زيارة الشيخ الطريقة البصيرية مولاي إسماعيل بصير لباكستان

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الكائنات، وعلى آله وصحبه أصحاب الرتب العاليات، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

أما بعد، فاستجابة لدعوة كريمة من قبل السيد الشيخ لخت حسنين، نائب شيخ الطريقة المحمدية الجشتية بباكستان، السيد الشيخ محمد أمين الحسنات شاه، نجل العلامة المجدد محمد كرم شاه الأزهري، وعميد كلية دار العلوم المحمدية الغوثية بهيرة باكستان، ورئيس جمعية مسلم هند، توجه السيد مولاي اسماعيل بصير حفظه الله، خادم الطريقة البصيرية بزاوية جده الشيخ سيدي ابراهيم البصير، إلى دولة باكستان الشقيقة رفقة أحد المريدين لحضور فعاليات إحياء ذكرى وفاة شيخها ومؤسسها الشيخ محمد كرم شاه الأزهري رحمه الله (ت1418-1998م)، وذلك خلال الفترة الممتدة من 28 أكتوبر 2015م إلى 06 نونبر 2015م.
وقد جاءت هذه الدعوة النبيلة ثمرة للتواصل الذي ما فتئت الطريقة البصيرية تحرص على بناء دعائمه على أسس المحبة والتعارف والتآخي والتواد بينها وبين مختلف الطرق الصوفية في دول العالم، حيث تجمعها بالطريقة الجشتية أقوى الصلات والعلاقات والروابط.
استهل برنامج هذه الزيارة بالاستقبال الخاص والكبير الذي خص به شيخ الطريقة الجشتية الشيخ مولاي إسماعيل بصير بالعاصمة إسلام أباد، حيث أجريا لقاءات مطولة  حول القضايا المشتركة بين الطريقتين والمؤسستين التربويتين التي يشرفان عليهما، وناقشت هذه الاجتماعات بشكل خاص قضايا التربية الروحية، ونشر العلم الشرعي والعلوم الإنسانية والمعرفة الإسلامية الأصيلة المعتدلة، التي ترنو إلى تخريج صفوة من المريدين والعلماء المستنيرين بهدي التربية النبوية في عمقها الرسالي التاريخي، واستشرافها لتحديات الواقع المعاصر في |إكراهاته المتعددة والمتغيرة.
وقد تبين من خلال هذه اللقاءات التواصلية مدى التطابق بين المدرستين الجشتية الباكستانية، والبصيرية المغربية، في الوعي بضرورة التجديد في المناهج والطرق والبرامج والوسائل المتبعة حاليا، للنهوض بدور الزوايا ومدارسها ومعاهدها العلمية العتيقة، وذلك لمسايرة ظروف العصر، دون التفريط في القديم، وعدم نسيان الاستفادة من الحديث.
وتوج هذا اللقاء بالحضور الوازن لشيخ الطريقة البصيرية لاحتفالات الطريقة الجشتية بذكرى رحيل الشيخ العالم المجدد محمد كرم شاه الأزهري، حيث خص باستقبال جماهيري وشعبي حاشد ناهز سبعة آلاف مشارك من مريدي وفقراء ومحبي الطريقة الجشتية، الذين حجوا إلى هذا الاحتفال من داخل باكستان وخارجها.
وقد تكلم الشيخ مولاي إسماعيل بصير في كلمته بهذه المناسبة على العلاقات التاريخية العريقة التي تجمع بين المغرب وباكستان عبر العصور، وحرص على تذكير الحاضرين بالقواعد وبالقيم التي وقف الشيخ العلامة محمد كرم شاه رحمه الله حياته، على التأسيس لها والعمل الدؤوب على ترسيخها في نفوس وقلوب المريدين والمحبين.
وتتمثل هذه القيم في عدة رسائل، وهي: رسالة الحب والإخلاص، ورسالة الأمل والعمل، ورسالة النور والضياء، ورسالة النبل والبناء، ورسالة العفو والتسامح، ورسالة التوكل على الله تعالى، ورسالة التصوف السني المنير المؤسس على العلم الشرعي الرصين والمعرفة، والحب والإيمان، ورسالة بناء القلوب قبل الأبدان، وتزكية النفوس قبل الأجسام.
وقال حفظه الله في كلمته: ” إن الواقع المعيش لحياة المسلمين اليوم، يضل بحاجة ماسة لمثل هذه القيم التي ضحى من أجلها علماؤنا الأجلاء من العارفين بالله، أمثال هذا الشيخ الرباني المؤسس لهذه الصروح العلمية والعرفانية بهذه الأرض الطيبة المباركة، وما أحوج شيوخ التربية الصوفية لمثل هذه الهمم العالية التي جمعت في سلوكها بين العلم والعمل، والبساطة والانفتاح، بدل العجرفة والتكبر، واستقبال المريدين ببروتوكول الحجابة والمواعيد، و أكل أموال الناس بالباطل”.
إن التصوف حسب خادم الطريقة البصيرية في كلمته هاته هو:” علم وصفاء، ونور وضياء، وعمل ولا ارتخاء، وبذل وعطاء، وجهد متواصل، وآخره واعبد ربك حتى يأتيك اليقين” .
وأكد في كلمته أن الطريقة البصيرية والجشتية تجمعهما عدة قواسم مشتركة، حيث تؤكدان معا على  أن التصوف ليس ألقابا يتباهى ويعتز بها المريد والشيخ، أو مجرد ولاء قلبي ورابطة روحية فحسب، بل إن التربية الصوفية هي منهج معتدل متوازن في الدعوة إلى الله بالحال قبل المقال، متميز المعالم واضح القسمات، متمسك بالثوابت، ولا يغفل عن المتغيرات الزمانية والمكانية التي فرضتها تطورات العصر، إذ الصوفي ابن وقته، كل ذلك دون تعصب مقيت، ولا انكفاء على الذات معيب، إن المدرسة البصيرية والجشتية وغيرها من الطرق الصوفية السنية تهدف إلى تخريج طالب ومريد وسطي واسع الأفق، صاحب سلوك سني محمدي، معتدل النظرة متمسك بثوابته الدينية والوطنية، وهذا ما يلمسه كل من حاول الاقتراب من التجربتين واكتشافهما.
كما أشاد مولاي إسماعيل بصير بجهود الشيخ المجدد محمد كرم شاه في ترسيخ هذه الرؤية العلمية، من خلال مدارسه العديدة المنتشرة داخل باكستان وخارجها، حيث حاول الجمع بين القديم والحديث في حكمة واتزان، وسماحة واعتدال، فسبق عصره وأدى دوره، وهو ما تحاوله الطريقة البصيرية اليوم من خلال إعادة هيكلة مدرستها العلمية العتيقة وتجديدها، ومد جسور التعاون مع مختلف الكفايات العلمية، على اختلاف توجهاتها واختصاصاتها، طلبا للحكمة التي هي ضالة المؤمن وأحق الناس بها، فما أروع أن يشتغل أهل التصوف بالتربية والتعليم والبحث العلمي، إذ هما نوافذ المستقبل للأمة الإسلامية.
ووقف كذلك على ترجمة هذا التصور لدى الطريقة الجشتية، من خلال الرحلات العلمية، والزيارات الميدانية التي قام بها شيخها في مختلف مدن وقوى ومداشر باكستان، بدءا من العاصمة إسلام آباد، إلى العاصمة الروحية والعلمية لاهور ومنطقة بهيرة وغيرها من المناطق.
وخلال هذه الزيارة، قام خادم الطريقة البصيرية والوفد المرافق له بزيارة ميدانية لمختلف المدارس التي تشرف عليها الطريقة الجشتية، فاطلعوا على المناهج الدراسية، والطرق البيداغوجية، والوسائل الديداكتيكية التي تطبق في هذه المؤسسات التابعة لها، والتي تتميز بأصالتها، ومناهجها العلمية والدراسية الحديثة المتقدمة، وفلسفتها التعليمية المتطورة، التي تراعي الجمع بين الدين والدنيا، وتحرص على تخريج أطر مستنيرة تحب دينها وتفهمه، وتحب الناس وتخدمهم.
هذه الأطر لا تعرف التعصب ولا التطرف، ولا التشدد الذي لا أصل له، تقدم الإسلام بصورته الناصعة الصحيحة ، الصورة التي يستشفها كل عاقل من كلمة الإسلام، و يراها مجسدة في أفعال وتصرفات الجيل الذي تربى على أيدي الشيوخ المخلصين في دعوتهم إلى الله، والذي كان من ثمراته اليانعة تأسيس دار العلوم المحمدية الغوثية بكل فروعها داخل باكستان و خارجها، حيث لفت نظر الشيخ مولاي إسماعيل بصير من خلال هذه الزيارة لهذا الصرح  العلمي وفروعه، مدى العناية الفائقة بالعنصر البشري، تربية ونظافة، وجمالا ورعاية، وخلقا وتنشئة، دون تمييز في التعليم والتربية والتدريس والقيادة بين ذكر وأنثى في صورة نسقية من الجمال والجلال والحفاظ على البيئة والطبيعة، ووحدة التصور و الهندام، مما انعكس ايجابيا على الزائرين الذين تمنوا صادقين أن يستنسخوا هذا النموذج التعليمي الإسلامي الصوفي الرائد في مدارسهم وزواياهم، خاصة في شقه التربوي والتعليمي المتوازن، الجامع بين الأصالة والمعاصرة، وشقه الاجتماعي في الاهتمام والاحتضان لأبناء الفئات الفقيرة الهشة وإدماجها في المجتمع، وشقه التنظيمي الذي يبهر العقول بدقة التنظيم، وقوة الحركة، والفاعلية في التنفيذ، والاستجابة الفطرية لداعي الخير والتطوع والتضحية في سبيل إنجاح هذا المشروع العلمي والتربوي الصوفي.
إلا أن الملاحظ على هذه التجربة المتميزة حسب مولاي اسماعيل، هو القصور في تعلم اللغة العربية، والحرص الشديد على إيلاء الوقت الكافي في الزمن المدرسي لهذه المدارس، للقران الكريم من حيث حفظه وفهمه  وتدبره، وهذا هو المسلك الذي تركز عليه المدرسة المغربية الصوفية العتيقة، ومن شأن ذلك أن يفتح آفاق التعاون المستقبلي بين المدرستين في تكامل تام بين المنهجين، وهذا تماما ما تم عقد العزم على التعاون عليه، حيث أكدت الطريقة البصيرية والجشتية تعميق روح التعاون والتبادل الايجابي بينهما مستقبلا.
وفي ختام زيارته هاته، جدد شيخ الطريقة الجشتية إعجابه وتقديره للقيادة السياسية والروحية  الحكيمة لأمير المؤمنين، صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، وأثنى الثناء الجميل على عنايته الشريفة لأهل الله من رجال التصوف وأوليائه، واحتضانه للعلماء في الدروس الحسنية، وحضوره الشخصي للاحتفال  بالمولد النبوي الشريف ، وغير ذلك من الأمور التي اشتهر بها أمراء المؤمنين ببلاد المغرب، حيث كان في كل مرة يتكلم على جانب من هذه الجوانب.
وختمت هذه الزيارة بتكريم خاص لخادم الطريقة البصيرية، حيث قدم الشيخ محمد أمين الحسنات شاه، درعا تذكاريا للشيخ مولاي إسماعيل بصير، يؤرخ ويخلد لهذه الزيارة الروحية المتميزة، والحمد لله رب العالمين.

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *