شكر النعم -1-
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، نحمده تعالى على فضله وإحسانه حمدا كثيرا، ونشكره سبحان وتعالى على نعمه التي أسبغ علينا بكرة وأصيلا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل علينا كتابا مبينا يقول فيه: “ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث في الناس بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المتمسكين بسنته السائرين على نهجه الشاكرين لنعمائه، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، إن الله سبحانه وتعالى قد أسبغ علينا من نعمه الكثيرة الظاهرة منها والباطنة ما لا نستطيع عده وحصره، فقال: “وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار”، وأمرنا بشكره والإكثار من ذكره، ووعدنا بالمزيد إن شكرناه، وأوعدنا بالعذاب الشديد والخزي الأكيد إن عصيناه، فقال سبحانه وتعالى: “وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد”، فانظروا عباد الله موقفكم من نعم الله المتجلية عليكم، واشكروه على ما أولاكم من صحة ومال وأولاد وإيمان واطمئنان يزدكم، وتأملوا في أحوال من قبلكم وأحوال من حولكم ممن تنكروا لنعم الله وأعرضوا عن ذكر الله واستكبروا في الأرض بغير حق، كيف دهمهم أمر الله وباؤوا بغضب من الله، فبدلوا بالنعمة نقمة، وبالأمن خوفا، وبالإطمئنان اضطرابا، وبالغنى والشبع فقرا وجوعا، قال تعالى: “فأما عاد فاستكبروا في الأرض وقالوا من أشد منا قوة، أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة، وكانوا بآياتنا يجحدون، فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون”، فاحذروا أيها الإخوة المؤمنون إن كنتم تعقلون أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم، جزاء تكذيبهم وكفرهم بنعم الله التي كانوا ينعمون بها، فلقد أنعم الله عليكم بنعم لم تكن موجودة عندهم من سعة في الأرزاق ورفاهية في الملابس والمساكن، وتفنن في المراكب وتنوع في المآكل والمشارب، وصحة في الأبدان وأمن في البلدان، والإستمتاع بما لم يكن فكان، وأعظم من هذا وذاك، أن ارتضى لي ولكم الإسلام دينا قيما ، وقال: “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون”، وأقامكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. فاشكروا الله على نعمه ولا تكفروه، واذكروه ولا تنسوه، وأطيعوه ولا تعصوه، ولا تكونوا كالذين “بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبيس القرار”، خصوصا وأنتم تعلمون أن الله عز وجل “لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن الله سميع عليم”، وإن حقيقة الشكر أيها الإخوة المؤمنون هي أن يكون العبد دائم الثناء على المحسن إليه بما أولاه من المعروف، وبما منحه من القدرة، وبما أمنه من خوف. وشكر العبد لربه يدور على ثلاثة أركان لا يكون العبد شكورا لربه إلا بمجموعها، أولا اعترافه بنعمة الله عليه في قرارة نفسه وصميم قلبه بأن كل نعمة واصلة إليه فمن ربه سبحانه وتعالى تفضلا منه وإحسانا، لا بحوله ولا بقوته، قال تعالى: “وما بكم من نعمة فمن الله”، ثانيا التحدث بهذه النعمة ظاهرا فيثني على الله بلسانه امتثالا لقوله تعالى: “وأما بنعمة ربك فحدث”، وأن لا ينسب شيئا منها لغير الله كما فعل قارون لما نصحه قومه وقالوا له: “لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين (أي المتكبرين المتجبرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين”، فكان جوابه إنكار فضل الله عليه، وأن الكنوز التي بين يديه إنما حصلت له بسبب علمه وخبرته وحذاقته واستحقاقه لها لما بذله من جهد، وقال: “إنما أوتيته على علم عندي”، فانظروا إخوتي كيف كانت نتيجة هذا الجحود والتنكر لنعم الله عليه، كانت نتيجة ذلك أسوأ مما كان يتوقعه قارون حيث خسف الله به وبداره الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه. وأما الركن الثالث من أركان شكر النعمة فهو الإستعانة بها على مرضاة الله سبحانه وتعالى فيستعملها في طاعة الله، ويوجهها إلى الخير والعمل الصالح الذي يسعد به في أخراه، قال تعالى في الحديث القدسي: “إني والجن والإنس لفي نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي”، وفي الحكم العطائية: “من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد عقلها بعقالها”، وعن أبي هريرة ض أن رسول الله ص قال: “الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر”. نسأل الله العظيم أن يعرفنا نعمه بدوامها لا بزوالها، وأن يوفقنا جميعا لشكر الله عليها، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك لذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون، لقد جاد الله علينا بأمطار الخير، وها نحن نعيش فصل الربيع، والكثير منا يستعد لإستغلال عطلة الربيع التي ستبدأ غدا بالنسبة لجهتنا، ولعل البعض منا يفضل أن يتجول بين الحقول والمزارع ليتمتع بنعمة ربو الأرض وزخرفتها بجميل ألوان الصنع الرباني، وكل هذا مشروع، بل إن المطلوب من خلق الله أن يجددوا النظر في ملكوت السماوات والأرض ويسبحون الله تعالى على تنوع نعمه، وبديع صنعه، وهو القائل: “وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج”، والقائل أيضا: “إن في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.” ولكن أيها المؤمنون، فمن شكر النعم علينا ونحن ننعم بهذه النعم أن لا نتسبب في إتلافها، وإتلاف جماليتها، بسوء تعاملنا معها، فكثيرا ما نخرج للمنتزهات، ونجد أن من سبقنا لم يكلف نفسه حتى بأن يترك مكانه نقيا لمن سيأتي بعده، ويترك أبناءه ومن معه يعيثون في الفضاءات فسادا، بل إن منهم من يعتدي على حدود الناس بأن يدخلها، ويسمح لنفسه أن يقطف ما بها من زرع أو ثمار، وهذا ليس من قبيل شكر النعم، فحاول أخي أن تنبه أبناءك وأنت تصطحبهم للإستمتاع بالطبيعة على حسن التعامل مع هذه البيئة التي هي من حق كل واحد أن يأخذ نصيبه من الإستمتاع بها، ولا تلوثها بما يشين منظرها، لتكون من الشاكرين، ولنا في الجمع المقبلة وقفات مع شكر النعم فاللهم اجعلنا لك من الشاكرين، الدعاء.