عيد العرش المجيد، المناسبة التاريخية والتأصيل الشرعي
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، لقد ثبت في التاريخ القديم والحديث أن لكل أمة ذكريات وأحداث تمجدها وتقدسها، والأصل في إحياء الذكريات والاحتفال بها هو أن تكون مصدرا للعظة والعبرة ونبراسا للاقتداء والاهتداء، والذكريات سبب من أسباب ربط الأمم بماضيها وتذكيرها بأمجادها حتى لا تضل الطريق ولا ترجع إلى الوراء قال الله تعالى :” وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين”، وقال أيضا في سورة إبراهيم :” ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور “. قال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية :”وذكرهم بأيام الله” أي بأياديه ونعمه عليهم في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه وإنجائه إياهم من عدوهم وفلقه لهم البحر وتضليله إياهم بالغمام وإنزاله عليهم المن والسلوى”.
أيها الإخوة الكرام، هذا في زمن سيدنا موسى عليه السلام وفرعون، أما في زماننا فينبغي تذكير الناس بالأحداث التي عرفتها بلادهم ونعمه عليهم فيها، لأن ذلك أقرب وأبلغ في الاتعاظ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربط الحوادث الدينية بالأزمنة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه البخاري قال:” قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ماهذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني اسرائيل من عدوهم فصامه قال: فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه”.
هذا وإن لكل بلد أيامه ولكل بلد أعياده التي يستقبلها بشوق وسرور، وهذه سنة الله في خلقه. والمغرب أيها الإخوة الكرام له والحمد لله أحداثه التاريخية الكبرى التي تزهو بها صفحات أمجاده منذ أن نور الله بالإسلام ربوع بلاده.
وإذا كان الإنسان يتأثر بالبيئة التي ولد فيها ونشأ على ترابها وعاش من خيراتها، فإن لهذه البيئة عليه حقوقا وواجبات كثيرة، منها أن تفرح لما يُفْرحها وتَغْضب لما يغضبها وتهتم لاهتماماتها وتدعوا لها بالفرج والتيسير والنصر والتأييد، وفي الاحتفال بهذه الذكريات شد المواطن إلى الارتباط بوطنه وتمتين الوحدة بين أفراده ونبذ الفرقة والتشرذم بين ساكنته، هذا بالإضافة إلى أنها تحميه من التأثر بالأفكار الدخيلة للأعداء، خصوصا اليوم عندما غدا العالم أشبه بالقرية الصغيرة، وسهل على كل واحد اختراق الآخر.
أيها الإخوة الكرام، إن كل مسلم ومسلمة ينبغي له ويتعين عليه أن يهتم بتاريخ الإسلام والمسلمين بدءا من السيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين وتابعيهم بإحسان في كل عصر وجيل، وأن يعتني كذلك بتاريخ وطنه وبلده المسلم في كل وقت وحين، فيرجع إليه ويقرأه ويدرسه ويتأمله ليتعرف من خلاله على سيرة السلف الصالح من آبائه وأجداده، وعلى حياتهم وتاريخهم الإسلامي المجيد وجهادهم المستميت في سبيل عزة الدين ونصرة الوطن والمسلمين .
وإن من جملة من المبادئ والأحكام والفضائل والتعاليم التي تضمنها ديننا الإسلامي، ما يتعلق بنظام الحكم في الإسلام، والعلاقة القائمة بين الراعي والرعية، والرابطة القوية التي تجمع بين الإمام الخليفة وأمته التي ولاه الله أمرها في ظل الإسلام وهداية الإيمان.
وتستمد الإمامة مشروعيتها من إجماع علماء الإسلام من عصر الصحابة والتابعين وأهل السنة على أن الإمامة أمر واجب وفرض محتم، وأن الأمة واجب عليها الانقيـاد لإمام عادل، يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، وهي علاقة ورابطة تقوم على أساسين اثنين:
أولهما: البيعة الشرعية من الأمة، تلك البيعة التي هي استمرار للبيعة النبوية واستمداد من بيعة المسلمين والمسلمات للنبي صلى الله عليه وسلم، ولخلفائه الراشدين من بعده، رضوان الله عليهم أجمعين، تلك البيعة التي ذكرها الحق سبحانه مخاطبا نبيه بقوله الكريم :” إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسنوتيه أجرا عظيما “، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:”من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”.
وثانيهما: السمع والطاعة لأولي الأمر من الخلفاء في الإسلام، تلك الطاعة التي أمر بها الله سبحانه في كتابه، وقرنها بطاعته وطاعة رسوله إبرازا لأهميتها في المجتمع الإسلامي، وإظهارا لفضلها وميزتها في الحفاظ على جمع كلمة الأمة وضمان الاستقرار لها والطمأنينة مصداقا لقول الله تعالى:” يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم “، وروى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال:”سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البَّر ببره والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساؤوا فلكم وعليهم”. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فيا عباد الله، إذا رجعنا إلى تاريخ مغربنا العزيز وتأملناه من منظور ديني وواقعي واجتماعي، وجدنا أن الله تعالى أكرم هذا الوطن بقيادات دينية ترعاه بدين الإسلام وشريعة القرآن، وتحكمه بما أوجب الله لأولي الأمر من الطاعة والامتثال، وذلك منذ عهد الدولة الإدريسية الشريفة حوالي اثني عشرة قرنا من الزمان، فمنذ عهد المولى إدريس رحمة الله عليه إلى مولانا محمد السادس حافظ المغرب على نظام الخلافة والبيعة الشرعية بما يفرضه من تحديد واجبات الراعي والرعية وحقوقهما.
أيها الإخوة الكرام، وهذا كله جعل هذا الشعب المؤمن يعرف هذه النعمة وفضلها ويقدرها حق قدرها ويحمد الله ويشكره عليها فبقي متشبثا ببيعته الشرعية وطاعته الدينية والوطنية، لأنه يرى في ذلك وفاء بالعهد المأمور به في قوله تعالى:” وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا “، وقوله صلى الله عليه وسلم: ” من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني”.
ختاما وعلى ضوء هذه المبادئ الدينية وما تضمنته من أحكام ربانية وتوجيهات نبوية حكيمة سن آباؤنا المخلصون للدين والوطن تقليدا حميدا وأسسوا لنا عيدا وطنيا مجيدا منذ ما يزيد عن نصف قرن من الزمان للتعبير عما يجمع بين إمارة المؤمنين والرعية من أواصر المحبة والولاء، ذلكم هو عيد العرش السعيد الذي يخلد في ذكرى تربع أمير المؤمنين على العرش، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم والدارمي وأحمد عن عوف بن مالك رضي الله عنه :” خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم “أي تدعون لهم ويدعون لكم”، وهي مناسبة تجدد فيها الرعية بيعتها لأمير المؤمنين كل سنة معبرة بذلك عن طاعتها وحبها وتعلقها براعي شؤونها بعد الله تعالى والحمد لله رب العالمين.