علاقة المعلم بالمتعلم

الحمد لله الذي أكرم الإنسان بالعلم، وزينه بالعقل والفهم، وعلم الإنسان بالقلم ما لم يكن يعلم، نحمده تعالى ونشكره على ما من به علينا وأنعم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يهدي من يشاء من عباده إلى التي هي أقوم،

ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله القائل بوحي من ربه الأكرم: “لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين اهتدوا بهديه الأسلم، وساروا على نهجه الأضمن، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، 
في الجمع الماضية تناولنا الحديث عن الدخول المدرسي، وعن النتائج المرجوة التي ينتظرها الآباء والأمهات، والمجتمع من ولوج أبنائنا وبناتنا إلى المدارس والمعاهد والجامعات لينهلوا من معينها أدبا وسلوكا وأخلاقا ويخرجوا في نهاية السنة بنتائج ترضي الجميع وتدل على الجهود التي بذلت من طرف كل أفراد المجتمع، أساتذة ومعلمين وطاقم تربوي ومجتمع مدني بتعاوتهم واستشعارهم للمسؤولية الملقاة على عاتق الجميع نحو الناشئة أطفالا وشبابا، وتكلمنا عن التعاون الذي ينبغي أن يسود بين المدرسة والأسرة وكذا الإحترام الذي ينبغي أن يظهره أفراد المجتمع والمسؤولون تجاه الأساتذة والمربين حتى يزرعوا في نفوس أبنائهم حب الأساتذة والمربين، وحتى ينتفعوا بعلومهم وما يتلقونه منهم،
واليوم بإذن الله تعالى نواصل الحديث عما يجب من الإحترام لهيئة التعليم والتكوين الذين هيئتهم سنة الحياة الكونية التي جرت بها القدرة الإلهية الحكيمة، على أن يأخذ المتقدم بيد المتأخر، والمتعلم بيد الجاهل، والكبير بيد الصغير، والأستاذ بيد التلميذ، ولولا أن الحكمة الإلهية شاءت أن يعلم العالم الجاهل، وأن المهتدي يرشد الضال، لما استقام أمر هذه الحياة على شيء، ومن هنا كان التعليم أشرف عمل في هذا الوجود يقول الله تعالى في محكم كتابه: (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما)، فذكر الله التعليم منسوبا إليه في معرض الإمتنان على خلقه بالفضل الجليل، والخير الكثير.
والتعليم هو وظيفة الأنبياء والرسل الأعلام وعلى رأسهم سيدنا محمد ص الذي كان يقول: “إنما بعثت معلما”، كما كان أتباع عيسى عليه السلام يجعلون من أوائل ألقابه التي ينعتونه بها لقب المعلم، وإن أفضل المراتب وأجلها في الإسلام هي أن يتعلم المرء علما ويعمل به ويعلمه غيره لقوله ص: “خيركم من تعلم وعلم”، وإلى هذه المنزلة السامية الرفيعة التي يحتلها المعلم يشير أمير الشعراء شوقي بقوله:

 

سبحانك اللهم خير معلم ** علمت بالقلم القرون الأولى
أخرجت هذا العقل من ظلماته ** وهديته النور المبين سبيلا
وطبعته بيد المعلم تارة ** صدئ الحديد وتارة مصقولا
أرسلت بالتوراة موسى مرشدا ** وابن البتول فعلم الإنجيلا
وفجرت ينبوع البيان محمدا ** فساق الحديث وناول التنزيلا.

أيها المسلمون، لقد كانت العلاقة بين المعلم والمتعلم فيما مضى من الأزمان والدهور قائمة على الحب والوفاء والتكريم والتوقير، كان المعلم يحسب نفسه والدا لتلميذه، يؤدبه بالحسنى، ويهذبه بالحكمة، ويقسو عليه حينما تجب القسوة لعلاج سلوكه أو رده إلى رشده، ولكنها قسوة من يرحم ويريد الخير لإبنه وتلميذه، وقد اتجه علماء التربية وعلم النفس حديثا إلى الأخذ بهذا العلاج وقالوا: إن بعض الأطفال كالوحوش الصغيرة تسيطر عليهم نزوات وتسيرهم نزغات ونزعات، فلا بد من تقليم أظافرهم وقمعهم بشيء من الشدة، وتقويمهم بالنظرة أو الكلمة أو اللكزة، ولله در من قال:

فقسا ليزدجروا من يك حازما ** فليقس أحيانا على من يرحم.

أما المتعلم فهو ابن بار مطيع، يرى في إجلاله لمعلمه وأستاذه مظهرا من مظاهر الأدب وحسن الخلق والإعتراف بالجميل لمن أسدى الخير إليه، وكان التلميذ يعتبر نفسه عجينة بين يدي أستاذه المحب له، الحريص على تربيته وتعليمه يشكلها ويصوغها كما يرى بثاقب عقله وسعة نظره وغزارة علمه، وكان الطالب يحافظ على وفائه لأستاذه حتى بعد تخرجه أو انقطاعه عن المدرسة أو بلوغه مرتبة ملحوظة في الحياة، فهو يظل يذكر مدرسه بالخير ويفرح لقدومه عليه او للقائه عند غيره، ويجل محضره ومجلسه، ولا ينسى سابق فضله عليه، مما يجعله يتأدب أمامه ويستحيي منه، ويزوره إذا نآى عنه إن تيسر له ذلك، ويتودد إليه،
وحينما نسأل تاريخنا الإسلامي عن علاقة المتعلم بالمعلم نجده عاطرا يفيض بقصص الوفاء والحب المتبادل بينهما، مليئا بمواقف التمجيد والتبجيل الذي يربط بين العالم والمتعلم، فهذا الخليفة المأمون العباسي يحضر المعلم النحوي الشيخ الفراء ليعلم ولديه علوم العربية، وذات يوم أراد الفراء أن يقوم من درسه، فتسابق الولدان الأميران إلى أخذ حذائه ليقدماه إليه، وتنازعا على ذلك لحظة، ثم اتفقا على أن يحمل كل منهما من الحداء واحدة، وعلم الخليفة الوالد بالقصة فتأثر منها بالغ التأثر وأعجب بها أيما إعجاب، والتقى بالفراء فسأله: من أعز الناس؟ فأجاب المعلم لا أعرف أحدا أعز من أمير المؤمنين، فقال المأمون: بل أعز الناس من إذا نهض تقاتل على تقديم نعله إليه وليا عهد أمير المسلمين حتى يرضى كل واحد منهما أن يقدم له فردا، فقال الفراء: يا أمير المؤمنين، لقد أردت منعهما من ذلك، ولكني خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها، أو أكسر نفوسهما عن شريفة حرصا عليها. جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.

الخطبة الثانية
أيها المسلمون، كانت العلاقة بين التلاميذ والمعلمين، وبين الطلاب والأساتذة والمدرسين، علاقة قائمة على الإخلاص والحب المكين في كل وقت وحين، أما اليوم فلا محبة ولا وفاء بين الجانبين، إذ أصبح الطالب ينسى حق أستاذه عليه وهو بين يديه يغترف من علمه وفضله، فكيف به إذا بعد عن عينيه. لأن من المدرسين سامحهم الله من لا يؤدي حق تلميذه عليه، وهو مكلف بهذا الحق رسميا، فكيف به إذا تخلص من قيود هذا التكليف الرسمي وتخلى عن مسؤوليته وضيع أمانته الملقاة على عاتقه دنيا وأخرى، وبهذا السلوك المشين للطرفين انفصمت عرى الرابطة الكريمة بين الطالب والمطلوب، وفسدت العلاقة بين الراغب والمرغوب، فسادا ينذر بأخطر العواقب وأسوأ النتائج، إذ بدأ التلميذ يسرف في الاغترار بشخصيته، وأصبح بعض المعلمين والأساتذة يسرف في الاغترار بمكانته حتى صار منا من يتجاهل شخصية التلميذ أو يتحكم فيه قصد الضغط عليه، مع أن التلميذ يحتاج إلى الشعور بكيانه وذاته، وإلى من يأخذ بيده ويرشده إلى غاياته، والمعلم الناحج هو من خلط الشدة باللين، والحزم بالرفق، والعاطفة بالمسؤولية، وكون في تلاميذه صورا ناصعة من شخصيته، وإرادة قوية تجعلهم يؤمنون بعلمه وتربيته، وعمل بقول ربه الحكيم: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)، ولو أن الجميع فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا.
الدعاء..

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *