صور من صبر العلماء على شدائد تحصيل العلم

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك.

وأشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.

أما بعد فيا عباد الله، يقول الله جل جلاله في كتابه الكريم: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، في هذه الآية يخبر الحق سبحانه وتعالى أن سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قال للخَضِر: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)، فقال الخضر: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)، وفي هذا تنصيص من الذكر الحكيم أن العلم يحتاجٌ إلى الصبر، وفيه أيضا يخبر الحق سبحانه عن صفيه وكليمه الذي كتب له الثوراة بيده، وكلمه منه إليه، أنه رحل إلى رجل عالم يتعلم منه، ويزداد علما إلى علمه.

أيها الإخوة الكرام، تباعا لما ذكرناه في الجمعة الماضية من توجيهات هامة إلى الأبناء والبنات وأوليائهم وإلى السادة المشرفين على المؤسسات التعليمية والمربين، بخصوص تظافر جهود الجميع لإنجاح العملية التعليمية، أحب في هذا اليوم المبارك أن أتكلم عن الخصال المهمة التي يحتاجها التلميذ والطالب في تحصيلهم للعلم، وتتمثل في مجموعها في الصبر وعلو الهمة والجلد والمثابرة والبذل والتقوى، وسأتوقف بحول الله عند بعض ما عاناه سلفنا الصالح في تحصيل العلم والمعرفة، وكثرة شيوخهم، ونسخهم لكتب العلم، وقوة حافظتهم، وذلك لنعمل على شحذ همم طلاب العلم للسير على ما سار عليه سلفهم، ولنبرز صورة من عَظَمةِ علماء هذه الأمة في تحصيلهم للمادة العلمية، وسأتوقف بشكل خاص عند ذكر حكايات واقعية من بذلهم الغالي والرخيصَ في سبيل العلم طلباً لمرضاة الله تعالى، والحكايات أيها الإخوة الكرام كما قال السلف: جندٌ من جنود الله تعالى يثبتُ بها قلوبَ أوليائه، تصديقاً لقول الله تعالى: ( وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)، وقال الإمام أبو حنيفة النعمان: “الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحبُّ إليّ من كثير من الفقه”.

أيها الإخوة الكرام، إذا نظرنا بتمعن كبير إلى واقعنا الاجتماعي اليوم، نجد أن كل الوسائل التي تساعد على تحصيل العلم النافع غدت موجودة وميسرة للجميع، فالأساتذة والعلماء موجودون، وكتب العلم والحمد لله على اختلاف أصنافها وأشكالها موجودة ومطبوعة ومتداولة، بل أصبحت الأقراص الحديثة تجمع الموسوعات العلمية المتعددة التي كان سلفنا يتعب في جمع كتاب واحد منها السنين الطويلة، ولكن مع تيسر كل هذا ابتلينا بضعف الهمة، والركون إلى الكسل والدعة، وعند حلول وقت الامتحانات تفننا في وسائل الغش المبتكرة، وأحوجنا أهل الشأن إلى سن قوانين زجرية وعقابية، فكيف كان حال سلفنا الصالح في تحصيلهم للعلم؟ وبماذا تميزوا حتى نالوا ما نالوا؟

أيها الإخوة الكرام، إن من علامات كمال العقل لدى الطالب والتلميذ علوُ الهمة، والراضي بالدون دَني كما يقال، وما ابتلي الإنسان قطُّ بأعظمَ من علوِّ همته، فإن مَنْ عَلَت همتُه يختار المعالي، ومَنْ رُزِقَ همةً عالية يُعَذَّبُ بمقدار عُلوِّها كما قال الحكيم: “وإذا كانت النفوسُ كبارا تعبتْ في مرادها الأجسام”، وإذا لم يتعود أبناؤنا على الصبر في التحصيل، وساعدناهم على ذلك فأنا لهم تحصيل العلوم وبلوغ المراتب العالية.

وإن أول من صبر في تحصيل العلم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم، وابن عباس رضي الله عنه نموذج عنهم، روى الحاكم في المستدرك عن عكرمة قال: قال ابن عباس: لما قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاب، قلت لشاب من الأنصار: هلُمَّ فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  ولنتعلم منهم، فإنهم اليوم كثير، فقال: يا عجباً لك يا ابن عباس؟ أتُرى الناسَ يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منْ فيهم، قال: فترك ذاك وأقبلتُ أنا على المسألةِ وتتبُّعِ أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنْ كنتُ لآتي الرجلَ في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم  فأجده قائلاً، أي نائماً منتصف النهار، فأتوسدُ ردائي على بابه تسفي الريحُ على وجهي التراب حتى يخرج، فإذا خرج قال: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم  ما جاء بك؟ هلاّ أرسلت إليّ فأتيك؟ فأقول: لا أنا أحق أن آتيك، بلغني حديث عنك أنك تحدثّه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحببتُ أن أسمعه منك، فكان الرجل يراني بعد ذلك، وقد ذهب أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع حولي الناس يسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني.

ثم تبعَ الصحابةَ التابعون، قال ابن جريح في عطاء بن أبي رباح: كان المسجد فراشَ عطاءٍ عشرين سنة وكان أسودَ أعورَ أفطس أشلَّ أعرجَ ثم عمي، وورد في ترجمة الإمام عبد الله بن المبارك، قال علي بن الحسن بن شقيق: قمتُ مع عبد الله بن المبارك في ليلة باردة ليخرج من المسجد، فذاكرني عند الباب بحديث وذاكرته، فمازال يذاكرني حتى جاء المؤذن فأذّن للفجر.

ثم جاءت عصور تابعي التابعين ومَنْ بَعْدَهُم لتنشر لنا عجباً في طلب العلماء للعلم وصبرهم له، وارتحالهم من أجله من بلد إلى بلد حتى شاع في كتب التراجم قولهم: الإمام الرحالة..، الإمام الجوّال، الطوّاف.. إشارة إلى طوافه في الأرض بحثاً عن العلم، وقولهم: طاف الأرض أربع مرات..، دَوّخ الدنيا في طلب العلم، طاف الدنيا من مشرقها إلى مغربها على قدميه.

قال الإمام الحافظ أبو حاتم الرازي إمام فن الجرح والتعديل، أول ما خرجتُ في طلب الحديث أقمتُ سبع سنين، أحصيتُ ما مشيتُ على قدمي زيادة على ألف فرسخ، لم أزل أحصي حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته، علماً أن الفرسخ بمشي القدم نحو ساعة ونصف وهو خمسة كيلومترات تقريباً، وقد سار أبو حاتم من الكوفة إلى بغداد أكثر من مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، ومن مدينة سلا في المغرب الأقصى إلى مصر، ومن مصر إلى الرملة، إلى بيت القدس، إلى طبرية، إلى دمشق، إلى حمص، إلى أنطاكية، إلى طَرَطوس ثم رجع من طرطوس إلى حمص إلى بيسان إلى الرقة.

هذه الرحلات والصبر على مشاقها في طلب العلم ابتغاء وجه الله تعالى جعلت الخطيب البغدادي يصنف كتاباً سمّاه الرحلة في طلب الحديث ذكر فيه طرفاً من أخبار هؤلاء العلماء الأجلاء، ومن نوادر ما قرأتُ في الانصراف إلى طلب العلم والانشغال به عما سواه، أنّ الفقيه المالكي الإمام المحدث محمد بن سحنون القيرواني كانت له سُرِّيَّة يقال لها: أمُّ مُدَام ، فكان عندها يوماً وقد شُغِلَ في تأليف كتاب إلى الليل، فحضر الطعامُ فاستأذنْتَهُ ليأكُلَ فقال لها: أنا مشغول الساعة، فلما طال عليها جعلت تُلَقِّمُهُ الطعام حتى أتت عليه، وتمادى هو فيما هو فيه إلى أن أُذِّن لصلاة الصبح، فقال: شُغِلْنَا عنكِ الليلةَ يا أمَّ مُدَام، هاتِ الطعام فقالت قد والله يا سيدي ألقمتُه لك فقال لها: ما شعرتُ بذلك،

وحَدَّثت كتب تراجم الرجال أن محمود بن عمر الزمخشري إمامَ العربية وعلومها سقطت رجله وهو في رحلته في طلب العلم في بلاد خوارزم لشدة البرد وطول الطريق وكثافة الثلج، وأن صديقَه أبا الفتيان عمر بن عبد الكريم الرَّوَّاسي الحافظَ الجوَّال سقطت أصابع يده، وأن الحافظ محمد بن طاهر المقدسي الحافظ المحدث الجوال بال الدمَ في طلب الحديث مرتين مرة ببغداد ومرة بمكة، قال وذلك أني كنتُ أمشي حافياً في حَرّ الهواجر فلحقني ذلك، وما ركبتُ دابةً قط في طلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة، وقال ابن نقطة: سمعت من غير واحد من أهل العلم، أن أبا الفتيان سمع من ثلاثة آلاف شيخ وست مائة، رحمة الله عليهم أجمعين ونفعنا بالاقتداء بهم آمين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد فياعباد الله، كان علماؤنا رحمة الله عليهم آيات في القراءة والكتابة والحفظ، فقد حدّثوا عن المحدث الكبير الرحال عباس بن الوليد الفارسي تلميذ سفيان بن عيينة والفضيل بن عياض أنهم ربما وجدوا في آخر بعض كتبه ما نصه درسته ألف مرة،… وذُكِرَ عن إمام الفقهاء المعروف بابن التَّبَّان أنه درس المُدَوَّنة نحو الألف مرة،…

وقال الفقيه المحدث المالكي محمد بن عبد الله صالح التميمي البغدادي قرأتُ مختصر ابنِ عبد الحكم خمس مئة مرة، والأسدية خمساً وسبعين مرة، والموطأ خمساً وأربعين مرة، ومختصر البرقي سبعين مرة والمبسوط ثلاثين مرة، وقرأ الحافظُ الحسن السمرقندي صحيح مسلم نيفاً وثلاثين مرة، وقرأ الفيروز أبادي البخاري أزيد من خمسين مرة، على حين أن المحدث أبا بكر غالب بن عبد الرحمن الأندلسي قرأ البخاري سبع مئة مرة هذا في القراءة، أما الكتابة، فقد قال المتقدمون كنا لا نُعِدُّ صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الإملاء، وكتب الحافظ الدمشقي ابن عساكر كتابه الموسوم تاريخ دمشق وهو في ثمانين مجلدة بيده، وكذا كتب سائر كتبه التي جاوزت الخمسين، على حين أن الشيخ ابن عبد الدائم المقدسي كتب تاريخ دمشق ذا الثمانين المجلدة مرتين، وكتب المغني لشيخه الموفق بن قدامه المقدسي وهو عشر مجلدات كبار مراتٍ،

وسئل الإمام أحمد إذا كتب الرجل ثلاثين ألف حديث لم يكفه؟ فسكت، قيل: ستين ألفاً؟ فسكت، قيل مئة ألف، فقال حينئذ يعرف شيئاً، وكان يـحيى بن معين يقـول: كتبتُ بيدي هذه ستمائة ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الحفظ فقد كان حراسُ العلم معجزاتٍ في الحفظ،

وكان الإمام البخاري يحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح، وكان الإمام مسلم انتخب كتابه الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث، على حين أن الإمام أبا داود انتخب كتابه السنن من خمسمائة ألف حديث، وقال الإمام أبو زرعة الرازي لعبد الله بن أحمد بن حنبل: كان أبوك يحفظ ألفَ ألفِ حديثٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله: وما يدريك قال ذَاكَرْتُه فيها، وكذا حفظوا كتب الفقه ومعاجم اللغة ودواوين الشعر، قال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري: بلغني أن أبا عبد الله شرب دواء للحفظ يقال له بلاذر، فقلت له يوما خلوة: هل من دواء يشربه الرجل فينتفع به للحفظ؟ فقال: لا أعلم، ثم أقبل علي وقال: لا أعلم شيئا أنفع للحفظ من نهمة الرجل ومداومة النظر في الكتب”،

وقال ابن المديني: قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد على الغير، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وذلك لصبره على الذل وقلة التفقد، أي لا أحد يتفقده ويهتم به، ومع هذا يصبر على ذلك، وبكور كبكور الغراب: سرعة بكوره وسرعة إيابه قبل الليل.

فهذه نبذة لسيرة من حياة علمائنا السابقين وآبائنا المتقدمين وهي باقةٌ من مكارم الآباء تُهْدَى إلى كرام الأبناء لتحدوهم على السير على طريق أسلافهم، والحمد لله رب العالمين.

الدعاء.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *