاءَ فرع مؤسسة محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام بمدينة العيون، الذين أنجزوا أعمالاً قيمةً طوال هذه السنة، ولازالوا يبرمجون ويخططون لأنشطةٍ إشعاعيةٍ رائدةٍ نافعةٍ مستقبليةٍ سيذكرها لهم التاريخُ بكل خير.
كما أشكر الشكرَ الجزيلَ المقرونَ بالاعتراف بالجميل؛ كلاًّ من السيد والي ولاية بني ملال خنيفرة، وعاملِ صاحب الجلالة على إقليم أزيلال، على تنسيقهما ومتابعتهما لأمر هذا اللقاءِ وحرصِهما على نجاحه، وعلى دعمِهما الدائمِ لأنشطة المؤسسة، وأسأل اللهَ لهما التوفيقَ والسدادَ والعونَ والحفظَ، وأن يجعلَهما دوما عند حسن ظن مولانا أميرِ المؤمنين جلالةِ الملك محمدٍ السادسِ نصره الله، الذي نسأل اللهَ تعالى أن يكلأَه بعين عنايته ويوفقَه لما فيه خيرُ وسعادةُ المغاربة وتنميةُ المغرب، وأن يباركَ في عمره، وأن يديمَ عزَّه ونصرَه، ويخلدَ في الصالحات ذكرَه، كما نسأله تعالى أن يتغمدَ بواسع رحماته والدتَه الكريمةَ، صاحبةَ السمو الملكي الأميرةَ لالة لطيفةَ، وأن يُسكنَها فسيحَ جناته، أمين، والحمدُ لله رب العالمين.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *