صور من حال السلف في البرور بالوالدين
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله تعالى في كتابه الكريم مثنيا على نبيه عيسى عليه السلام: “وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا”، وقال عن نبيه يحيى عليه السلام:” وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا”.
أيها الإخوة الكرام في الخطبة الماضية والتي قبلها، تكلمت عن آفة عقوق الوالدين، فعرفنا معنى العقوق، وبعض صوره وتجلياته في المجتمع، كما عرفنا أسبابه، وطرق معالجة الظاهرة والإسهام في بناء جيل يحسن التعامل مع الآباء خاصة في الكبر، وبقي أن نعرف السبيل إلى التوبة من العقوق، في حالة إذا ابتلينا بهذه الكبيرة، والعياذ بالله، و بقي أيضا أن نطلع على صور من حال السلف الصالح في البرور بالوالدين.
أيها الإخوة الكرام، بداية قد يسأل سائل إذا ابتلينا بعقوق الوالدين في فترة من الفترات، فهل من توبة من هذه الكبيرة؟ أقول في الجواب: بأن الأمر مفتوح على الدوام لاستدراك مافات في علاقتنا بوالدينا، ورد في الأثر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن العبد ليموت والداه أو أحدهما، وإنه لهما لعاق، فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتب عند الله بارا”، هذه بشارة وأية بشارة، فلو أن أباً مات غاضباً على ابنه، فيقوم هذا الابن العاق فيدعو لوالديه ويستغفر لهما، ويعمل الأعمال الصالحة من أجلهما، ربما يكتبه الله باراً، ولو مات أحد أبويه غاضباً عليه أو كلاهما، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول فيما أخرجه الطبراني والإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: “إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب أنى لي هذه؟ فيقول :باستغفار ولدك لك”، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” إذا مات العبد انقطع عنه عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له”، وعن ابن عباس أن رجلا قال: “يارسول الله، إن أمي توفيت ولم توص، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم”.
أيها الإخوة الكرام، ولكي تعرفوا حال سلفنا الصالح في برورهم بوالديهم، اخترت أن أطلعكم على بعض من أحوالهم في البر والوفاء، وقبل أن أطلعكم على بعض أحوالهم في البرور، مامعنى البرور؟ البرور بالوالدين هو التوسع في الإحسان إليهما، وتحري محابهما، وتوقي مكارههما، والرفق بهما، فكل إحسان قولي أو فعلي أو بدني، بحسب أحوال الوالدين والأولاد والوقت والمكان، فإن هذا هو البر، فكل ما أرضى الوالدين من جميع أنواع المعاملات العرفية وسلوك كل طريق ووسيلة ترضيهما، فإنه داخل في البر.
روى الإمام البخاري في الأدب المفرد عن أبي مرة مولى عقيل، أن أبا هريرة رضي الله عنه، كان يستخلفه مروان، وكان يكون بذي الحليفة، فكانت أمه في بيت وهو في آخر، قال: فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها فقال: السلام عليك ياأمتاه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك يابني ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتيني صغيرا، فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيرا، ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثله”، وقال محمد بن سيرين:” كنا عند أبي هريرة ليلة، فقال: “اللهم اغفر لأبي هريرة ولأمي ولمن استغفر لهما”، قال محمد: فنحن نستغفر لهما حتى ندخل في دعوة أبي هريرة”، وأخرج الإمام البخاري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر أعرابي في سفر، فكان أبو الأعرابي صديقا لعمر رضي الله عنه، فقال الأعرابي: ألست ابن فلان؟ قال: بلى، فأمر له ابن عمر بحمار كان يستعقب، ونزع عمامته عن رأسه فأعطاه، فقال بعض من معه: أما يكفيه درهمان؟ فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “احفظ ود أبيك لاتقطعه فيطفئ الله نورك”، وفي رواية أخرى أنه قال:” أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه”، وفي الأدب المفرد أيضا عن سعيد بن أبي بردة قال:”سمعت أبي يحدث أنه شهد ابن عمر رجلا يمانيا يطوف بالبيت، حمل أمه وراء ظهره فقال: يابن عمر أتراني جزيتها؟ قال: لا ولا بزفرة واحدة”، وقيل لعلي بن الحسين: أنت من أبر الناس بأمك، ولكن لماذا لا تأكل معها ؟ قال: ” والله أخاف أن تمتد يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه فأكون قد عققتها”.
ولا يقتصر بر الوالدين أيها الإخوة والأخوات على حال حياتهما، بل يمتد أيضا إلى مابعد مماتهما كما مر ذكره، فقد أخرج الإمام البخاري عن أبي أسيد قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما؟ قال: نعم خصال أربع: “الدعاء لهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لارحم لك إلا من قبلهما”.
إن بر الوالدين بابٌ كبير من أبواب الجنة، فمن كان له أب على قيد الحياة أو أم، أو من كان له أب وأم، فليغتنم هذه الفرصة، لأن الله عزّ وجل أمرنا أن نحسن إلى الوالدين، وقرن هذا الأمر بعبادته، ووعد البارين سعادة في الدنيا وخيرا وأجرا عظيما في الآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد فياعباد الله، روى الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” بينما ثلاثة نفر يمشون، أخذهم المطر، فأووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض، انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله بها لعله يفرجها عنكم، قال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم حلبت، فبدأت بوالدي أسقيهما قبل بني، وإني استأخرت ذات يوم فلم آت حتى أمسيت، فوجدتهما ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أسقي الصبية، والصبية يتضاغون عند قدمي حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلته ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء ففرج الله فرأوا السماء….”
أيها الإخوة الكرام، هذه بعض الصور المشرقة لحال سلفنا الصالح في البرور بالوالدين، وما أحوجنا إلى الاقتداء بهم والتشبه بحالهم، وعموما عندما نطلع على سير الكثير من سلفنا نجدهم كانوا يتصفون بصفات كثيرة في علاقتهم بوالديهم، فمن ذلك تحققهم بـ: طاعة الوالدين واجتناب معصيتهما، والإحسان إليهما، وخفض الجناح لهما، والبعد عن زجرهما، والإصغاء إليهما، والفرح بأوامرهما، والتودد لهما، والجلوس أمامهما بأدب واحترام، وتجنب المنَّة في الخدمة أو العطِيَّة، وتقديم حقّ الأم، ومساعدتهما في الأعمال، والبعد عن إزعاجهما، وتجنب الشجار وإثارة الجدل أمامهما، وتعويد الأولاد البر، وإصلاح ذات البَيْن إذا فسدت بين الوالدين، والاستئذان حال الدخول عليهما، وتذكيرهما بالله دائمًا، واستئذانهما والاستنارة برأيهما، والمحافظة على سمعتهما، والبعد عن لومهما وتقريعهما، والعمل على ما يسرهما وإن لم يأمرا به، وفهم طبيعتهما ومعاملتهما بمقتضى ذلك.
ختاما، ولنعلم أيها الأخوة أن بر الوالدين مسألة دَين ووفاء، وأن من برهما الآن بره أبناءه في المستقبل، ومن عقهما الآن فيخشى أن يكتب عليه عقوق أولاده له في المستقبل، فكما تدين تدان، نسأل الله عز وجل أن يكتبنا من البارين المحسنين بوالديهم آمين، والحمد لله رب العالمين.