كلمة الشيخ عبد الهادي الخرسة
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
بسم الله الرحمان الرحيم، الجمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وصل اللهم وسلم على جميع الأنبياء والمرسلين وعلى آل كل وصحب كل أجمعين.
السيد عامل إقليم أزيلال
السادة الحضور جميعا
أريد أن أبين من خلال قواعد التصوف التي قامت عليها الزوايا الصوفية في العالم كله أن جميع أبناء الزوايا هم قادة تحرر من الاستعمار، وليسوا من المشاركين في أية فتنة أو انفصال، لأنهم ليسوا على عقيدة الخوارج المخالفين لأهل الحق.
التصوف ياحضراتي يعني التزكية، والتزكية فرض عين على كل مكلف ومكلفة من بني الإنسان جميعا، وقد ربط الله بها الفلاح وعلقه عليها فقال: “قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى”، وقال سبحانه :”ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها”، وجعل ربنا سبحانه من مهام الرسول الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم التزكية لنفوس الأمة كلها، في عصر النبوة وإلى قيام الساعة، فقال الله سبحانه: “هو الذي بعث في الأمين رسول منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ظلال مبين، وآخرين منهم لما يلحقوا بهم، وهو العزيز الحكيم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم”.
والتزكية تعني في المفهوم الصوفي مقامين اثنين، مقاما يسمى التخلية، ومقاما يسمى التحلية.
والتخلية تعني التخلي عن كل وصف مذموم شرعا، سواء كان يتعلق بالظاهر كشرب المسكرات والمفترات، وما يتعلق بمضادة إحدى الكليات الخمس التي جاءت الشرائع السماوية من أجل حفظها في الإنسان، أو كان ذلك الوصف المذموم شرعا يتعلق بباطن الإنسان وقلبه كالكبر والعجب والرياء والحسد والحقد و الغش النفسي ونية السوء وما إلى ذلك من أمراض ذميمة.
قال الله سبحانه: “وذروا ظاهر الإثم وباطنه، إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون”، ويقول سبحانه: “ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها ومابطن”، فإن صلاح الظاهر تابع لصلاح الباطن.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك رضي الله عنه: ” يا بني إذا استطعت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل، فإن ذلك من سنتي، ومن أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة”.
فليس في قلب الصوفي خريج الزاوية غش لأحد من البشر، لا لولي الأمر ولا للخاصة من الناس، ولا لعامتهم، بل يحمل لهم الإخلاص ويحمل لهم السداد والرشد ويتعاون معهم على البر والتقوى ولا يمكن له أن يتعاون مع أحد على الإثم والعدوان ،وإن صلاح الظاهر تابع لصلاح القلب، لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: )واعلم أن في الجسد مضغة إذا أصلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب(.
أما التحلية فهي تعني التحلي بكل وصف محمود شرعا كالإيمان، وهو أفضل الأعمال، كالإيمان العلمي المبني على الأدلة والبراهين، قال الله سبحانه:” فاعلم أنه لا إله إلا الله”، وكالإيمان الشهودي المعبر عنه بالإحسان، الذي عرفه الحبيب المصطفى بقوله:) الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك(، وما يتفرع عن الإيمان العلمي والشهودي من كف أذى النفس عن البشر، فالصوفي هو البر، والبر لا يؤذي الذر، يكف أذى نفسه عن الخلق كلهم، ويقدم لهم الإحسان لأن الله كتبه على كل نفس، إن الله كتب الإحسان على كل شيء ،فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة،وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، فيتفرع عن الإيمان العلمي والإيمان الشهودي مقامات قلبية اختص بها علماء التصوف ورجال الزوايا من الإخلاص لله وحده والصدق والتوكل والمحبة والزهد والخشية والخشوع والخوف والرجاء، ولكل مقام من هذه المقامات أدلته في الكتاب الكريم وفي حديث سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
ويستدل على التخلية والتحلية وأن التخلية مقدمة على التحلية بقوله تعالى:”والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب “.
وإن القارئ للقرآن الكريم يجدأن القلوب فيه ثلاثة:
1- قلوب الكافرين 2- قلوب المنافقين 3- وقلوب المؤمنين
ولكل نوع من أنواع القلوب أخلاق وأوصاف ذكرها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه، فمن أوصاف قلوب الكافرين والمنافقين، والتي يجب على المومنين جميعا أن يتخلصوا منها :
الطبع، والختم، والقسوة، والغُلف، والإنكار، واللهو، والزيغ، وعدم الفقه، وعدم العقل، واتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله،”وما يعلم تأويله إلا الله” ومن أوصافهم عمى البصيرة والران والقُفل والعياذ بالله.
بينما من أوصاف قلوب المؤمنين الإيمان و الكمال في عبودية الباطن،التي تعني التحرر النفسي من كافة الأهواء والأغراض.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم،تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش )
فليس في قلب المؤمن الصوفي غرض دنيوي، ولا يزاحم أحدا من أبناء الدنيا ولا ينازعه عليها، قيل للإمام أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه مؤسس طريقتنا: قيل له :بم صرت إماما؟ قال: بخصلة واحدة، الإعراض عن الدنيا وأهلها، وهو الإعراض الباطن.
ومن أوصاف قلوب المؤمنين: الإخلاص ونزول السكينة والطمأنينة فيها والوجل والخوف والخشية والخشوع والإخباث والتوكل والمحبة والتدبر واللين والألفة،قال الله تعالى: “لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم”، فالمؤمن الصوفي يألف ويولف ،وليس له عدو تلزم عداوته بسبب المزاحمة على الدنيا ومناصبها.
وإن الله سبحانه ذكر في كتابه الصادقين والقانتين والخاشعين والموقنين والمُخلصين والمخْلَصين والعابدين والسائحين والصابرين والراضين والمتوكلين والمخبتين والأولياء والمتقين والمصطفين والمجتبين والأبرار والمقربين والمطمئنين والسابقين والمقتصدين والمسارعين إلى الخيرات، ولن تجد هذه الأوصاف إلا في رجال التصوف وعلمائه، الذين قامت زواياهم على هذه التربية والتزكية النفسية.
وإن الفرائض العينية التي تتعلق بالقلوب وتزكيتها ومعرفة أوصافها وأحوالها ومقاماتها ومجاهداتها هي التي يتفقه فيها الصوفية، وهي التي يتكلمون في حقائقها، والأمة الإسلامية اليوم بأمس الحاجة إلى التصوف وإلى علمائه، لأنه أهم علوم الشريعة الإسلامية والذي كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ومن ترك هذا الفقه القلبي، فذلك دليل على غلبة الغفلة على قلبه، وربنا سبحانه يقول: “ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا”.
وإن سبب ظهور حركات التطرف في العالم الإسلامي، هو الابتعاد عن الفقه القلبي، والمسمى بالتصوف، ولن يقضي على هذا التطرف إلا بنشر علوم التصوف بالأدلة والبراهين، مقابلة فكر بفكر، والتمكين لعلمائه في الأرض لإصلاح النفوس وتربيتها الأخلاقية الإحسانية.
فعندما ابتعدنا عن التصوف ظهر التطرف الفكري والتطرف العقائدي الذي فرق كلمة المسلمين وجعل بعضهم أعداء لبعض.
لأن الإنسان عندما يخاف الله رب العالمين، ويخاف موقفه بين يديه، ويتخلق بالأخلاق المحمدية التي كان عليها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويعمل جاهدا على تقديم الإحسان لجميع بني الإنسان، فحينئذ بتلك القلوب الطيبة والنفوس المزكاة، لن يبقى تطرف في عالمنا العربي أو الإسلامي الذي تخشى منه الحكومات أو تخشى منه المجتمعات.
وإن من مقامات الصوفية التجرد في حق قوم والكسب في حق آخرين، وإن الله هو الوهاب عند الأسباب، وهو الوهاب بلا أسباب، ويستدل على التجرد بقوله تعالى: “تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين”.
و يستدل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يخاطب به الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري رضي الله عنه، الذي قال في حقه رسول الله صلى الله عليه وسلم:) ما أظلت السماء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من من أبي ذر (، ماذا يوصيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال:) يا أبا ذر إني لأراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم(.
ويستدل على الكسب والطلب، بقوله تعالى حكاية عن نبيه سيدنا يوسف على نبينا وعليه الصلاة السلام قائلا لعزيز مصر، ومظهرا التعاون معه، ولم يكن يوما يومئذ عزيز مصر على التوحيد، قال له سيدنا يوسف: “قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليهم، وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين، ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون”.
ومن المعلوم أن سيدنا يوسف نبي الله ورسوله عمل وزيرا عند عزير مصر، ولم يكن من أهل التوحيد من أجل تحقيق النفع العام وهذا إعانة لولي الأمر على البر والخير، فكيف إذا كان ولي الأمر وأمير المؤمنين من المسلمين ومن السادة الشرفاء أهل البيت النبوي الشريف.
ويتولد عن التجرد والكسب مقاما الشكر والصبر لدى المتجردين من الصوفية أو لدى المنتسبين للدنيا من غير أن تلهيهم عن ذكر الله، لأن الله تعالى قال:” رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار”.
و مقام الشكر والصبر يستويان عند العلماء الربانيين ورجال التصوف، فالغني الشاكر الذي يُحفظُ من فتنة الغنى ولا يعصي الله فيه، والفقير الصابر الصادق الذي أمن من فتنة الفقر ولا يعصي الله فيه، كلاهما مثنى عليه في شخصين نبيين كريمين ، وقد قال تعالى في سليمان عليه الصلاة والسلام الذي وهبه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده:” نعم العبد إنه أواب”. وقال مثل ذلك عن نبيه سيدنا أيوب عليه الصلاة والسلام الذي ابتلي في ماله وفي أهله ثم في نفسه وفي أهله فصبر الشهادة ذاتها:”نعم العبد إنه أواب”.
فليكن تحصيل أحدنا لرتبة العبدية حتى يثني الله عليه في الملأ الأعلى ويوضع له القبول في الأرض بـ”بنعم العبد إنه أواب” رجاع إلى الله في أحواله كلها، وهكذا المؤمن يتوخى ثناء الله عليه” بنعم العبد” في حالتيه.
وإن الزوايا على ممر التاريخ الإسلامي، أخذت على عاتقها التدريس العلمي والتكوين الروحي، وهي دور العبادة والتربية، وأكثر أهلها متجردون من الدنيا، بل زهدوا فيها وفي أهلها، وقد تخرج منها قادة فاتحون في حركات التحرر العربي والإسلامي، وكان لها الدور الأكبر في تحرر كثير من الدول من الاستعمار، وفي المحافظة على القرآن واللغة العربية وعلومها، والدعوة إلى الله تعالى في إفريقيا ودول جنوب آسيا وأوربا.
ولم يثبت عبر تاريخ الزوايا المجيد أن أحدا من رجال الزوايا وأبناءها اشترك في فتنة داخلية، أو خلع يدا من طاعة، أو نازع الأمر أهله، أو دعا إلى فرقة كلمة، أو شق العصا، بل همهم توحيد الأمة وجمع الشمل والتأليف بين القلوب.
إن دَور الزوايا ورجالاتها العلمية عبر العصور أدوارٌ قيمة، انصبت في مجموعها حول العديد من ميادين الحياة، وعلى رأسها الميدان العلمي الأخلاقي والميدان الاجتماعي التضامني، الذي كان له الأثر الفعال في العديد من المراحل التاريخية والثقافية على حياة الأمة والوطن العربي، وفي العديد منها تغذت الأمة بروح العلم والتضامن، فكان حقيقا بها إحراز العديد من الانتصارات، التي أوصلت العالم الإسلامي إلى عافية الخير والفلاح، فالزوايا الصوفية نبراس للأجيال المتعاقبة، لتنهج هذا المنهج الطيب في حياتها وأعمالها، وإذا ما فقهت الأمة اليوم مغزى تلك الأدوار الرائدة وقامت بالمسؤولية التاريخية، فإنه سيعود لهذه الأمة أمجادها ووحدة صفها وقوتها التي قد أذهبتها بعض الأفكار الهدامة الدخيلة والنوايا السيئة.
إن الواجب المقدس الذي قامت به الزوايا في مجال التربية والتعليم والوحدة والجهاد وبذل النفس والنفيس من أجل الإسلام وبلاده، ما زال بحمد الله تعالى قائما، فهي ما زالت رائدة في الصلح الذي سماه الله تعالى خيرا بين الأفراد وبين الجماعات وبين القبائل وبين الأمم والشعوب، قال تعالى: “لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس”. وقال تعالى: “الصلح خير”. وقال سبحانه: “وأصلحوا ذات بينكم” ، وقال تعالى: “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما”.
وقد وصف خريج الزاوية بأن باطنه حقائق التوحيد، وظاهره زهد وتجريد، وكلامه هداية لكل مريد، كثير الخوف، طويل الحزن، لصدره أزيز من شدة خوفه ودوام ذكره، مستغرقا في شهود مذكوره، حتى لايشعر بمن معه مع تواضع وحسن خلق ورقة قلب رحيما مبتسما في وجه من لقيه مع إقبال وحسن كلام هو البَر الذي لا يؤذي الذر، خير كله لا شر فيه لنفسه ولا لغيره.
جاء الإسلام ليوحد بين الشعوب، ويدعو إلى السلام، وهذه حقيقة لا جدال فيها قال الله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”، فالمسلمون أهل التوحيد والوحدة ، وتوحيدهم وحدهم، فهم يعبدون ربا واحدا، ويتبعون رسولا واحدا، ويتلون كتابا واحدا، ويتوجهون إلى قبلة واحدة، ومن أجل هذه الغاية اصطفى الله رسوله محمدا وبعثه على فترة من الرسل، ليخرج الناس إلى نور العلم، ومن ضعف التفرقة وذلته إلى قوة الاتحاد وعزته، ومن شقاء العداوة والتنافر إلى سعادة التآلف والتآزر، شعاره في ذلك قوله تعالى: “تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم”.
فنصر الله به الدين ووحد به الأمة وجمع به الشمل، وهكذا خلفاؤه ووراثه من بعده، استنوا بسنته، واتبعوا سبيله، وهذا هو سبيل المفلحين.
وإن سيدي محمد بصير خريج هذه الزاوية لم يخالف منهج آبائه وأجداده وتعاليم أهل التصوف، ولم يحمل فكر الخوارج ولا البغاة، فهو متمسك بمبادئها وعقيدتها ولم يبع آخرته من أجل دنياه ولا من أجل دنيا غيره، فكان بذلك قائدا عمل على تحرير الصحراء من الاستعمار الإسباني، وكان قائدا وحدويا لا انفصاليا، لأنه لم يتنكر لوطنه الأم ولم يتنكر لعرش أهل البيت أدام الله بركتهم على هذه البلاد وعلى العالم الإسلامي.
اللهم أعز الإسلام بالتئام شملنا وذهاب شقاقنا واختلافنا ووحد صفوفنا على عبادتك ونصرة دينك.
اللهم واحفظ هذه البلاد والقائمين عليها واحفظ ولي الأمر أمير المؤمنين مولانا محمد السادس وبطانته وشعبه وجميع بلاد المسلمين. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.