شرف المؤمن قيام الليل
الحمد لله، الحمد لله حمدا يليق بجلاله وقدرته، خلق الخلق لشكره وذكره وعبادته، القائل: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين”،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، في كل ليلة يبسط يده لعباده ليلبي طلباتهم، ويمحو عنهم سيئاتهم، ويغفر ذنوبهم، ويرزقهم من فضله العميم، قائلا: “أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر”،
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، المنزل عليه من ربه: “ومن الليل فتهجد به نافلة لك، عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا”، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين المهتدين بهديه، والمقتفين أثره، الممدوحين بقوله عز وجل: “كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون”، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين،
أما بعد
فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات. في الجمعة الماضية تناولنا الحديث عن قيام الليل، والفوائد التي تحصل للمومن المواظب على قيام الليل، وقلنا بأنه المثبت والمعين، وأنه شرف للمؤمن، وأنه عملية تجميل ربانية، وأنه حياة للقلوب، وأنه تعبير عن الشكر العملي لله، وأنه كذلك الطريق للفوز بالجنة، واليوم بإذن الله تعالى نكمل الحديث عن الوسائل المعينة على قيام الليل فنقول وبالله التوفيق، أخي المؤمن أختي المؤمنة، أيها الأح المؤمن، فإذا كان لقيام الليل كل هذا الفضل فكم من الوقت تقوم لتفوز بهذا النوال؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود مجيبا عن هذا السؤال: “من أيقظ أهله فصليا ركعتين كُتبَا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات”. وقال أيضا: “من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين”.
والمقنطرون هم الذين لهم قنطار من الأجر. وهنا يأتي دور أصحاب الهمم فلتعلم أخي المؤمن أن وقت صلاة الليل ممتد من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، ومن كل الليل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقرّ ورده في السّحر، و”أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، إذ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه” أخرجه البخاري. وفي المأثور من أحوال السلف منهم من يصلي الليل كله، ومنهم من يصلي نصفه، ومنهم ثلثه، ومنهم خمسه، ومنهم سدسه، ومنهم من يصلي ركيعات معدودات، ولله ذر القائل:
يا رجال الليل جِدُّوا *** رُبَّ داع لا يُردُ،
أيها الإخوة المؤمنون، لقد وجد سلفنا الصالح في قيام الليل ضالتهم ونشوتهم في التفرغ والتوجه إلى الله خالقهم، وإليكم بعض الأقوال التي كانوا يعبرون بها عن صفاء أرواحهم بقيام ليالهم: فعن الحسن البصري (ح)أنه قال: “لم أجد شيئاً من العبادة أشد من الصلاة في جوف الليل”، وقال أبو عثمان النهدي: “تضيّفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يقسمون الليل ثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا”، وكان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلى، ثم يقول: “اللهم إن جهنم لا تدعني أنام، فيقوم إلى مصلاه”، وكان طاوس يثب من على فراشه، ثم يتطهر ويستقبل القبلة حتى الصباح، ويقول: “طيَّر ذكر جهنم نوم العابدين”، ويقول ابن المنكدر:”ما بقي لي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة”، يقول وهب بن منبه (ح): “قيام الليل يشرف به الوضيع، ويعزُّ به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمن راحة دون الجنة”، ويقول ابن عباس (ض): “من أحب أن يهوِّن الله عليه طول الوقوف يوم القيامة فليره الله في ظلمة الله ساجداً وقائماً، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه”.
أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، قد يقول قائل: كيف أقوم وأنا لا أستطيع؟، فنجيب عنه بما وصفه أبو حامد الغزالي من أسباب ميسرة لقيام الليل ظاهرة وأخرى باطنة: فأما الأسباب الظاهرة فأربعة أمور: الأول: ألا يكثر الأكل فيكثر الشرب، فيغلبه النوم، ويثقل عليه القيام، الثاني: ألا يتعب نفسه بالنهار بما لا فائدة فيه، الثالث: ألا يترك القيلولة بالنهار فإنها تعين على القيام، الرابع: ألا يرتكب الأوزار بالنهار فيحرم القيام بالليل.
وأما الأسباب الباطنة فأربعة أمور:
الأول: سلامة القلب من الحقد على المسلمين، ومن البدع ومن فضول الدنيا.
الثاني: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل.
الثالث: أن يعرف فضل قيام الليل.
الرابع: وهو أشرف البواعث: الحب لله، وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناج ربه.
ولله ذر القائل:
امنع جفونك أن تذوق مناماً** وذر الدموع على الخدود سجاماً
واعلم بأنك ميـت ومحاسب ** يا من على سخط الجليل أقاما
لله قوم أخلصوا في حبه ** فرضى بهم واختصهم خداماً
قوم إذا جن الظلام عليهم ** باتوا هنالك سجداً وقياما
خمص البطون من التعفف ضمراً ** لا يعرفون سوى الحلال طعاماً.
جعلني الله وإياكم من الموفقين لقيام الليل والتهجد فيه، الممدوحين بقول الله العلي الكريم، “تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءا بما كانوا يعملون”، من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، تقول غولدا مايير رئيسة وزراء اليهود (1969-1974م) “نحن لا نخاف من المسلمين إلا عندما يصلون الفجر في المسجد كما يصلون الجمعة”، وتقول إحدى طوائف اليهود المتعصبة: “نحن نعلم أن نهايتنا على يد المسلمين وسوف يتكلم الحجر والشجر ويخبر المسلمين عن مكان وجودنا، ولكن ليسوا هؤلاء المسلمين في هذا الزمان، لانهم منشغلون عن صلاتهم باللهو واللعب”، إنهم يعلمون قوة ديننا وعزة ديننا ويعلمون أنه لا قوة ولا عزة لنا إلا برجوعنا إليه وأول هذه الخطوات وأقواها هي صلاة الفجر في جماعة كما نصلي الجمعة، ولا تتأتى صلاة الفجر في جماعة إلا لمن كان له ورد من قيام الليل، قيل لابن مسعود (ض): ما نستطيع قيام الليل!! قال: “أقعدتكم ذنوبكم”.
وقال رجل لأحد الصالحين: لا أستطيع قيام الليل، فصف لي في ذلك دواءً، فقال: “لا تعصه بالنهار، وهو يقيمك بين يديه في الليل”.
سئل تلميذٌ شيخه الإمامَ أبو الحسن الشاذلي (ح)عن حاله بعد وفاته حين رءاه في منامه؟ فأجابه: يا بني، طاحت تلك الإشارات وضاعت تلك العبارات، والله ما نفعنا إلا ركيعات صليناها في جوف الليل والنَّاس نيام، وما وجدنا ضياء القبور إلا في قيام الليل.
وأخيراً، أيها الأخ المؤمن، لست وحدك، فإذا وفقك الله لقيام الليل فلتعلم أن الله يحبك، وأنه ينبغي عليك أن تدرك أنك راعٍ ولا تنس أهلك فأيقظهم ليقفوا بين يدي خالقهم، تائبين منيبين، يغسلون خطيئاتهم بدموع نادمة، وقلوبٍ باكية، لعلها أن تمحو الذنوب، ففي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلّت، ثم أيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء”،
الدعاء…