ذكرى تحويل القبلة في النصف من شعبان

ذكرى تحويل القبلة في النصف من شعبان

الأستاذ مولاي يوسف بصير

الحمد لله، الحمد لله الذي أكرم نبينا بالمعجزات، وأيده بالبراهين الساطعات، وجعل قبلته الأولى المسجد الأقصى المحفوف بالبركات، وأمره بعد حين بالتوجه نحو المسجد الحرام في كل الصلوات، نحمده تعالى ونشكره على ما أسبغ علينا من خيرات، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو رب المشرق والمغرب خالق الأرض والسماوات، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، الخاتِم للرسل والرسالات، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وأصحابه المصدقين بما جاء به من المعجزات، وسلم تسليما كثيرا،

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، يقول  الله تعالى: “سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تعْمَلُونَ”،

أيها الإخوة المؤمنون، بعد معجزة الإسراء والمعراج التي توجت بفرضية الصلاة على الأمة المحمدية، كان النبي ﷺ يتوجه في صلاته نحو القبلة الأولى للأنبياء والرسل قبله، وإلى القبلة التي صلى إليها إماما بجميع الأنبياء والمرسلين ببت المقدس ليلة الإسراء والمعراج، امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى، الذي أمر باستقبالها، وفي فؤاده ﷺ أمنية كبيرة تتمثّل في التوجّه إلى الكعبة قبلة أبيه إبراهيم، وأوّل بيتٍ وضع للناس في الأرض، ولحرصه على أن تتميّز الأمة الإسلامية في عبادتها عن غيرها من الأمم التي حرّفت وبدّلت، وما كان لرسول الله ﷺ أن يخالف أمر ربّه، بيد أنه استطاع الجمع بين رغبته في التوجّه إلى الكعبة وعدم مخالفة الأمر بالتوجّه إلى المسجد الاقصى بأن يصلّي أمام الكعبة ولكن متّجها إلى الشمال، كما يدلّ عليه الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن سيدنا عبد الله ابن عباس (ض) حيث قال: “كان رسول الله ﷺ يصلي وهو بمكة نحو المسجد الاقصى والكعبة بين يديه”. ثم أذن الله بالهجرة، ووصل المسلمون إلى المدينة، وبُنيت المساجد، وشرع الأذان، والنبي ﷺ لم ينس حبّه للكعبة، ويحزنه أن لا يستطيع استقبال القبلتين جميعاً كما كان يفعل في مكّة، ويصف القرآن الكريم حال النبي ﷺ بقوله: “قد نرى تقلب وجهك في السماء”، وفي منتصف شعبان، وبعد مرور ستة عشر شهراً من استقبال المسجد الاقصى، نزل جبريل عليه السلام بالوحي إلى النبي ﷺ ليزفّ البشرى بالتوجّه إلى الكعبة، قال تعالى: “فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره”، روى البخاري عَنِ سيدنا البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ (ض): “أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ المَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ، أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ مِنَ الأَنْصَار، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلَّاهَا صَلاَةَ العَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ مَكَّة، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وَكَانَتِ اليَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ، قبلة أَهْلِ الكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ البَيْتِ، أَنْكَرُوا ذَلِكَ”، وروى مسلم عَنْ سيدنا أَنَسٍ(ض): “أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ»، فَنَزَلَتْ: “قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ”، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً ، فَنَادَى : أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلة”، روى الإمام مسلم عَن سيدنا عبد الله ابْنِ عُمَرَ(ض) قَالَ: “بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَة قال الحافظ ابن حجر (ح): “وَوَقَعَ بَيَانُ كَيْفِيَّة التَّحَوُّل فِي حَدِيث ثُوَيْلَة بِنْت أَسْلَمَ (ض) عِنْد اِبْن أَبِي حَاتِم، وَفِيهِ قالت: “فَتَحَوَّلَ النِّسَاء مَكَان الرِّجَال وَالرِّجَال مكَان النِّسَاء، فَصَلَّيْنَا السَّجْدَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ إِلَى الْبَيْت الْحَرَام”، فاتقوا الله عباد الله، وكونوا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. نفعني الله وإياكم بكتابه المبين، وبسنة نبيه المصطفى الأمين، وغفر لي ولكم وللمسلمين أجمعين، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 

الخطبة الثانية

أيها المؤمنون، لانحتفل بذكرى تحويل القبلة من أجل سرد الأحداث التاريخية في ديننا الإسلامي، وإنما نريد من خلالها الوقوف على ما يستخلص من العبر وهي كثيرة يأتي في مقدمتها، نسخ الأحكام الشرعية التي لم يكن معهوداّ عند المسلمين من قبل ، كما قال ابن عباس: “… فأول ما نسخ من القرآن القبلة” ، لذلك كرّر الله الأمر بها تأكيداً وتقريراً ثلاث مرّات: الأولى في قوله تعالى: “فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره”، والثانية في قوله تعالى: “ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون”، والثالثة في قوله تعالى: “ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم”، أيها الإخوة المؤمنون، لقد تباينت ردود أفعال الناس تجاه هذا الحادث غير المألوف، فأما المؤمنون فلم يترددوا لحظة عن التحوّل طاعةً لله ورسوله ، فامتدحهم الله، وبيّن لهم أن هذه الحادثة إنما كانت اختبارا للناس وامتحاناً لهم كما قال تعالى: “وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله”، وأظهر بعض المسلمين القلق على من لم يكتب الله له شرف الصلاة إلى الكعبة ممن مات قبلهم، وخافوا من ضياع صلواتهم، وقالوا : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟، فأنزل الله “وما كان الله ليضيع إيمانكم”، وأما اليهود فقد عابوا على المسلمين رجوعهم عن المسجد الاقصى إلى الكعبة، وقابلوا ذلك بالسخرية والاستهجان، واستغلّوا ذلك الحدث بدهاءٍ ليمرّروا من خلاله الشكوك والتساؤلات طعناً في الشريعة وتعميةً لحقائقها، وقد حذّر الله سبحانه وتعالى المسلمين وأخبرهم بموقف اليهود قبل وقوعه فقال: “سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم”. وهكذا تحقّق للمسلمين فضل التوجّه إلى القبلتين جميعا، واستطاعوا أن يجتازوا هذا الامتحان الإلهي، وبذلك نالوا شهادة الله: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا”، وكان ذلك التحوّل إيذاناً بنهاية الشرك وسقوط رايته، وأصبحت الكعبة قبلةً للمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الدعاء

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *