ذكرى المسيرة الخضراء
ذكرى المسيرة الخضراء
الأستاذ مولاي يوسف المختار بصير
الحمد لله، الحمد لله الذي نسب العزة بعده لرسوله وللمؤمنين، وجعل التضحية سمة من سمات الأتقياء الصابرين، إذ قال وهو أصدق القائلين: “ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين”، نحمده تعالى ونشكره على فضله العظيم، وخيره العميم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله كان للمتقين إماما وللعاملين بإخلاص قدوة وزعيما هماما، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وصبروا في كل أحوالهم ابتغاء مرضاته، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم اللقاء به، أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، لقد تبث في التاريخ القديم والحديث أن لكل أمة ذكريات وأحداثا تمجدها وتقدسها، وتتذكر بسببها في كل سنة تمر بها، وتتجدد في حياتها، أيام وقائعها المجيدة، وحوادثها ذات الآثار الخالدة، وانتصاراتها التي كان لها الأثر الفعال في تحويل مجرى حياتها، من استعمار واستغلال إلى حرية واستقلال، ومن ضعف وانحلال، إلى قوة وتماسك فعال، ومن ظلمات الجهل والهوان إلى نور العلم والعرفان، ومن تأخر في مناحي الدنيا والدين، إلى تقدم وازدهار في مختلف الميادين، والأصل في إحياء الذكريات والاحتفال بها أيها الإخوة المؤمنون هو أن تكون مصدرا للعظة والعبرة، ونبراسا للإقتداء والإهتداء، وتنويرا للعقول والأفهام، وبعثا للهمم وازديادا في الحركة والنشاط والإقدام، والذكريات سبب من أسباب ربط الأمم بماضيها، وتذكيرها بأمجادها حتى لا تضل الطريق ولا ترجع إلى الوراء، ففي ذلك عزتها وقوتها وسعادتها ورفاهيتها، قال الله تعالى: “وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين”، والمغرب أيها الإخوة المؤمنون كأمة عريقة في التاريخ، متأصلة في الحضارة والمجد، له أيضا أحداثه التاريخية الكبرى التي تزهو بها صفحات أمجاده وتكشف عن بطولات أبنائه منذ أن نور الله بالإسلام ربوع بلاده، لذلك لا يستغرب أحد أن يضاف حدث المسيرة الخضراء إلى ما سبق من أحداث وبطولات كان لها في التاريخ ذكر وإشعاع، وعلى النفوس تأثير وإيقاع، فالمسيرة الخضراء المظفرة التي تعاودنا يوم الأربعاء المقبل بإذن الله ذكراها الغراء هي مسيرة شعب آمن بحقه، فخطط ورسم الوسائل وحدد الأهداف دون عشوائية أو انحراف، للمطالبة به، خطط لها عقل راشد ورائد محنك قائد هذبته التجارب وعلمته الأيام أنه ماضاع حق وراءه مطالب، يتسم بحصافة الرأي وقوة الإيمان، إنه جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، ذلكم الملك الذي كانت تربط بينه وبين شعبه الوفي روابط الإيمان، وأواصر المحبة والبيعة والإحسان، هذه المسيرة التي تختلف عن المسيرات التي شهدها التاريخ القديم والحديث، لأنها لم تكن تهدف إلى غزو ولا إلى نشر مذهب، بل كانت تهدف إلى عودة أرض لأهلها واستكمال وحدة ترابنا الوطني، بعد انقسام وانفصال فرضه الإستعمار، فكانت بمثابة وسيلة سلمية اختارتها تلكم القيادة الحكيمة، وتبنتها الجماهير الشعبية المغربية الأبية الواعية، لتمحو بها تلكم الحدود الوهمية الا شرعية، التي خططها الإستعمار بين أجزاء مغرب ما قبل الحماية الفرنسية والإسبانية، ليفرق بها وحدة المغاربة، ويفصل الجزء الصحراوي من بلدنا عن الجزء الشمالي من مملكتنا المغربية المستقلة، حيث أبقى على الإستعمار الإسباني في صحرائنا، والمغرب يطالب باستكمال وحدته الترابية بالوسائل الشرعية والديبلوماسية إلى غاية سنة 1975، فكان قرار تنظيم المسيرة التاريخية السلمية الخضراء المظفرة، التي انخرطت فيها تلكم الجماهير المتشبعة بروح الوطنية الصادقة، والتي كان سلاحها القرآن وحافزها الإيمان، وغايتها إزالة الحواجز الفاصلة بين الأهل والأقارب والإخوان، مؤمنة بحقها واثقة من نصر ربها الذي يقول: “ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور”، ولمن لم يشهد هذه الملحمة التاريخية من أجيالنا اليوم، أبناؤنا وبناتنا وأطفالنا نقول بمناسبة احتفالنا بذكراها الرابعة والأربعين، نقول لهم ونذكر أنفسنا معهم بأن المسيرة الخضراء حدث تاريخي يسجل في تاريخ المغرب الحديث، ارتبط بتحرير الصحراء المغربية الجنوبية، له مقوماته التاريخية والقانونية ووسائله السلمية المدروسة، بشكل أدهش العالم المتقدم من أجل انتزاع حق مغصوب، واسترجاع جزء من الوطن مقتطع مسلوب، فهي تستمد مقوماتها من الظروف التاريخية القديمة التي لا تخفى على من يهتم بالجوانب التاريخية للأمة المغربية، تلك الظروف التي تتمثل في وحدة العرف واللغة والعادات والتقاليد، والإشتراك في سوق اقتصادية واحدة تتركز على شبكة من طرق المواصلات محددة المعالم ترتبط بين أجزاء المغرب الشمالي والجنوب الصحراوي، وإلى جانب هذه الروابط التاريخية الأصيلة، توجد الروابط القانونية التي لا يتطرق إليها الشك ولا ينازع فيها إلا عدو لذوذ أو حسود حقود ويشهد على ذلك الإرتباط المتين بين الجزئين الشمالي والجنوبي، روابط البيعة الشرعية التي كان يبعث بها سكان المنطقة الصحراوية إلى السلاطين المغاربة بفاس، وممارسة الدولة لسلطتها على هذه المنطقة في حدود العرف الدستوري المغربي، وعلى هذه الأسس التاريخية والقانونية والروابط الأخوية القوية انطلقت المسيرة الخضراء المباركة لإسترجاع صحرائنا المغتصبة في 6 نونبر 1975 بعد إعداد سري استغرق شهورا وأياما، وبمجرد الإعلان عن قرار تنظيم المسيرة الخضراء هبت الأمة المغربية عن بكرة أبيها للتطوع في هذه الملحمة الخالدة الكبرى، والتف الشعب كله حول قائده ورائد نهضته، فانتظم في صفوف الجهاد بحماس منقطع النظير، أبان فيه الشعب مرة أخرى عن تجاوبه مع العرش العلوي المجيد في كل الخطوات الرائدة والقرارات الحاسمة، والمبادرات الناجحة الموفقة التي يعلن عنها من قلده الله زمام أمر الأمة المغربية آنذاك المشمول بعفو الله، الملك الحسن الثاني رحمه الله، فلمس العالم كله من خلال هذا التجاوب بين القمة والقاعدة أن العزم الصحيح والقوي لجميع المغاربة على تحرير صحرائهم من رقبة الإستعمار والإحتلال الأجنبي لن تقف في طريقه قوة، ولن يحول بينه وبين هدفه حائل، وتأكد العالم أجمع أن استكمال الوحدة الترابية هدف كل المغاربة لا يعلو عليه هدف آخر، وكلل الله المساعي بالنجاح، ووهب الله للمؤمنين النصر والفلاح، “وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين”. جعلني الله وإياكم من التائبين العابدين الشاكرين لنعم الله في كل وقت وحين، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون، إن كان الحسن الثاني رحمه الله قد أبدع المسيرة الخضراء لجمع شمل الأمة المغربية، فوارث سره جلالة الملك محمد السادس منذ أن اعتلى عرش أسلافه المنعمين يواصل هذه المسيرة نحو بناء مغرب متكامل اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، فقد فتح مسيرات عظيمة لإستكمال بناء مغربنا وتبوئه المكانة اللائقة به بين الأمم، ولجمع شمل المغاربة، وقد أعلن جلالته في خطاباته الأخير في المناسبات الوطنية وأمام برلماني الأمة أن الأمة مسؤولة عن التنمية، وأن على المغاربة جميعا أخذ المبادرات الحميدة الهادفة لما فيه مصلحة أمتنا المغربية والإسلامية والإفريقية، كل حسب موقعه وحسب إمكانياته، وفتح أوراشا عظيمة لبناء شبابنا، وتكوينهم ليكونوا أهلا لخلافة أسلافهم، الذين شهد لهم تاريخ مملكتنا المغربية بالإقدام والتفاني ونكران الذات في سبيل استقلال الوطن، وتحريره من التبعية الإستعمارية في كل الميادين، فها هو جلالة الملك محمد السادس، بجهاده العملي يفتح أوراش النماء الفكري والاقتصادي، والنهوض بأوضاع الشباب، وتشجيعه للمبادرات الخلاقة للتنمية البشرية، مواصلا بها مسيرة الأمة المغربية، ولنجعل من حدث المسيرة الخضراء المظفرة فرصة لتذكير أبنائنا وبناتنا بتاريخ أمتنا، وأن من الواجب علينا الحرص على أمن بلادنا وتجنيبها المخاطر التي يسعى أعداء أمننا ونهضتنا إلى التغرير بهم بمختلف الوسائل لينزعوا من قلوبهم حبهم لوطنهم، أعداء فلنخرط إخوتي في تنمية بلادنا ولنحرص على المحافظة على أمنه وخيراته ورعاياه، وأنتم تعلمون أن “أحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله”. الدعاء
خطبة الجمعة من مسجد الحسنى عين الشق، الجمعة 3 ربيع الأول 1441 موافق 1 نونبر 2019