صفات الربانيين ووصاياهم
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره،
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله جل جلاله في كتابه الكريم: (من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)، ومن في الآية (من المومنين) بيانية وليست للتبعيض، وقال تباركت أسماؤه : (محمد رسول الله والذين معه، أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره، فاستغلظ فاستوى على سوقه، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما).
أيها الإخوة الكرام، في رمضان الماضي الذي أسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم فيه صالح الأعمال، تناولت في خطب متتالية معنى الربانية في الإسلام، وتكلمت عن دعوة الله للإنسان أن يكون ربّانيًّا، فعرفت بالإنسان الرباني وببعض خصائصه، وبقي أن أحدثكم عن أهمية الاطلاع على حياة الربانيين من الناس وصفاتهم وبعض وصاياهم، وأهمية اتخاذهم قدوة وأسوة في الحياة، وسأضرب أمثلة ببعض مواقف الصحابة الكرام رضي الله عنهم ومبادئهم الصادقة التي لا يتزحزحون عنها وكل همهم نيل رضى الله سبحانه وتعالى.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما روى ذلك الإمام أحمد في المسند: “إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئا فهو عند الله سيء”، ويقول ابن عمر رضي الله عنه: “من كان مستنا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا على الهدي المستقيم والله رب الكعبة، يا ابن آدم صاحب الدنيا ببدنك، وفارقها بقلبك وهمك، فإنك موقوف على عملك، فخذ مما في يديك لما بين يديك عند الموت يأتك الخير”.
أيها الإخوة الكرام، إن دراسة الأعلام الربانيين في التاريخ أمر ذو أهمية بالغة الأثر في تكامل الثقافة والإعداد من أجل أن يأخذ الفرد دوره الباني الفعال في حياة الجماعة وبناء المجتمع، ونحن أمة أكرمنا الله بأن كان أعلامنا صورة حية واقعية للمبادئ التي حملوها، ولم يبخلوا بالعطاء في سبيلها، فإذا قرأت سيرة واحد من هؤلاء وقعت على الأنموذج الذي تعتبر حياته- بما يتسم به من علم وتعليم وتربية بالكلمة والقدوة والسلوك- إعلانا أي إعلان ينادي في الناس أن الإسلام وطاقات الإنسان على حد سواء. وإقدامهم حيث يتعين الإقدام، وصبرهم على مستلزمات العقيدة حيث لا يصبر إلا أقوياء الإيمان الصادقون، واليوم وقد كثرت المعوقات والمثبطات والفتن وهموم الحياة، تبدو ضرورة ملحة دراسة تلك النماذج بأصالة وعمق وروية، من أجل أن يكون ذلك عونا لنا على الإسهام الإيجابي النافع في كل ما هو خير لأنفسنا ولأسرنا ومجتمعنا وأمتنا.
أيها الإخوة الكرام إننا عندما نتأمل حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجدهم لم يكونوا يتلقون عنه صلى الله عليه وسلم المعلومات وكفى، ولكن كان هنالك إيمان قوي وإرادة حازمة ترجمت تلك المعلومات وانعكست على تزكية أنفسهم، أي أنهم كانوا يطبقون ما يعلمون، وحملوا أنفسهم إلى حيث خشية الله، ووقفوا عند حدوده، وراقبوه في السر والعلن، وعملوا بتلك القاعدة النورانية من الحديث الصحيح في بيان الإحسان: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، نعم وصلوا هذه المرتبة في علاقتهم وصلتهم بالله، وإذا قارنا حالنا بحالهم نجد أنفسنا اليوم لا تعوزنا المعلومات ولا الإمكانات، فيكفي أن ينقر الواحد منا على زر الشبكة العنكبوتية ليجد فيها علم الأولين والآخرين، ويكفي أن يزود الإنسان بيته بما هو متاح من وسائل التقنية الحديثة ليعيش في بحبوحة ورغد عيش لم يكن متوفرا ولا مهيئا للأوائل، ولكن الأسئلة التي تطرح نفسها علينا بقوة هي: أين العمل؟ وأين التطبيق؟ وأين قوة الإرادة؟ وأين الصدق؟ وأين الخشية؟ وأين الصبر على الطاعة؟وأين الأنس بالله؟ وأين الطمأنينة والراحة التي لا يحصلهما المؤمن إلا في حسن علاقته بالله؟ وأين؟ وأين؟
نعم أيها الإخوة الكرام كان الصحابة رضي الله عنهم يعظهم الرسول صلى الله عليه وسلم فتذرف لموعظته العيون، وتجل لها القلوب، وتفيض آثارها على جوارحهم وسلوكهم، فتراهم يمشون على الأرض بطهر الملائكة، ويتصلون بالسماء بممارستهم اليومية لشؤون الحياة، لأنها كلها لله في سبيل الله، فكان الصدق في المواطن ومراقبة الله في السر والعلن، وكانوا يدركون حقيقة أن ما كان لله فهو المقبول… وما كان لغيره فهو المردود، كل أولئك لم يكن في حياتهم دروسا تلقى على الناس من أجل غرض من أغراض الدنيا… وكل واحد منهم كان يمثل الدعوة العلمية إلى الله… لما يعلم الآخرين من مبادئ وأحكام… حتى قالت عائشة رضي الله عنها عن سيدنا عمر: “كان عمر قرآنا ناطقا”.
أيها الإخوة الكرام، أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا)، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين، وفي رواية: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال: “عرضت علي الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا”، فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه، غطوا رؤوسهم ولهم خنين، و الخنين ضرب من البكاء دون الانتحاب، وأصل الخنين خروج الصوت من الأنف، كالحنين من الفم… أما إنه ليس بدعا بعد ذلك أن نرى في أعمالهم، وتربيتهم، وسلوكهم ما هو صورة صادقة لميراث النبوة، أن نرى الربانية تتجلى في صورة حية تمشي على الأرض، فهؤلاء الأبطال الأشاوس هم أحق الناس أن نقتدي بهم، وصدق الحكيم الذي يقول: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام رباح، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فيا عباد الله، أحببت في ختام هذه الخطبة أن أنقل إليكم بعض وصايا الربانيين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنعلم ما أنتجته صحبتهم لرسول الله من علاقة صادقة طيبة متصلة بالله، كتب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله فكان في آخر كتابه: “حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة، عاد مرجعه إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغله هواه، عاد مرجعه إلى الندامة والحسرة، فتذكر ما توعظ به لكي تنتهي عما تنهى عنه”.
وعلى هذه الطريق من الفقه الحقيقي لهذا الدين الذي أكمل الله به نعمته على الناس، روي عن علي رضي الله عنه فيما أخرجه أبو نعيم قال: “ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر عملك ويعظم حلمك، وأن تباهي الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله، ولا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: رجل أذنب ذنبا فهو متدارك ذلك بتوبته، أو رجل يسارع في الخيرات… ولا يقل عمل في تقوى… وكيف يقل ما يتقبل”، وأخرج أيضا أبو نعيم أن أبا عبيدة رضي الله عنه كان يسير في العسكر فيقول: “ألا رب مبيض ثيابه مدنس لدينه، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ادرؤوا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات، فلو أن أحدكم عمل من السيئات ما بينه وبين السماء ثم عمل حسنة لعلت فوق سيئاته حتى تقهرهن”.
فهؤلاء أيها الإخوة والأخوات هم الربانيون الذين حملوا هذا الدين بقوة وإخلاص وعملوا على تبليغه للعالمين حتى وصل إلينا عضا طريا، لقد كانوا أشداء على الكفار رحماء بهم، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا … نعم ولقد كانوا في متقلبهم ومثواهم على طريق مرضاة الله … يحبهم ويحبونه … ويوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه … ذلك لمن خشي ربه.
هذا بعض مما أشرقت به آي الكتاب الكريم من صفات أولئك البررة قادة ربانيي هذه الأمة عليهم الرحمة والرضوان، وسنتوقف بحول الله في خطبة لاحقة عند نتف من حياتهم علنا نأخذ ولو نزرا يسيرا مما يصلح للتأسي والاقتداء في حياة الربانيين من سلفنا، والحمد لله رب العالمين.
الدعاء.