فتنة المال وخطرها على المجتمع
فتنة المال وخطرها على المجتمع
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، إن من الفتن الجسيمة التي حذرنا منها نبينا سيدنا محمد ﷺ فتنة المال، هذه الفتنة التي أضحت لها العديد من الآثار السلبية على العلاقات الإنسانية وعلى المجتمع برمته، قال ﷺ فيما رواه الإمام الترمذي عن كعب بن عياض: “إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي المال”، ولذلك أخبر ﷺ في الحديث الصحيح أنه لا يخشى علينا الفقر، فقال في المتفق عليه: ” فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم”، أي تنشغلون بالدنيا وبالأموال فتفتنون، فيصيبكم ما أصاب الأمم من قبلكم.
عباد الله، إن المطلع على حياتنا اليوم، وعلى أسباب خلافاتنا الكثيرة مع الأقارب والأباعد، وعلى مواضيع الكثير من الدعاوى القضائية المبثوثة في ردهات المحاكم، يجد مردها إلى فتنة المال المتجلية في العديد من الخلافات المالية البسيطة منها والعويصة، التي بدأت تستفحل وتنتشر في مجتمعنا بشكل غريب، فهذا أشبع والده أو والدته ضربا وسبا من أجل المال، وهذا قتل زوجه من أجل المال، وهذا هجر إخوانه وأخواته من أجل مال الميراث، وهذه جمعية مدنية اختصم أربابها من أجل المال، وهذه مصلحة عامة تسرب إليها الفساد من أجل المال، وهؤلاء شركاء متشاكسون من أجل المال، وهؤلاء جيران متشاجرون من أجل المال، وهؤلاء أصدقاء فسدت صداقتهم من أجل المماطلة في مال الدين أو نكرانه، وهؤلاء يتامى تم الاستيلاء على أموالهم بالباطل، وهكذا كثرت الخلافات والنزاعات والاعتداءات، التي تطورت إلى الضرب والعنف أحيانا، بل إلى القتل في بعض الأحيان، وهكذا حصل التنافر والتدابر والقطيعة بين الناس.
ويزيد الأمر استفحالا عباد الله عندما يحصل موت أحد المتنازعين على المال، فيصر المطالب بحقه على عدم شهود موته، وقد يكون أخا له أو قريبا، مما يترتب عنه توريث العداوة والقطيعة لأجيال أخرى سنوات كثيرة من بعدهم.
وعند التأمل عباد الله تجد أسباب ذلك تتعدد إلى عدم وجود القناعة، المؤدية إلى التكالب على المال بشكل فظيع، أو إهمال أحد الطرفين أو كليهما لضوابط التعاملات المالية كما علمتنا شريعتنا السمحة، أو عدم الوضوح في التعامل، أو عدم التقسيم العادل للإرث، أو مرض بعض النفوس وتجرئها على الكذب والتزوير والنصب والاحتيال، ومنشأ ذلك كله الطمع والجشع وضعف الإيمان والحقد والضغينة والكراهية والأنانية وغيرها..
عباد الله، إن فتنة المال قديمة قدم وجود البشرية، لذلكم نجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبل حذروا من فتنة المال والطمع أشد تحذير، فهذا نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام يحكى أنه في عهده وزمنه كان ثلاثة أصدقاء يحبون بعضهم البعض، وفي أثناء سيرهِم تَعبوا، فدخلوا كهفا يستريحون فيه، فوجدوا فيه كنزا ثمينا من المال، بعد ذلك شعروا بالجوعِ فقال واحد منهم: سوف أذهب إلى أقربِ مكان لأحضر لكم طعاما، وفي الطريق وسوس إليه الشيطان: لم لا تقتلُ صاحبيك فتحصلَ على الكنز بمفردك؟، سيطرت الفكرة الشريرة على عقل الرجلِ، وتملكَه الطمع والحصول على الكنز لوحده، وأخذ يفكر في طريقة حتى يقتل بها صديقيه، ففكر أن يدس لهما السم في الطّعام، وفي الوقت نفسه وسوَس الشيطان لصاحبيه، وتملَّكَهُما الطمع كما تملك صاحبَهما، فقال أحدهما للآخر: ما رأيُك لو قسِم الكنز على اثنين فقط أليس ذلك أفضل وسيكون نصيب كلا منا أكبر؟، رد الثاني بطمع شديد: فعلا لقد كنتُ أفكِّرُ في هذا الأمر، ولكن كيف ننفذه ونتخلص من صاحبنا الثالث؟، فرد الرجل قائلا: عندما يعود صاحبُنا قتلناه شر قتلة دون أن يعلم، وهكذا قرر كل من الثلاثةِ الغدرَ بصاحبه لطمعه في الكنز، وعندما عاد الرجلُ الأولُ بالطعام، وقد وضعَ فيه سمّا قاتلا، قامَ صاحباه فضربا رأسه بحَجر كبير فشج رأسه، فسقط ميتا، وأخذا يأكلان بعدها، فماتا على الفور، ومر سيدنا عيسى عليه السلام، على المكان الذي وقعت فيه هذه الحادثة البشعة، فقال للحواريين من أصحابه الذين كانوا معه: هذه هي الدنيا، قتلت هؤلاء الثلاثة الطامعين فيها، وبقيت من بعدهم، فويل ثم ويل لطلاب الدنيا، أسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم من فتنة المال، وأن يوطن قلوبنا على القناعة، أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد فيا عباد الله، روى الإمام النسائي عن أبي ذر رضي الله عنه أن ﷺ قال يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟ ” قلت: نعم. قال:” وترى أن قلة المال هو الفقر؟ ” قلت: نعم يا رسول الله. قال: ” ليس كذلك، إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب”.
عباد الله إن حب المال غريزة فطرية في النفوس البشرية، والمالُ فِتنةٌ كما سمعتم وعرفتم؛ فمَن استخدمَه في طاعةِ اللهِ وسخَّره في مَرضاتِه كان المالُ نِعمةً ساعدَتْه في بلوغِ الجنَّةِ، ومَن استغلَّه في مَعصيةِ اللهِ وعَمِل فيه بما لا يُرضيه كان المالُ نِقمةً تسوقُه إلى النَّارِ والعياذ بالله.
وبذلك فإذا علمتم بخلافات مالية بين إخوانكم وأحبابكم وأصدقائكم فتدخلوا فيها بحكمة من أجل فضها بالحسنى، وتوفير الحلول التي تحقن الدماء وتوفر للمتنازعين سبل التعايش والتسامح عن طريق التراضي والتنازل والتغافر، وعدم التتبع لكل صغيرة وكبيرة؛ فإنّ كسب ودّ وقلب الأخ أو الأخت لا يقدّر بثمن، ولا تتركوا هذه الخلافات المالية تتطور إلى ما لا تحمد عقباه، فالذي يؤثر حظ نفسه ويأبى أن يتنازل لأخيه، ويلجأ للمحاكم، ربما سيتكلف تكاليف كبيرة تساوي المبلغ الذي يطالب به الطرف الآخر أو يقاربه، فيكون بذلك قد خسر المال وخسر أخاه، قال تعالى: “لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا”، لذلكم فالتدخل بالصلح وبالنصح والتوجيه أمر مطلوب منا جميعا في مثل هذه الحالات، والحمد لله رب العالمين.
الدعاء لمولانا أمير المؤمنين ولكافة المسلمين