كفالة اليتيم

كفالة اليتيم
الأستاذ مولا يوسف بصير
الحمد لله العلي الأعلى، خلق فسوى، وقدر فهدى، وشرع لعباده ما فيه خيرهم وسعادتهم دنيا وأخرى، ودعاهم إلى الترابط فيما بينهم حتى يتحقق نفعهم، وتجتمع كلمتهم على العروة الوثقى، نحمده تعالى ونشكره على نعمة الإسلام الفضلى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله عادل ورب كريم لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، القائل في توجيهاته لعباده: “واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً”، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المصطفى الأمين، أرسله الله رحمة للعالمين، بشيرا ونذيرا للمؤمنين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، حث أمته على رعاية اليتامى من أبناء المسلمين، ووعد القائمين على شؤونهم بمجاورته في جنات النعيم، فقال: ” أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا” وقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته والتابعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، في الجمعة الماضية تناولنا الحديث عن الإنفاق في سبيل الله، باعتباره من الأعمال التي يمتد نفعها من المسلم لأخيه المسلم، ولمجتمعه، شكرا لله على نعمه وأفضاله عليه، وتقربا إلى الله تعالى الذي يقول في محكم التنزيل: “آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير”، واليوم بإذن الله تعالى نتناول الحديث عن موضوع ذي أهمية بالغة، إنه موضوع كفالة اليتيم والعناية بأمره، فنقول وبالله التوفيق، أيها الإخوة المؤمنون، إن من الأعمال التي يمتد نفعها من المؤمن لغيره من الناس، كفالة اليتيم، وهي في معناها القيام بمصالح اليتيم، ورعايته، والحرص على تنشئته تنشئة سوية تعوضه ما نقص من فقده لأحد والديه أو كلاهما، بدءا بما تقوم به حياته من أكله وشربه والعناية بصحته، ثم القيام على تكوينه وتدريسه، ليستمد من المجتمع الوسائل المعينة على قيامه واستقلاليته، وهذا لعمري من الأعمال التي ينبغي التنويه بفاعليها، ومن سخرهم الله تعالى للقيام بها، وكيف لا وهي منة عظيمة امتن الله تعالى بها على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: “ألم يجدك يتيما فآوى”، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد يتيما، وعاش يتيما، وحظي بعناية جده عبد المطلب وبعده كفله عمه أبو طالب، وبوأه الله مكانة عالية حيث جعله رسول الله للعالمين، صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه آيات من القرآن الكريم تحث على رعاية اليتيم والتكفل به، منها قوله تعالى: “فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ”، وقوله “أَرَءيْتَ ٱلَّذِى يُكَذّبُ بِٱلدّينِ، فَذَلِكَ ٱلَّذِى يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ”، وقوله: “كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ”، وقوله أيضا: “فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ، وقد صح في الحديث: “إني أُحَرِّجُ عليكم حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة”، وعند الإمام مسلم: “كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة”، قال الإمام ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يجلس على طعام إلا على مائدته أيتام. أيها الإخوة المؤمنون، اليتيم فرد من أفراد الأمة ولبنة من لبناتها. فغير اليتيم ينعم برعاية والديه، يعيش في كنفهما تظلله روح الجماعة، يفيض عليه والداه من حنانهما، ويمنحانه من عطفهما، ما يجعله بإذن الله بشراً سوياً، وينشأ في مجتمعه إنشاءً متوازناً، أما اليتيم فقد فَقَدَ هذا الراعي، وفاحش بالعزلة، ومال إلى الانزواء، ينشد عطف الأبوة الحانية، ويرنو إلى من يمسح رأسه، ويخفف بؤسه، يتطلع إلى من ينسيه مرارة اليتم وآلام الحرمان، روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في يوم عيد فرأى صغيرا يتيما رث الثياب، وقد وقف بعيدا يراقب أصحابا له تظهر البهجة في حركاتهم، ويملأ السرور جوانح صدورهم، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبي المسكين وقال له: لم لم تلعب مع أترابك؟ فأجاب الصبي والدموع تترقرق في عينيه بصوت يقطر أسى، إن أبي قد مات وليس عندي ما ألبسه في العيد، فضمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره الشريف وقبله وبكى ورجع به إلى منزله وكساه حلة جديدة، وقال له مطيبا خاطره: يا غلام، أما ترضى أن أكون لك أبا وعائشة أما، وفاطمة أختا؟ فقال الصبي وهو يكاد يطير فرحا، رضيت يا رسول الله، وخرج الصبي فرحا فخورا بما وصل إليه أمره، وأخذ يقول: أنا ابن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخو فاطمة”، أيها الإخوة المؤمنون، فكما حث ديننا الكريم على رعاية اليتيم والتكفل به، حذر أيضا أوصياء اليتامى من مغبة الطمع في أموالهم وعدم تدبيرها والتفريط في استغلالها، حفظا لآموالهم، فقال وهو أصدق القائلين: “إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً”، وقال أيضا: “وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوٰلِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً”، أي: إثماً عظيما، أيها المؤمنون، لقد تحرج اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان يكفل اليتامى حين سمعوا هذه الآيات القوارع، فعزلوا طعام الأيتام وشرابهم، فصاروا يأكلون منفردين، ويعيشون منعزلين، وامتنع آخرون من كفالة اليتيم تحرجاً وتعففاً، وكان هذا موضع حرج آخر، فعزل اليتيم ونبذه في ركن من أركان البيت وفصله عن أترابه من الأطفال له الأثر السيء في تربيته وضياع ماله، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن مجيباً لهم في قوله تعالى: “وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَـٰمَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوٰنُكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”، فإن الغاية هي إصلاح اليتيم، إصلاح بكل معاني الإصلاح، من التهذيب والتربية والتنشئة على الدين والعلم والخلق القويم. قال الله تعالى: “وليخش اللذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا”، وقال: “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم”. جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، اليتيم في عرفنا هو الذي فقد أحد والديه أو كلاهما، بسبب الموت، لكن الآن في مجتمعنا، هناك أيتام لهم آباء وأمهات، لكنهم لم ينعموا بدفء هذه الرابطة الإنسانية، بسبب انشغال الآباء عن أبنائهم، أو بسبب التفكك الأسري الناتج عن الطلاق، أو بسبب الإهمال الأسري، مما يدفع بهذه الفئة من أبناء أمتنا إلى الإنحراف، والتخلق بأخلاق الحقد على المجتمع، والإنتقام لآنفسهم بالإعتداء وممارسة الأفعال الشنيعة في حق المجتمع، وهؤلاء لعمري أشد حاجة إلى الرعاية والعناية والتكفل، وكثير من دور الرعاية الإجتماعية تكتظ بهذه الفئة من أبناء الأمة الذين لو تم التكفل بهم من طرف الميسورين من المواطنين الصالحين لأنقذنا المجتمع من عواقب عدم العناية بهم، وقد قال الشاعر: ليس اليتيم من مات أبواه وخلفاه ذليلا إن اليتيم من تجد له أما قد تخلت وأبا مشغولا، وهذا الذي أصبح المربون يطلقون عليه اسم ميت الأحياء، له والدان لكنه لم يحظ بدفء حنانهما، والحمد لله في بلدنا هذا هناك أناس وهبوا أنفسهم لخدمة هذه الفئة من يتامى الأحياء فأولوهم من العناية ما يحسن مستواهم المعيشي والتربوي، وهم القائمون على رعاية دور الرعاية الإجتماعية، ومدارس التعليم العتيق، ودور الطلبة والطالبات، في المدن والقرى، لكن جهودهم تبقى محتاجة لدعم الميسورين وذوي الأريحية من أبناء هذا الوطن، الذين لا يبخلون عن الإنفاق في وجوه الخير، ويكفي أن نتأمل جميعا قول الله تعالى:” وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـٰفاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً”، وليعلم الجميع أن المهتم بأمر كفالة اليتامى بجميع أنواعهم استحق على الله أن يحفه برضا، قال تعالى: ” وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً، إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً، فَوَقَـٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ وَلَقَّـٰهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً”. الدعاء.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *