مداخلة الشيخ مولاي إسماعيل في موضوع: حاجة أهل التصوف إلى إصلاح وتجديد الفكر الصوفي في وقتنا الحاضر

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

السيد الكاتب العام لعمالة إقليم أزيلال المحترم.

السيد عامل صاحب الجلالة على إقليم أزيلال المحترم

السيد مدير مديرية التعليم بأزيلال

السيد رئيس المجلس العلمي المحلي لأزيلال

السيد رئيس المجلس العلمي المحلي لبني ملال

السيد رئيس دائرة أفورار .

السادة الدكاترة والأساتذة والباحثون والعلماء والطلبة المشاركون في أعمال هذه الندوة

السادة رجال الإعلام والصحافة.

أيتها السيدات، أيها السادة الحضور الكرام،السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،

بداية، يشرفني ويسعدني أن أرحب بجمعكم الكريم في هذه الزاوية العامرة بالله، وأن أشكر باسمكم وباسم المجلس الأكاديميلمؤسسة محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام وجميع أعضائهاكل من المجلس العلمي المحلي لبني ملال، ومختبر الحوار والمقاصد للأبحاث والدراسات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال، ومركز دراسات المعرفة والحضارة ببني ملال، الذين شرفوا مؤسسة محمد بصير وشاركوها فيتنظيمهذه الندوة العلمية التي ستتدارس في برنامجها الحافل على امتداد ثلاثة أيام، وخلال عشر جلسات علمية، محاور عدة، تتصل بمعالم التجربة الإصلاحية في المغرب من حيث الأسس العلمية والتجليات العملية في ارتباطها بالثوابت المغربية المتمثلة في إمارة المؤمنين والعقيدة الأشعرية والفقه المالكي والتصوف السني السلوكي الجنيدي، وذلك من خلال تحديد المفاهيم، ورصد آليات ومناهج وأبعاد الإصلاح، والوقوف على نماذج وقضايا من التجربة الإصلاحية في المغرب وبعض رموزها وأعلامها.

أيها السادة الأفاضل، مداخلتي التي أتقدم بها مفتتحا أعمال هذه الندوة المباركة موسومة بـ: “حاجة أهل التصوف إلى إصلاح وتجديد الفكر الصوفي في وقتنا الحاضر“، وهو موضوع  نريد أن نفتح من خلاله ورشا للتواصل ومجالا للنقاش بين شيوخ الطرق الصوفية والزوايا ومريديها العلماء من جهة، وغيرهم من مؤسسات ومراكز المعرفة والبحث العلمي في المغرب، بل وفي العالم الإسلامي، نقاش يفرضه ما اعترى التصوف الإسلامي اليوم من تراجع وبعد عن الأخذ من معين القرآن والسنة سواء على مستوى الفكر أم الممارسة، حيث أدخلت ممارسات بدعية منافية لما جاء في المصدَرين الأوَّلين للتشريع، ومنافية للمسلك الأصلي الصريح لسلفها الصالح، مما كان سببا في جلب الانتقاد لكل منتسب لأهل التصوف.

والغرض من مداخلة العبد الفقير ليس الانتقاد، وإنما بيان مدى حاجتنا الملحة لإصلاح وتجديد الفكر الصوفي قصد النهوض به من جديد وفق أصوله الصحيحة، فأهل التصوف الصادقين كان ديدنهم بين الحين والآخر الوقوف مع ذواتهم من أجل محاسبة أنفسهم قبل أن يحاسبهم غيرهم، ونقد ذواتهم النقد الذاتي البناء، لكن في وقتنا الحالي ابتعد جل أهل التصوف عن معينه الصافي، لأن التصوف الذي نراه اليوم من بعض المنتسبين إليه، قد ابتعد عن معايير العقل فضلاً عن الوحي، وأسقط الشريعة من الاعتبار، فأضاع أصحابُه اللبَّ واهتموا بالقشور، وهذا واقع يحتاج إلى نقد ومواجهة علميّة، لهدم بنيانه المؤسَّس على الباطل، فالمطلع على سير أهل التصوف الصادقين عبر العصور، نجدهم دائما وأبدا عبروا عن حاجتهم إلى تجديد الفكر الصوفي، اسمعوا لما قاله الإمام القشيري (ت 465هـ) عندما كتب رسالته الشهيرة في علم التصوف سنة 437هـ، قال: “ثم اعلموا رحمكم الله أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم، ولم يبق في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرُهم ،كما قيل:

أما الخيام فإنها كخيامهم           وأرى نساء الحي غير نسائها

وقد حصل الضعف في هذه الطريقة، لا بل اندرست، وقد مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقلَّ الشباب الذين كان لهم بسيرهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع وطُوي بِساطُه، واشتد الطمع وقَوِي رِباطه، وابتعدت عن القلوب حُرمة الشريعة، فعَدُّوا قلَّة المبالاة بالدِّين أوثقَ ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، كما استخفوا بأداء العبادات واستهانوا بالصوم والصلاة، ومضوا في ميدان الغَفْلات، وركنوا إلى اتباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات والارتفاق (الاستعانة) بما يأخذونه من السُّوقة (الرعية من الناس ) والنساء وذوي السلطان …”.

فإذا كان هؤلاء، وهم من شهد لهم القاصي والداني بصلاحهم يقولون هذا الكلام عن التصوف وأهله في حوالي القرن الخامس والسادس الهجري، فماذا عسانا نقول اليوم عن متصوفة هذا العصر؟

إن التصوف في أيام الناس هذه، رَأَسَه بعض المشايخ المحترفين، الذين صيَّروه حرفة يتكسبون به، مشايخ يظهر من خلال تصرفاتهم أنهم تنقصهم التزكية، فكيف سيزكُّون غيرهم؟ وآخرون تنقصهم الأهلية العلمية والكفاية وتزكية الشيوخ لهم، لا علم لهم بالقرآن والسنة وأحكام الشريعة، يرون مريديهم متلبسين بالبدع والخروج عن السنة في مجالسهم ولا ينكرونها.كما أن منهم من يعيش تناقضا واضحا في علاقته بربه وبدينه وبالناس، تجده بين يدي شيخه ومع إخوانه المريدين يظهر كالملاك قولا وفعلا، وإذا كان مع غيرهم لا يعكس إلا صورته الحقيقية المضادة.

ومن آفات التصوف في الوقت الحاضر بعد المنخرطين في حقله عن الاستقامة واهتمامهم بالكرامات والرؤى والمنامات، والكلام حول المقامات وادعاء كل ذلك، في حين إذا اختبرتهم في كيفية الاحتراز من النجاسات والقيام بالعبادات تجدهم للأسف الشديد كالخشب المسندة، ويرحم الله الشيخ مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه (ت 1239هـ) شيخ الطريقة الدرقاوية، الذي كان لا يقبل المريد مريدا لديه حتى يختبره في أمور الطهارة والصلاة، فإن اجتاز الاختبار قبله، وإلا صرفه حتى يتعلم.

وبعض الشيوخ بدل أن يقوموا بتوعية أتباعهم ونصحهم لما فيه النفع، يقتصر دورهم على أن يجلهم الناس ويقبلوا أيديهم بل أرجلهم، ويحملوا إليهم نفيس أموالهم عسى أن يقابلوهم ويحظوا منهم بنظرة، وإذا حصل فكأنما سيقت إليهم الدنيا بحذافيرها، فأي جهل وأي ضلال أعظم من هذا؟، وهل هكذا كان النبي rيعامل أصحابه؟ وهل هكذا كان واقع الحال عند سلف هذه الأمة من الشيوخ في معاملتهم لتلامذتهم وأصحابهم؟

بعض مجالس أهل التصوف أصبحت كلها صياح وضجيج، وكلها محاباة ومجاملات وحركات رياضية اختيارية تنافي ما عرف عند أهل التصوف بالوجد والحال الاضطراري، كما غابت فيها دروس العلم والمذاكرة، والمشكلة الأطم تتجلى في وجود فئة مثقفة في شكل مريدين تُسْلم نفسها وتستسلم وسط هذا الواقع المليء بالبدع، ولا توجه أو تنصح أو تقول كلمة حق وكأنه لا توجد أي مشكلة.

يكاد ينحصر هم بعض الشيوخ المحترفين في هذا العصر أن يصير لهم العدد الأكبر من الأتباع، خاصة من الذين لهم مراكز ثقافية وسياسية، ومن ذوي الغنى في المجتمع، ويُعدُّ عندهم مفخرة أن يتحدث عنهم الناس في المجلات والجرائد والقنوات الفضائية ومواقع الإنترنت، ونسي هؤلاء أن الصوفية رضي الله عنهم يعملون بإخلاص وتفان ونكران ذات ويتبرؤون أول ما يتبرؤون من حب الظهور والرياء، نعم إذا كان ذلك بدون سعي إليه وبقصد نفع الناس، أما إذا كان ذلك بسعي إليه وسابق إصرار وبدافع الغَلَبة والظهور فلا، والقاعدة عند العلماء الربانيين في هذا الأمر هي: ما جاءك من غير مسألة ولا استشراف نفس فاقبله، فإنه من فضل الله عليك.

وكثر خروج المريدين عن مشايخهم وادعاؤهم المشيخة والبركة، فغدا كل مريد جديد بين عشية وضحاها شيخا جديدا طالقا لحيته مرخيا عمامته مدعيا مقامات الرجال، كما كثر التنافس المذموم والتباغض بين بعض الشيوخ المحترفين حول أفضلية طريقتهم على غيرهم، وتنازعوا من أجل ذلك، مع العلم أن الطريق طريق الله، والأنوار لايعارض بعضها بعضا، والذي يتعارض هو النور والظلمة، ومنهم من لا يقبل الجلوس مع إخوانه من أهل الطرق الأخرى أو حتى مبادلتهم بالزيارة، والأكثر من ذلك، فإن بعض الورثة الذين لا هم لهم في استمرارية طريقة أو زاوية والدهم أو جدهم، وليس لديهم وعي كامل بأهمية طريق التصوف، حولوا زوايا شيوخهم وزوايا آبائهم وأجدادهم والطرق التي ينتمون إليها إلى مورد للعيش، فجعلوا صندوقا بجنب ضريح شيوخهم وأسلافهم ليضع فيه الزائرون إكرامياتهم وأموالهم، وبنوا بيوتا للكراء لكل من يريد المبيت بالزاوية، فقصدها السياح و الفسَّاق والزنادقة من كل فج، وخرجت بذلك بعض الطرق الصوفية عن مقاصدها الأولى، مما ينعكس سلبا على أمور كثيرة من أمور الطريقة، ومن ذلك إخلال الخلف بجانب الضيافة والإطعام وعدم عنايتهم بالعلم والتدريس والانخراط الإيجابي في هموم المجتمع وقضايا الأمة.

إن الأولى بالمنتسبين إلى التصوف اليوم أن يستغلوا ما أتيح لهم في هذا العصر، مما لم يتح لمن سبقهم، ويصلحوا ما فسد منه، ويرجعوا به إلى كتاب الله وسنة رسول الله r، ليجعلوا مريديهم أكثر عبودية لمولاهم والتجاء إليه، وليحضروا بشكل إيجابي في مجتمعاتهم وينفتحوا على قضايا أمتهم ويصدروا نفعا حقيقيا للناس، كل في مكانه الذي أقامه الله فيه، وأن يعملوا على إحياء كل الأدوار التي قام بها أهل التصوف عبر العصور، وبدون ذلك لا يمكن للتصوف اليوم أن يقدم خدمات جليلة، أو أن يقوم بأدوار كبرى تذكر، فالمشكلة ليست في التصوف ذاتِه، وإنما في المتطفلين عليه الذين نَسبوا أنفسهم إليه.

وإذ أقول هذا الكلام لا أنكر وجود القلة من العلماء الصادقين والشيوخ البررة المتواضعين الخائفين الوجلين المجددين في المشرق والمغرب والغرب، الذين يهتمون بتزكية النفس والسمو بالإنسان وجعله مؤمنا صادقا ربانيا في كل أحواله، يكادون يعدون على رؤوس الأصابع.

وقبل أن أختم أحب أن أنوه بإعادة هيكلة الحقل الديني بالمملكة المغربية في أيامنا هذه، والذي كانت له نتائج وثمرات محمودة انعكست إيجابيا على واقع التدين في المغرب، جعلت منه نموذجا يحتدى ومطلوبا للاقتفاء من كثير من دول العالم الإسلامي، والذي نأمله تبعا لذلك هو أن يكون هنالك تدخل شجاع مماثل بإعادة النظر فيما آل إليه حال الكثير من الطرق الصوفية والزوايا، قصد إصلاحها لتعود بحول الله للقيام بأدوارها الحقيقية في المجتمع المغربي، وذلك هو المأمول.

أيتها السيدات أيها السادة الكرام

إن دعوتنا إلى إصلاح الحقل الصوفي نابعة من قناعتنا بالتراجع البين الذي عرفه هذا المجال، وهي دعوة ليست وليدة هذه اللحظة، ولكنها قناعة ومنهج رسمه شيوخ هذه الطريقة منذ تأسيسها إلى يومنا هذا، فمنذ تأسيسها اتخذت الطريقة البصيرية العلم نبراسا تنير به دروبها، وكان شيوخها لا يجدون حرجا في نقد الذات والوقوف عند الاختلالات، ثم إصلاح الآفات وتقويم الاعوجاجات، فبدون نقد بناء لا يمكن أن نُصلح شيئا، وإذا أردنا الإصلاح لا بد من الاستفادة من التجارب الإصلاحية الناجحة والانفتاح على العلماء والمصلحين والمجددين، وفي هذا الإطار يأتي انفتاحنا على المؤسسات العلمية ومراكز البحث والجامعات والباحثين والطلبة، وهذا ليس جديدا على الزاوية البصيرية التي كانت دائما تعطي الأولوية للعلم والعلماء، وتطور باستمرار أساليبها وآليات اشتغالها بحسب ما يتطلبه الوقت مستحضرة شعار “الصوفي ابن وقته”.

ختاما أشكر مؤسسة محمد بصير للأبحاث والدراسات والإعلام والمجلس العلمي المحلي لبني ملال، ومختبر الحوار والمقاصد للأبحاث والدراسات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال، ومركز دراسات المعرفة والحضارة ببني ملالعلى جهودهم وتنسيقهم ومتابعتهم لأمر هذا اللقاء العلمي وحرصهم على نجاحه، كما أشكر كل من ساهم من قريب أو بعيد في تنظيم وإنجاح هذا الملتقى العلمي المتميز، وأسأل الله للجميع التوفيق والسداد والعون والحفظ، والحمد لله رب العالمين.

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *