عيد الأم
الحمد لله، الحمد لله الذي بهداه هدانا، ومن خلقه اصطفانا تفضلا منه وامتنانا، وأنزل القرآن هدى للناس وبيانا، فقال جل وعلا: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وبالوالدين إحسانا”،
نحمده تعالى ونشكره على ما أولانا سرا وإعلانا،
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أوجب طاعة الوالدين وحرم عقوقهما وقال: “إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، سيد العظماء وأشرف الكرماء، القائل:”الجنة تحت أقدام الأمهات”، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا،
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون والمومنات،
يحتفل العالم بأسره اليوم بعيد الأم، تكريما لها واعترافا بقدرها وتذكيرا بحقوقها، وتكفيرا عن التقصير الذي تعامل به الأبناء مع أمهاتهم ، ونحن أمة الإسلام نحمد الله تعالى على أن وجهنا للاهتمام بآبائنا وأمهاتنا في محكم التنزيل، وخص الأم بآيات ترشد الغافيلن إلى ما لها من الحقوق فقال وهو أصدق القائلين: “وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا”.
أيها الإخوة المومنون، لقد أمرنا الله تبارك وتعالى ببر الوالدين، وخص الأم بالذكر، فقال تعالى على لسان نبيه نوح صلى الله عليه وسلم “رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ” وقال على لسان يحيى صلى الله عليه وسلم “وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا” وقال على لسان عيسى صلى الله عليه وسلم “وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا”،
وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَال:َ “أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ” وحق الرعاية والعناية لا يقتصر على الوالدين المسلمين بل يمتد إلى الوالدين الكافرين أو المشركين، فعن أسماء رضي الله عنه قالت: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: “نعم، صلي أمك”.
وأخرج الإمام أحمد عن أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمه فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال صلى الله عليه وسلم: “نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما”،
ومما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن العبد ليموت والده أو أحدهما، وإنه لهما لعاقّ، فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله بارًا” وعن أسير بن جابر رضي الله عنه قال: كان عمر رضي الله عنه اذا أتى عليه أمراء اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى إليه فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: الك والدة؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ياتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن: كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم له والدة يحوبها برا، لو أقسم على الله لأبره”، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل فاستغفر لي”.
فانظروا أيها الإخوة المؤمنون إلى هذه المنزلة التي بلغها هذا العبد البار بأمه حتى كان من شأنه أن يخبر عنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأن يقول لعمر رضي الله عنه إن إستطعت أن يستغفر لك فأفعل، وانظر الى جد عمر رضي الله عنه في البحث عن هذا الرجل البار ليطلب منه الإستغفار له. ورأى إبن عمر رضي الله عنه رجلاً قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة فقال: يا ابن عمر أتراني جازيتها؟ قال: ولا بطلقة واحدة من طلقاتها ولكن أحسنت، والله يثيبك على القليل بكثير”.
أيها المومنون، الوالدان يتطلعان إلى الإحسان، ويؤملان الصلة بالمعروف والحنان، والبعض منا تناسى ضعفه وطفولته وأعجب بشبابه وفتوته غرته شواهده وثقافته، وترفع وتكبر بجاهه ومرتبته، تذكر أخي أن أمك حملتك في أحشائها تسعة أشهر وهنا على وهن، حملتك كرهًا ووضعتك كرها، لا يزيدها حملك إلا ثقلا وضعفا، وعند الوضع رأت الموت بعينيها، ولما بصرت بك إلى جانبها سرعان ما نسيت كل آلامها، وعلقت فيك آمالها، رأت فيك بهجة الحياة وزينتها، ثم شغلت بخدمتك ليلها ونهارها، طعامك درها، وبيتك حجرها، ومركبك يداها وصدرها وظهرها، تجوع لتشبع، وتسهر لتنام، وهي بك رحيمة وعليك شفيقة، إذا غابت عنك دعوتها، وإذا أعرضت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثت بها، تحسب كل الخير عندها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها أو لحظتك بعينها، فماذا قدمت لها؟! وهل ما تصنعه يكافئ جميلها؟!
لأمـك حـق لـو علمت كبيـر ** عظيمك يـا هـذا لديه يسير
فكم ليلة بـاتت بثقلك تشتكـي ** لها مـن جواهـا أنـة وزفير
وفِي الوضع لو تدري عليك مشقة ** فكم غصص منها الفؤاد يطير
وكـم غسلت عنك الأذى بيمينها **ومن ثديها شرب لديـك نمير.
أيها المومنون، لقد فقه السلف الصالح رحمهم الله قدر بر الوالدين وعظيم مكانته، فضربوا في ذلك أروع الأمثلة وأجملها: فهذا زين العابدين بن علي قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها. وكان طلق بن حبيب لا يمشي فوق ظهر بيت وأمه تحته إجلالاً لها وتوقيرًا. ولما ماتت أم أياس بن معاوية بكى بكاء شديدًا، فقيل له فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، فأغلق أحدهما، وحقّ لعين بكاؤهما.
الخطبة الثانية
أوجّه لكم هذا النداء الذي وجهه أحد الدعاة فهو يقول: يا معشر الأولاد من بنين وبنات، ويا فلذة الأكباد، يا من أصبحتم أو ستصبحون بإذن الله آباء وأمهات. منذ سنين خلت كنت ابنًا مثلكم، وكان لي أم وأب يحنوان عليّ ويريان الدنيا جميلة بي حلوة بوجودي، وكنت سعيدًا بقربهما، فلما فقدت أبي فقدت شطرًا من السعادة وجزءًا كبيرًا من النعيم، وجرح قلبي موته، فبقيت سنين أبكي، ثم انحصر بعده نعيم الحياة ولذاتها في أمي، وكانت والله أمًا طيبة، بقيت ترعاني بدموع عينيها، والتمست سعادتي بشقائها وراحتي بتعبها، وكنت أجد منها حنانها وعطفَ أبي، وأعدّها رأس مالي في الدنيا وزادي إلى الآخرة، ثم حلّ بها الأجل، فلحقت بأبي، فتصدع شرخ شبابي وهو يوقد على أشده، وتضعضعت أرجاء حياتي وهي بالغة قوتها، ووهب الله لي البنين والبنات، فلم ألمس فيهم لذة الأبوة ومحبتها، لأني كنت أسعد بشقاء والديّ ويسعد اليوم أولادي بشقائي، وأستريح بتعبهما ويستريحون بتعبي، وكانا يبكيان لألمي وأبكي اليوم لألمهم، فشتان بين تجارتين، لقد كنت بارًا بهما في حياتهما، أؤثرهما على نفسي، وأعمل ما يرضيهما، وأقبل أيديهما صباحًا ومساءً، احترامًا لهما واعترافًا بفضلهما، ولا والله ما وجدت ألين منها. فأين هذا من أبناء هذا الزمان الذين فسدت أذواقهم، وماتت مشاعرهم، واضمحلت عزتهم؟ لا ينفذ أحدهم أمر أمّه إلا إذا دعت عليه وبلغت صيحاتها ودعواتها أقصى الحي، ولا يلبي طلب أبيه إلا إذا عبس في وجهه وقطب وانهال عليه سبًا، وقلما تجد ولدًا يكتفي بإشارة ويفهم بنظرة ويتعظ بتأديب حسن.
فيا من تشكو من سوء الحال، ويا من كلما سلكت طريقاً أغلقت دونك ودونه الأبواب، تب إلى الله توبة صادقة، والزم قدم أبويك فثمة الجنة،
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا عقوق الوالدين، فإن العقوق بجميع وجوهه نقص في العمر وضيق في الرزق وفسادٌ في الأبناء، فمن عقّ والديه عقّه أبناؤُه، فمن كان له أبوان فليهنأ بهما، وليحرص عليهما، وليسعَ جهده في إرضائهما، لأنه أوتي سعادة الدنيا والآخرة، والوالدان تاج لا يراه إلا الأيتام، ومن فقد أحدهما فقد خسر نصف السعادة، فليحرص على نصفها الآخر قبل أن يزول، ومن فجعه الدهر بهما فلا ينساهما من صلاته ودعواته، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم،.
الدعاء…