شكر النعم -2-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، نحمده تعالى على فضله وإحسانه حمدا كثيرا، ونشكره سبحان وتعالى على نعمه التي أسبغ علينا بكرة وأصيلا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل علينا كتابا مبينا يقول فيه: “ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث في الناس بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المتمسكين بسنته السائرين على نهجه الشاكرين لنعمائه، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، في الجمعة الماضية تحدثنا عن موضوع شكر النعم، وبينا أركانه الثلاثة وهي اعتراف العبد بنعمة الله عليه في قرارة نفسه وصميم قلبه وبأن كل نعمة واصلة إليه فمن ربه سبحانه وتعالى تفضلا منه وإحسانا، لا بحوله ولا بقوته، ثانيا التحدث بهذه النعمة ظاهرا، والركن الثالث من أركان شكر النعمة هو الإستعانة بها على مرضاة الله سبحانه وتعالى، واليوم بإذن الله تعالى أريد أن أنبه نفسي وإياكم، أيها الإخوة المؤمنون، إلى أن كثيرا من الناس لا يعرفون قدر النعمة إلا ذا فقدوها، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، وذلك لغلبة الغفلة عليهم حين وجودها عندهم، وصدق من قال: “عليكم بمداومة الشكر على النعم، فقل نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم”، وفي هذا المعنى قيل: إنما يعرف قدر الماء من بلي بالعطش في البادية، لا من كان على شاطئ الأنهار الجارية، وقد عني القرآن المجيد بالحديث عن الشكر عناية واضحة، فذكره في مواطن كثيرة من آياته البينات، وطلب من عباد الله أن يتحلوا به ويحرصوا عليه فقال تعالى في سورة البقرة: “فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون”، وقال أيضا: “يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم، واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون”، وقال في سورة النمل: “فكلوا مما رزقناكم حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون”، وقال في سورة الأعراف: “فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين”، وقال في سورة لقمان: “ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني حميد”، ولله ذر حجة الإسلام الإمام الغزالي (ح) حين يتفنن في إعطائنا صورا كثيرة للشكر فيذكر في كتاب الإحياء أن حياء العبد من تتابع نعم الله عليه شكر، ومعرفته بتقصيره عن الشكر شكر، والإعتذار عن قلة الشكر شكر، والمعرفة بعظيم حلم الله وكنف ستره شكر، والإعتراف بأن النعم ابتداء من الله تعالى من غير استحقاق شكر، والعلم بأن الشكر أيضا نعمة من الله وموهبة منه شكر، وحسن التواضع للنعم والتذلل فيها شكر، وشكر الوسائط شكر، وقلة الإعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر، وتلقي النعم بحسن القبول واستعظام صغيرها شكر”، هذا ولقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في خلق الشكر، فقد روي عن عطاء أنه قال: “دخلت على عائشة (ض) فقلت: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت وقالت: وأي شأنه لم يكن عجبا؟، أتاني ليلة فدخل معي في فراشي حتى مس جلده جلدي، ثم قال: يا ابنة أبي بكر ذريني أتعبد لربي، قلت: إني أحب قربك، لكني أوثر هواك، فقام إلى قربة ماء فتوضأ فلم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي، فبكى حتى سالت دموعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع فبكى، فلم يزل كذلك يبكي حتى جاء بلال فأذنه بالصلاة فقلت يا رسول الله، ما يبكيك، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا، ولم لا أفعل ذلك وقد أنزل الله تعالى علي “إن في خلق السماوات والأرض..”. اللهم اجعلني وإياكم من الشاكرين الذاكرين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون، لقد قص الرب العظيم علينا في القرآن الكريم ما حل بالأمم التي كفرت بأنعم الله وأعرضت عن شكره وعبادته وذكره من قصم الأعمار، وخراب الديار، وذهاب الأموال والأولاد والإغراق في الأنهار والبحار وما تقشعر منه الجلود ، وما يكون عبرة لأولي الأبصار، من ذلكم ما قصه عن قبيلة سبأ التي أنعم الله عليها بالجنتين وقال لهم: “كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور”، فأعرضوا عن الشكر والعمل الصالح وكذبوا الأنبياء وخالفوا أمر الله الذي يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، فأرسل الله عليهم سيل العرم، الذي أغرق ديارهم وأولادهم، وأهلك حروثهم وأشجارهم، فبدلوا بالغنى فقرا، وبالسعادة شقاء، وبالنعمة نقمة، وبالإجتماع تفرقا وتشتتا في غربة، فقالوا: “ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق، إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور”، حتى صار المثل يضرب بتفرقهم وتشتتهم فيقال للقوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ، أي كما تفرقت سبأ، فاتقوا الله عباد الله واشكروه على نعمه التي أسبغها عليكم بأداء ما أوجب عليكم وتجنب ما حرم عليكم، وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما. . الدعاء