عقوق الوالدين، صوره وتجلياته وأسبابه وطرق علاجه

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.

أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾، وأخرج الإمام الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “رضى الرب في رضى الوالد وسخط الرب في سخط الوالد”، وأخرج الإمام البخاري في الأدب المفرد والترمذي في صحيحه في باب عقوق الوالدين عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا. قالوا بلى يارسول الله، قال الإشراك بالله، وعقوق الوالدين” وجلس وكان متكئا، وقال: ألا وقول الزور مازال يكررها حتى قلت ليته سكت”.والكبيرة  هي كل معصية، وقيل كل ذنب قرن بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب، وكفارة الكبائر هي التوبة النصوح إلى الله تعالى منها.

أيها الإخوة الكرام، لقد كثر في هذه الأيام الحديث عن عقوق الوالدين ومعاملة الأبناء لوالديهم بفظاظة وغلظة، وكثرت صور العقوق في مجتمعنا وفي بيوتاتنا، وظهرت فينا ظواهر لم تكن من قبل، كالتخلي عن الآباء والأمهات، وتركهم عرضة للشارع بعدما بلغوا من الكبر عتيا، أو التبرم منهم وإيداعهم في مأوى ودور العجزة، والتنكر لهم، وكأنهم لم يقوموا بأي دور يذكر لهم في حياتنا، أو لم يكن لهم أي دور في تربيتنا وتكويننا والاهتمام والعناية بنا، وإلى عهد قريب كان آباؤنا وأجدادنا رحمة الله عليهم معروفين بالبر والوفاء للوالدين، وكان يحرصون على تلقيننا دروسا يومية في البرور وطاعة الوالدين، ولا أدري كيف نسي أو تناسى الأبناء، كيف اهتم بهم آباؤهم وأمهاتهم وهم صغار، حيث وفروا لهم الغذاء واللباس والدراسة وغير ذلك، ولا أدري كيف نسي أو تناسى الأبناء عندما يمرضون، كيف يهتم الآباء لمرضهم، ولا يهدأ لهم بال حتى يشفوا من المرض، أم كيف نسوا انشغالهم وانزعاجهم عندما يغيبون عن أعينهم، ولا يهدأ لهم بال حتى يعودوا بالسلامة والأمان، كل هذا وعندما نبلغ السن والغاية التي كان يؤملها فينا الوالدين، نجعل جزاءهم غلظة وفظاظة وتنكرا، فمن نكون؟ ومن نحن؟ فما نحن إلا حسنة من حسنات آبائنا، فماهو معنى العقوق؟ وماهي بعض صوره وتجلياته في مجتمعنا؟ وماهي أسبابه؟ وكيف نعالج الظاهرة ونسهم في بناء جيل يحسن التعامل مع الآباء خاصة في الكبر؟ وكيف السبيل إلى التوبة من العقوق، في حالة إذا ابتلينا بهذه الكبيرة، والعياذ بالله.

أيها الإخوة الكرام، إنّ عقوق الوالدين هو المعنى المضاد لبر الوالدين، فنقول هذا ابن بار، وهذا ابن عاق، وعموما عقوق الوالدين هو عدم الإحسان إلى الوالدين وعدم طاعتهم، والضجر منهم وعدم معاونتهم، يقول عز وجل:” فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا” الأُف، أي أتضجر، وهي من الكلام الرديء الخفي، فحتى لو رأى الابن من أبيه شيئاً لا يحتمل، لا ينبغي أن يقول له: أُف، كل ما يُضجِر ويستثـقل ويقال له أُف، إن كان من الأب، لا ينبغي أن يقول الابن هذه الكلمة لأبيه، ورد في الأثر:” لو علم الله من العقوق شيئاً أقل من أُف لذكره”، قال العلماء : ” مجرد النظر إليهما بغضبٍ يعتبر عقوقاً”، يعني إذا نظر إلى أبيه بعبوس، وأخرج الطبراني عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” ما برّ أباه من سدد إليه الطرف بالغضب”، بل إن إغلاق الباب بعنفٍ من العقوق أيضاً، وهو يساوي أُف، ووضع الإناء بعنف من العقوق، أحياناً يغضب الابن، فيقود سيارته برعونة ليعبر عن غضبه من أبيه، هذا أيضاً من العقوق، وفي الأثر: “لم يتلُ القرآن من لم يعمل به، ولم يبرَّ والديه من أحدَّ النظر إليهما في حال العقوق أُولئك براءٌ مني وأنا منهم بريء”، ومن صور العقوق في أيامنا هذه، أن يقوم الولد فيسب أو يلعن أحد الأبوين أو كلاهما، ومن صوره أن يقوم الابن بعدم الإنفاق على والديه، خصوصا إذا كانا بحاجة إلى هذه النفقة، فمن باب الود والرحمة والإحسان إليهما مساعدتهم وهم على هذه الحالة، ومن صور العقوق أيضاً قطيعتهم، وعدم الاهتمام بهم والسؤال عنهم وعن أحوالهم، وأن تكون سببا في حزنهم وبكائهم، روي عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال:” ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما”، وقال ابن عمر: “بكاء الوالدين من العقوق والكبائر”، ومن صور العقوق رفع الصوت عليهم أو الغضب والصراخ أمامهم وفي وجوهم ورفع الأيدي في مخاطبتهم، والتضجر وإظهار الانزعاج من أوامرهم، وانتقاد الطعام الذي تعده الأم أو الأب والسخرية منه، والعبوس وعدم الابتسام إليهم، وترك الإصغاء للحديث إليهم أو عدم إعارة الاهتمام والانتباه لكلامهم، وذمهم أمام الآخرين، والتعدي عليهم بالضرب، وتفضيل الزوج أو الزوجة عن الأم أو الأب، أي سماع كلام الزوجة وتفضيلها عن الأم، وعدم السلام عليهم أو إلقاء التحيّة عليهم، وذلك بحجة أنه يراهم كل يوم،، وتمني موتهم والدعاء عليهم، وإيداعهم بدور المسنين والعجزة، كل هذه صور من صور العقوق في أيامنا هذه. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من الراضين المرضيين آمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

أما بعد فيا عباد الله، دعونا نتوقف شيئا قليلا عند معنى قول الله تعالى:﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾.

الحقيقة أيها الإخوة الكرام، أن الأب الشاب اليقظ الواعي هو في غنى عن ابنه، ليس في هذا شك، ولكن متى تشتد حاجة الأب إلى ابنه؟ إذا بلغ من الكبر عتياً، إذا تقدمت به السن، إذا ضعف بصره، إذا انحنى ظهره، إذا خارت قواه، إذا ضعفت ذاكرته، إذا كلَّت يده، إذا أصبح عبئاً على ابنه، يكون الأب في أشد حالات الحاجة إلى ابنه إذا تقدمت به السن، وإذا وقف كسبه، وإذا أصبحت حاجاته كثيرة، وأدويته كثيرة، ومطالبه كثيرة، وله أبناء في أوج شبابهم، وفي عنفوان رجولتهم، لذلك ربنا عزَّ وجل أشار إلى الكبر، فقال:﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾
أشارت الآية أيضاً في كلمة ( عندك ) إلى المعنى التالي: الابن أحياناً يكون أبوه قد تقدمت به السن، ولكنه يقطن عند أخيه، فيزوره من حينٍ إلى آخر، ويقدم له واجبات الخضوع والمحبة ويجلس قليلاً وينصرف، أما عبء الأب فهو على الأخ الثاني، فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية يشير إلى أن حقوق الأب تشتد ويعظم أجرها إذا بلغ من الكبر عتياُ وكان ( عندك ) في البيت، أي: كنت أنت ترعاه.

ولايغرنكم ما أصبحت تفتخر به  بعض الدول الغربية، بأن لديها مأوىً للعجزة والمسنين، أي أن هذا الإنسان إذا تقدمت به السن التحق بهذا المأوى، قد يقدموا له كل شيء، أطيب الطعام، وكل الخدمات الصحية، ولكن لايستطيعون أبداً أن يقدموا له المحبة، ولا العطف، ربما كانت سعادة الأب أن يمتِّع نظره بأولاده، فإذا زجّوا به في مأوى العجزة، وتخلوا عنه، وأنفقوا عليه الأموال الطائلة، فوالله قد فعلوا في حقه جريمة لاتغتفر، لذلكم ديننا يوجد فيه نظام التضامن الاجتماعي، أي أن كل أُسرة متضامنة متكافلة فيما بين أفرادها، فلو تقدمت بالأب السن، لو ضعف بصره، لو خارت قِواه، لو أصبح عاجزاً، إنه بين أولاده، بين بناته، بين أقربائه، هذا الذي ينسيه ألمه، فإذا زجَّ به في مأوى العجزة، فَقَدَ العطف، وفقَدَ الحنان، فكيف إذا كان هذا المأوى فيه القسوة وفيه الضرب وفيه الإيذاء بالكلام الجارح ؟، فالتفكير في إيداع الآباء بدور العجزة ليس حلا.

أيها الإخوة الكرام لهذه الخطبة تتمة سنأتي عليها في خطبة لاحقة، نتكلم فيها بحول الله تعالى عن أسباب العقوق وعلاج الظاهرة، وفي احال ابتلاء أحدنا بعقوق الوالدين كيف يتوب إلى الله من ذلك، والحمد لله رب العالمين.

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *