فضل العناية بالمسجد (2)

فضل العناية بالمسجد (2)

الأستاذ مولاي يوسف المختار بصير

الحمد لله ،الحمد لله الذي جعل المساجد بيوتا للعبادة، وأضافها لنفسه تشريفا لقدرها واعتناءا بشأنها، وجعل ذلك من صفات المؤمنين الآخذين بأسباب السعادة، فقال: “وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا”، نحمده تعالى حمدا كثيرا يوافي نعمه، ونسأله إمداده وتوفيقه وإرشاده، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل: “للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، شارك في بناء المساجد بنفسه، وحث على العناية بالمساجد في قوله: “ابنوا المساجد وأخرجوا القمامة منها، فمن بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة، فقال رجل يا رسول الله، وهذه المساجد التي تبنى في الطريق؟ فقال نعم، وإخراج القمامة منها مهمور الحور العين”، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أثنىعليهم ربهم بقوله:”رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين”، أما بعد، فيقول الله عز وجل في كتابه المكنون: “إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ”، أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، في الجمعة الماضية تكلمنا عن فضل بناء المساجد وعمارتها والعناية بها، وأن ذلك يعتبر من الصدقات التي لا تنقضي بموت صاحبها وأن الجزاء عليها يمتد ويلحق صاحبها ما دام الناس ينتفعون بها مصداقا لما جاء في حديث أبي هريرة (ض) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن مما يلحق المرء من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، أو ولدا صالحا تركه، أو مسجدا أو بيتا لإبن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته”، وقد سجل تاريخ الإسلام للصحابي الجليل تمتم بن أوس الداري منقبة عظيمة تتجلى في اهتمامه بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ يعدّ أول من أسرج السرج في المسجد، فهو صاحب فكرة إضاءة المسجد بالقنديل والزيت، فتميم بن أوس الداريّ وُلد بفلسطين، وكان راهبها وعابدها، ووفد إلى المدينة سنة تسع من الهجرة، فأسلم (ض) وكان من السابقين بإعلان إسلامهم عن علم ومعرفة وطواعية، وسكن المدينة، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه عدداً من الأحاديث، وشارك بالغزو، واتسم بكثرة العبادة، وقيام الليل وتلاوة القرآن والورع، واهتمامه بالمسجد وتعلقه به وجد المسلمين يسرجون المسجد بسعف النخل، فبعث تميم خمسة غلمان له إلى الشام فنقل القناديل من بلاد الشام، إذ كان يتم استخدامها في إضاءة الكنائس ونقل زيتاً ومقطاً “حبل”، ووافق ذلك ليلة الجمعة فأمر غلاماً يقال له أبو البزاد فقام فنشط المقط وعلق القناديل وصب فيها الماء والزيت وجعل فيها الفتيل، فلما غربت الشمس أمر أبا البزاد فأسرجها، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى المسجد، فإذا بها تزهر، فقال من فعل هذا؟، قالوا تميم الداري يا رسول الله، فقال: نورت الإسلام نور الله عليك في الدنيا والآخر”، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش يصلون عليه ويستغفرون له ما دام ذلك الضوء فيه”، كما سجل التاريخ لتميم الداري هذا منقبة أخرى، إذ يعد أول من صنع المنابر في المساجد، فقد صنع المنبر الأول في المسجد النبوي الشريف، وكان أول أمير إسلامي على بيت المقدس بعد الفتح في بلاد الشام، قال عكرمة: لما أسلم تميم، قال: يا رسول الله، إن الله مظهرك على الأرض كلها، فهب لي قريتي من بيت لحم، قال: هي لك وكتب له بها، فجاء تميم بالكتاب إلى عمر، فقال: أنا شاهد ذلك فأمضاه. أيها الإخوة المؤمنون، يا من تأمون المساجد للصلوات، وتعمرونها بالذكر وحضور الدروسوالجمع والندوات، ومع ذلك تنسون فضل العناية بالمساجد، أدعوكم للتأمل في فضل من يقوم بالعناية بالمسجد وتنظيفه، ذكرت كتب السيرة النبوية أن صحابية تدعى أم مِحْجَن (ض) عنها، امرأة سوداء، كانت من ضعفة ومساكين أهل المدينة المنورة الذين ليس لها نسب تعتز به، ولا يُفْتَقدون إذا غابوا، وكانت تقوم بتنظيف المسجد النبوي من الأذى، توفِّيَت في إحدى الليالي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى عليها جمعٌ من الصحابة (ض)، ودفنوها ولم يخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأمرها، فافتقدها النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، اهتمامًا بها، وإكبارًا وتعظيمًا لشأنها وما كانت تفعله من تنظيفها للمسجد، فأخبره أصحابه بما كان منهم تجاهها، فقال صلى الله عليه وسلم: “دلوني على قبرها”، وفي رواية قال: “أفلا كنتُم آذَنْتُمونى”، ثم أتى قبرها حتى وقف عليه وصلَّى عليها، ثم قال إنَّ هذه القبورَ مملوءةٌ ظُلمةً على أهلِها . وإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُنوِّرُها لهم بصلاتي عليهم”، وهكذا أيها الإخوة المؤمنون نرى كيف يرفع الله شأن القائمين على بيوته في الأرض إكراما لهم جزاء تعظيمهم لحرمات الله، فأيننا نحن اليوم من هؤلاء؟، وكيف حالنا مع الاهتمام ببيوت الله وبزوارها من خلق الله؟، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في جدار المسجد نخامة فتناول حصاة فحكه وعدها خطيئة وقال: “البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها”،وعَنْ أَبِي ذَرٍّ (ض)، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “عُرِضَتْ عَلَىَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي، حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا، الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا، النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ.نسأل الله تعالى يجعلنا وإياكم من الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا اساءوا استغفروا، الذين قال الله تعالى فيهم: “فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الأاباب”، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

قال الله تعالى: “فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ”. فالمسجد في تاريخ المسلمين لم يكن فقط مكانا للعبادة، بل هو أيضا جامعة لها أدورا هامة، وتحتل مكانة رفيعة، كان لها في نفوس المؤمنين تأثير كبير، فالمسجد هو جامعة المسلمين الأولى التي تعلم قواعد العقائد وفرائض العبادات وطرق المعاملات ومكارم الأخلاق وحسن السلوك، وتعقد فيها للعلم حلقات تغشاها الرحمة، وتنزل عليها السكينة وتحفها الملائكة وتذكر في الملإ الأعلى عند الله، ولم تكن حلقات المسجد في تاريخ المسلمين مقصورة على علوم الدين فقط، بل شغلت كل ما وصل إليه العقل البشري من معارف أدبية وإنسانية، فمنذ صدر الإسلام نرى حلقة كحلقة حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس (ض) تتسع لعلوم ومعارف مختلفة يفرد لكل منها يوما، ولا غرو أن ينشأ العلم موصلا بالعبادة، وأن تنمو الجامعات العريقة تحت سقوف الجوامع، فمن منا يجهل المكانة العلمية لجامع القرويين بفاس؟ وابن يوسف بمراكش، والزيتونة بتونس، والأزهر بمصر، وما قدمته هذه الجوامع والجامعات من خدمة للعلم والثقافة قرونا طويلة وما تزال، والمسجد عبارة عن برلمان المؤمنين الذي يعقد جلساته في كل يوم خمس مرات، ونوابه هم “التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله “، والمسجد هو مجمع المسلمين الذي يجمع خلاصة الحي في كل صلاة، وصفوة البلد في كل جمعة، ليفوزوا بما أعده الله للمحافظين على صلاة الجماعة والجمع من درجات، ليتعارفوا فلا يتناكروا، ويتقاربوافلايتباعدوا،ويتحابوافلايتباغضوا، ويتصافوا فلا يتجافوا، ويتحدوا فلا يتفرقوا، ويكونوا عباد الله إخوانا، متراحمين “كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”، ألا فلنهتم بمساجدنا، ونراعي حرمة الله في صيانتها والمحافظة عليها، ولنحرص على نظافتها وطهارتها، ولنساهم في إبراز دورها المشع بحضور دروس الوعظ والندوات التي تعقد فيها، ولنجعل من وقتنا زمانا نقضيه في المسجد تالين لكتاب ربنا، مستحضرين أن من السبعة الذين يضلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، رجل قلبه معلق بالمساجد، أي لا يقطع طلته بها، ويحرص على طول المكث فيها. الدعاء

خطبة الجمعة من مسجد الحسنى عين الشق، الجمعة 26 صفر 1441 موافق 25 أكتوبر 2019                

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *