على كل سلامى من الناس صدقة
الحمد لله، الحمد لله حمدا كثيرا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، ونشكره على أن هدانا سبله، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة، ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كتب على كل سلامة من الناس صدقة، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، القائل: “كل معروف صدقة، ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إنائه”، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا إلى يوم لقائه، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، روى البخاري ومسلم عن سيدنا أبي هريرة (ض) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل سُلَامَى من الناس عليه صدقةٌ، كل يومٍ تطلع فيه الشمس: تعدل بين اثنين صدقةٌ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له متاعه صدقةٌ، والكلمة الطيبة صدقةٌ، وبكل خطوةٍ تمشيها إلى الصلاة صدقةٌ، وتميط الأذى عن الطريق صدقةٌ”، أخي المسلم، جاء في هذا الحديث القيم أن على كل سلامى من الناس صدقة، والسلامى واحد السلاميات، وهو المفصل من الجسم الإنساني المشتمل على ثلاثمائة وستين مفصلا (عظما)، أو هو ملتقى العظام في الجسم، والمراد بذكرها والله أعلم، أن لله سبحانه وتعالى على عبده فضلا كبيرا، ونعما كثيرة لا تعد ولا تحصى، ومنها حركة الجسم التي يجب شكره عليها، والاعتراف له بها وصرفها فيما خلقت لأجله من طاعة ربها، وخدمة خالقها، وهو القائل “وما بكم من نعمة فمن الله”، وقال: “وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها”، والشكر يستوجب المزيد من المشكور، ومن استعمل في طاعة ربه عز وجل نفسه وماله وجوارحه ومواهبه وما أعطاه مولاه فقد استحق عليه دوام نعمته والزيادة من فضله، والا يحاسبه الله عليها ، بل يقول له كما قال لسليمان عليه السلام، “هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب”، وسيدنا سليمان هو القائل في أبهة ملكه، ورفعة جاهه، وقوة سلطانه، اعترافا بعطاء ربه، وشكرا لنعمه: “هذا من فضل ربي ليبلوني أآشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كرريم”. أيها المسلمون، إن أعظم نعمة وأجل عطاء بعد الإسلام هي نعمة الصحة، ذلكم التاج الذي لا يراه إلا المرضى، ثم استقامة الخلق، وحسن التركيب في جسمك الذي خلقه الله في أحسن تقويم، فتبارك ربك الكريم “الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك” حتى تميزت عن الملايين من خلق ربك بصورة خاصة، ونغمة صوتية خاصة، وتلا عليك قوله: “ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعلمين”، وانظر أخي العاقل إلى ما حولك، فهذا له صوت أجش، وذلك له صوت رخيم، وهذا له لسان ثقيل، وذاك له لسان فصيح، وهذا له بشرة ناعمة بيضاء، وذاك له بشرة خشنة سوداء، وهذا له وجه قبيح، وآخر له وجه جميل وصبيح، ليتذكر من يتذكر، ويتفكر من يتفكر، والله تعالى يقول: “ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء، إن الله عزيز غفور”، والذي جعلك يا أخي ناطقا بلحم، وسامعا بعظم، ومبصرا بشحم، وأودع فيك ما فيه ذكرى للذاكرين، وعظة للمستبصرين، هو الذي خلقك لعبادته، وأمرك ألا تفتر عن ذكره، ولا تقصر في طاعته، وألا تصرف نعمه التي أسبغ عليك في معصيته، وقال: “وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد”، ولئن عجزت يا عبد الله عن الخير كله، فلست بعاجز عن ترك الشر كله، ومجانبة أهله، ومفارقة فاعليه، واعلم أن على كل عضو منك صدقة تتقرب بها إلى الله ، وتتوسل بها إليه ليديم عليك عافيته، ويدخلك رحمته، ويدفع عنك المصائب والأمراض بقدرته. أيها الضعيف الذي لو تألم ظفرك أو مفصل صغير في كفك أو قدمك لأختل توازنك، وضاع صوابك، وضاقت عليك الدنيا بما رحبي، اعلم أنه ليس كل أحد منا بقادر على صدقة مالية يقدمها إلى فقير أو مسكين أو مريض، لذلك جعل الله طرق الخير كثيرة، وأبواب الفضل وفيرة، وحسب لك الأعمال الصالحة كلها صدقة مقبولة، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى التصدق بما لا مشقة فيه، ولا كلفة على المتقربين به إلى الله، وهو يتمثل في ستة أشياء يجعلها صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من الصدقة التي يزكي بها الإنسان على مفاصله، ويحمد بها ربه عن أداء كل عضو من أعضائه لوظيفته، وهي أن تعدل بين اثنين متحاكمين أو متخاصمين أو متهاجرين، فتنصف المظلوم وتصبره على ما فات من حقه، وتأمره بالعفو والمسامحة، والتنازل عن بعض ماله لأخيه المسلم في سبيل الأخوة الدينية، واستبقاء للمحبة بين المؤمنين، وتكف الظالم عن ظلمه، فتخوفه بالله، وتذكره بأيام الله، ومعاتبه أو تعاقبه إن أصر على ذنبه بما يستحق من حبس وتعزير أو ضرب أو تخسير إن كان ذلك بمقدورك ومن مهمتك، ولا يكون العدل بين المتخاصمين إلا بصلح لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، قال تعالى: “والصلح خير”، وقال أيضا: “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فألحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون أخوة، فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون”، وقال صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بأفضل من درجات الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، وقال صلى الله عليه وسلم فساد ذات البين هي الحالقة”، وقال لآبي أيوب الأنصاري (ض): “يا أبا أيوب ألا أدلك على صدقة يرضي الله ورسوله موضعها؟ قال بلى ، قال صلى الله عليه وسلم: “تصلح بين الناس إذا تفاسدوا، أو تقرب بينهم إذا تباعدوا”. والتعاون من أخلاق الذين يبنون الأمم، وينظمون المجتمعات، ويعمرون البلاد، وتسعد بهم الأمة، ويتقوى بهم المجتمع، والمرء قليل بنفسه كثير بأخيه، “والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه”، فاللهم إنا نسألك دوام العافية، وتمام العافية، والشكر على العافية، والغنى عن الناس، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون، جرت سنة الله في عباده، أن يحتاج هذا إلى هذا، وافتقار كل منهم إلى غيره، وإن اتسع رزقه وكثر عياله، إذ لا يقوم بنفسه مستغنيا عن الغير إلا الله وحده لا شريك له، أما الفقير إلى الطعام والشراب واللباس والمسكن والأثاث وما لا بد منه للحياة فمحتاج إلى غيره من بناء ونجار وحداد ونساج وخياط ومزارع وخباز وسقاء وإلى ما لا نهاية له، ومن كان هذا حاله فعليه أن يعين إخوانه، وله أن يستعين بإخوانه، كل بحسب ما يطيق، وبقدر ما يسنطيع، قال تعالى: “وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب، وأنت أخي إن لم تواس فقيرا، أو تكفل يتيما، أو تعد مريضا، أو تنقذ غريقا، أو تعلم جاهلا، فلن يفوتك أن تعين رجلا في دابته تمسكها له حتى يركب أو ترفع معه المتاع عليها، أو تردها له إذا شردت، أو تساعده على سقيها وعلفها وربطها، ومثل الدابة سائر المراكب في البر والبحر والجو، وكثيرا ما نمر ونحن في أسفارنا بالسيارات وأصحابها في حاجة إلى مساعدة فلا تقف لهم، ولا نهتم بعطبهم ومساعدتهم، فنتركهم في حيرتهم، وقد يكونون بعيدين عن محطات إصلاح ما حل بهم، فنكون بذلك قد تخلينا عن واجبنا نحوهم. والكلمة الطيبة من تلاوة قرآن أو ذكر الله أو أمر بمعروف ونهي عن منكر تعد لك عند الله صدقة أيضا، والآذان والإقامة والتعليم والخطابة في المساجد وتأليف الكتب لنفع الراغبين والمسترشدين كل هذا يحبه الله ويرفع أهله ويعده لهم صدقة، والله تعالى يقول: “ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين”، ورد السائل بالحسنى أحب إليه وإلى الله من قهره بالعطاء، وإذلاله بالصدقة، قال تعالى: “قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم”. الدعاء