خلق الرحمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

خلق الرحمة عند رسول  الله صلى الله عليه وسلم

الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم .. الذي وسعت رحمته كل شيئ فقال تعالي (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ……… (157) الأعراف وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كلي شيئ قدير .. أرسل نبيه رحمة للعالمين فهداهم من ضلالة وعلمهم من جهالة وأخرجهم من ظلمات الجهل إلي نور العلم والإيمان فقال تعالي (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) الأنبياء . وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلى  الله عليه وسلم شملت رحمته البر والفاجر والقريب والبعيد والعدو والصديق فكان رحمة مهداه من الله عز وجل فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ ” . المستدرك علي الصحيحين فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين ..

أما بعــــــــد :

 أحبتي في الله   ما زلنا في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام لأن  الحديث عنه صلى الله عليه وسلم له حلاوة تتذوقها القلوب المؤمنة،وتهفو إليها الأرواح الطاهرة، وهو فى ذاته قربة كبرى يتقرب بها إلى الله كل مريد رضوانه وثوبته جل وعلا. ورحاب النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ واسعة ، فهو بستان العارفين  ومتنزه المحبين ، يحنون إلى سيرته وشمائله وأخلاقه ، فيقطفون منها على قدر جهادهم فى حب الله وحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم .

إن مِثلي ومثلك يا رسول الله كمثل أعرابي ضل الطريق في الصحراء،فلما طلع عليه القمر اهتدى بنوره، فقال: ماذا أقول لك أيها القمر؟ أأقول رفعك الله؟ لقد رفعك الله. أأقول لك نوَّرك الله؟ لقد نورك الله. أأقول جملك الله؟ لقد جملك الله. وأنا ماذا أقول لك يا سيدي يا رسول الله؟ أأقول رفعك الله؟ لقد رفعك (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك) أأقول نورك الله؟ لقد نورك ( قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) أأقول جملك الله؟ لقد جملك ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ) صدق الله العظيم ،

لو يعلم الذين آذوا النبي صلي الله عليه وسلم بالكلماتِ أو الأفعال كيف كانت رحمته بهم، وكيف كانت شفقته عليهم لذابت قلوبُهم محبةً له ورغبةً في اتباعه صلي الله عليه وسلم.

إنها الرحمة التي تفيض حتى تكاد تقتل صاحبَها أسًى لما يرى من انصراف الخلق عن طريق الجنة إلى طريق النار، حتى يصف القرآن حال النبي صلي الله عليه وسلم في قوله تعالى: “فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)” (الشعراء)، وفي رحمته صلى  الله عليه وسلم بالمؤمنين يقول تعالى:”فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ” (آل عمران: من الآية 59).. وقال تعالى: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)” (التوبة)

أحبتي في الله ، سأقف وإياكم  في هذه الخطبة المباركة  عند  خلق عظيم  من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم  ألا وهو خلق الرحمة .  والتي تجلت لنا حتى شملت القاصي والداني ،والقريب والبعيد ،والصديق والعدو، والبر والفاجر .. ومن مظاهر رحمة النبي صلي الله عليه وسلم :

1-رحمته بالعامة : فقد روي ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم  أنه قال: (لن تؤمنوا حتى تراحموا)، قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم، قال: (إنه ليس برحمة أحدِكم صاحبه، ولكنها رحمة العامَّة) ؛ رواه الطبراني ورجاله ثقات.

الكل يرحم بعضهم بعضا، الرئيس يرحم المرؤوسين ، والأب يرحم الإبن ، والزوج يرحم الزوجة ، والغني يرحم الفقير، والقوي يرحم الضعيف ، والجار يرحم جاره ، الكل يتراحم فيما بينهم حتى يصدق فينا قول النبي صلي الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان ابن بشير رضي الله عنهما :عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى ).

2ـ رحمة النبي صلي الله عليه وسلم بالضعفاء :فقد اهتمَّ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) بالضعفاءِ الذين لا مالَ لهم ولا عشيرةَ، فكان يقبلُ من محسنِهم ويتجاوزُ عن مسيئِهم، ويسعى في حوائِجهم، ويرفعُ عنهم الضرَّ والأذى ومن اهتمامِ النبيِّ صلي الله عليه وسلم بشأنِ الضعفاءِ أنَّ امرأةً سوداءَ كانتْ تقُمُّ المسجدَ، ففقدها رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فسألَ عنها، فقالوا: ماتتْ. فقالَ (صلى الله عليه وسلم): (أفلا كنتم آذنتموني)، فكأنهم صغَّروا أمرَها. فقال النبيُّ (صلى الله عليه وسلم): (دلوني على قبرِها» فدلّوه فصلَّى عليها) رواه البخاري ومسلم.

3 ـ رحمة النبي صلي الله عليه وسلم بالعصاة والمذنبين :ــ وأحوج الناس إلى الرحمة هم العصاة والمذنبون، ولكنهم يحتاجون إلى رحمة التوجيه والهداية لطاعة الله، فإن الإسلام رحمة، والهداية والالتزام رحمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا رحمة مهداة). الرحمة أفضل ما تكون بالدلالة على الخير، فكم من أناس هدوا إلى سواء السبيل، ودلوا إلى المَعلَم والدليل فأصابوا رحمة الله العظيم الجليل.

 4ـ رحمة النبي صلي الله عليه وسلم بالحيوان: لقد أخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن الجنة فتحت أبوابها لامرأة بغي من بغايا بني إسرائيل لمجرد أنها سقت كلبا عطشانا أخرج مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطوف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها أي استقت له بخفها فغفر لها ” فقد غفر الله لهذه البغي ذنوبها بسبب ما فعلته من سقي هذا الكلب.

وأخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن النار فتحت أبوابها لامرأة حبست هرة لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم على “عذبت امرأة في هرة لم تطعمها ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض” ( أخرجه البخاري ومسلم)

لقد رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحيوان الأعجم من أن يُجوَّع أو يُحمَّل فوق طاقته.. فقال في رحمة بالغة حين مَرَّ على بعير قد لحقه الهزال: “اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ ‏فَارْكَبُوها صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً” [ رواه  أبو داود وابن خزيمة وقال الشيخ الألباني: صحيح].

بل هو يرحم الحيوان حتى في حالة ذبحه، فإن كان لابد أن يُذبَح فلتكن عملية الذبح هذه رحيمة، فيقول: “إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ”[أخرجه مسلم وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، وأحمد، والدارمي ، وابن حبان ].

إنّ دعوة الإسلام للرفق والرحمة بالحيوان هي من باب أولى دعوة لاحترام الإنسان والرحمة به، فإذا كان الإسلام رحيمًا بالكائن الذي لا ينطق ولا يعقل ولا يمتلك أحاسيس الإنسان ومشاعره ولا كرامته وموقعه، فما بالك بأكرم الخلق وأفضل الكائنات. وكل ذلك يؤكد عظمة هذا الدين وأنه دين يعني بكل الجوانب الإنسانية لأن في ذلك سعادة الإنسان وأمنه.

5 ـ لقد شملت رحمة الإسلام القريب والبعيد والمسلم وغير المسلم فالبر والقسط مطلوبان من المسلم للناس جميعًا، ولو كانوا كفارًا بدينه، ما لم يقفوا في وجهه ويحاربوا دعاته، ويضطهدوا أهله. بل نهي عن قتل النساء والشيوخ والأطفال ومن لا مشاركة له في القتال . والمتأمل لحروب رسول الله مع أعدائه سواء من المشركين، أو اليهود، أو النصارى، ليجِد حُسن خُلق رسول الله مع كل هؤلاء الذين أذاقوه ويلات الظلم والحيف والبطش، إلاّ أنه كان يعاملهم بعكس معاملاتهم له.

فإذا تأمّلْنا وصية رسول الله لأصحابه المجاهدين الذين خرجوا لرد العدوان نجد في جنباتها كمال الأخلاق ونُبل المقصد، فها هو ذا رسولُ الله يوصي عبد الرحمن بن عوف عندما أرسله  إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل؛ قائلاً: “اغْزُوا جمِيعًا فِي سبِيلِ اللهِ، فقاتِلُوا منْ كفر بِاللهِ، لا تغُلُّوا، ولا تغْدِرُوا، ‏ولا‏ ‏تُمثِّلُوا، ‏ولا تقْتُلُوا ولِيدًا، فهذا عهْدُ اللهِ وسِيرةُ نبِيِّهِ فِيكُمْ”( رواه الحاكم

وكذلك كانت وصية رسول الله للجيش المتّجه إلى معركة مؤتة؛ فقد أوصاهم قائلاً: “‏اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سبِيلِ اللّهِ، قاتِلُوا منْ كفر بِاللهِ، اغْزُوا ولا ‏تغُلُّوا، ‏ولا ‏تغْدِرُوا، ‏‏ولا ‏تمْثُلُوا، ‏ولا تقْتُلُوا ولِيدًا، أوِ امْرأةً، ولا كبِيرًا فانِيًا، ولا مُنْعزِلاً بِصوْمعةٍ”. (أخرجه الإمامُ مسلم في صحيحه، وأبو داود ، والترمذي، والبيهقي ).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما ( أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة . فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان ) رواه البخاري ومسلم .

و كان النبي صلي الله عليه وسلم حريصا على عودة الضعفاء  ( أي زيارتهم)  فعن أنس بن مالك رضي الله عنه : كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده ، فقعد عند رأسه ، فقال له : أسلم . فنظر إلى أبيه وهو عنده ، فقال له : أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، فأسلم ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذي أنقذه من النار ) رواه البخاري .

وكان إذا ذبح شاةً وأمر بتوزيع جزءٍ منها على الجيران لا ينسى أن يوصي: “هل أهديتم إلى جارنا اليهودي؟” وتروي كتب السير أنه صلي الله عليه وسلم بكى لما رأى جنازةَ مشرك، ولما سئل عن سبب بكائه صلى الله عليه وسلم قال: “نفس تفلَّتت مني إلى النار”.

 وتبلغ رحمته صلي الله عليه وسلم بأعدائه القمةَ السامقة عندما يتعرَّض لإيذائهم، ففي هذه المَواطن التي يفقد فيها الرحماء رحمتَهم، عندما تعرَّض للسباب والضرب من أهل الطائف، ونزل ملك الجبال في صحبة جبريل صلي الله عليه وسلم يعرض على النبي- صلي الله عليه وسلم أن يطبق عليهم الأخشبين، يقول النبي صلي الله عليه وسلم قولته المشهورة:”اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون”، وفي هذا القول جمع النبي صلي الله عليه وسلم مقاماتِ الإحسان كلها، فقد عفا عنهم، والتمس لهم العذرَ بجهلهم، ثم دعا لهم .

ولم يكن هذا موقفًا فريدًا للنبي صلي الله عليه وسلم بل كان هذا خلُقه مع من خالفه وحاربه، كما في قوله صلي الله عليه وسلم “اللهم اهدِ دوسًا، اللهم اهدِ ثقيفًا، اللهم اهدِ أمَّ أبي هريرة”. ثم تجلَّت رحمته صلي الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وقد فعل أهلُها به وبأصحابِه ما فعلوا.. قال عمر: لما كان يوم الفتح ورسول الله بمكة أرسل إلى صفوان بن أمية، وإلى أبي سفيان بن حرب، وإلى الحارث بن هشام، قال، عمر: فقلت لقد أمكن الله منهم، لأعرفنهم بما صنعوا، حتى قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: “مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريبَ عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين،قال عمر:فافتضحت حياءً من رسول الله صلي الله عليه وسلم من كراهية أن يكون بدَرَ مني،وقد قال لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم ما قال!!

أحبتي في الله ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ” الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من فى السماء.( أخرجه ابو داود) وقال  الطيبي: أتى بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق ، فيرحم البر والفاجر، والناطق ، والبهم ، والوحوش والطير. وعن عمرو بن حبيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”خاب عبد وخسر لم يجعل الله تعالى فى قلبه رحمة للبشر ” (أخرجه أبو نعيم فى معرفة الصحابة ) وعن انس بن مالك قال:قال رسول الله “لا يدخل الجنة منكم إلا رحيم”قالوا يا رسول الله, كلنا رحيم , قال ليس رحمة أحدكم نفسه وأهل بيته حتى يرحم الناس (شعب الإيمان).

احبتي في الله

لقد كانت حياة نبي الهدى تشعُّ رحمةً ورأفة بالبشرية جميعًا، فكانت تلك الرحمة ماثِلَةً في حياته جميعًا؛ في وقت الضعف والقوَّة، وإبان المنشط والمكره، ولجميع فئات الناس، فكان بذلك رحمة من الرحمن يرحم الله بها عباده، وصدق الله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ .

وما أحوجَ البشريّةَ إلى هذهِ المعاني الإسلاميّةِ السّامية، وما أشدَّ افتقارَ الناسِ إلى التخلُّق بالرّحمة التي تُضمِّد جراحَ المنكوبين، وتحثّ على القيامِ بحقوقِ الوالدَين والأقربين، والتي تواسِي المستضعَفين، وتحنو على اليتامَى والعاجِزين، وتحافِظ على حقوقِ الآخرين، وتحجز صاحبَها عن دِماء المعصومين من المسلمين وغير المسلمين، وتصون أموالَهم مِن الدّمار والهلاك، وتحثّ على فِعل الخيراتِ ومجانبَة المحرّمات.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلينأقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إن ربي غفور رحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أحبتي في الله

لعلكم جميعا تتساءلون كيف السبيل إلى التخلق بخلق الرحمة ، والجواب هو :

أولا : قراءة كتاب الله عز وجل فهو من أعظم الأسباب التي تعين على الرحمة وتيسر للإنسان طريقها، قال العلماء: إن الرحمة لا تدخل إلى قلبٍ قاسٍ، والقلوب لا تلين إلا بكلام الله، ولا تنكسر إلا بوعد الله ووعيده وتخويفه وتهديده، فمن أكثر تلاوة القرآن، وأكثر من تدبر القرآن كسر الله قلبه ودخلت فيه الرحمة.

وثانيا  ـ تذكر مشاهد الآخرة فهي كذلك من الأسباب التي تعين على رحمة الضعفاء فإن العبد إذا تذكر مشاهد الآخرة، وصور نفسه كأنه قائمٌ بين يدي الله تجادل عنه حسنته، ويقف بين يدي الله عز وجل وقد نشر له ديوانه، وبدت له أقواله وأفعاله، إذا تصور مثل هذه المواقف قادته إلى الله وحببت إلى قلبه الخير وجعلت أشجانه وأحزانه كلها في طاعة الله ومرضاته.

ثالثا  ـ معرفة سيرة السلف الصالح وقراءة سيرة الأئمة المهديين من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، والوقوف على ما كانوا عليه من الأخلاق الجميلة والآداب الكريمة، كل ذلك يحرك القلوب إلى الرحمة، ويجعل فيها شوقاً إلى الإحسان إلى الناس، وتفريج كرباتهم، وقل أن تجلس في مجلس فيذكر فيه كريمٌ بكرمه، أو يذكر المحسن فيه بإحسانه إلا خشع قلبك. فهذه أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها يأتيها عطاؤها من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عن الجميع وهي صائمة ثلاثون ألف درهم وهي في أشد الحاجة، فتوزعها على الفقراء إلى فلان وآل فلان، ولم تبق منها شيئاً حتى غابت عليها الشمس، فالتمست طعاماً تفطر عليه فلم تجد . فسير الرجال وسير الصالحين وسير الأخيار تحرك القلوب إلى الخير، والله تعالى يقول في كتابه: وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120] فالله يثبت قلوب الصالحين على الصلاح والبر ما سمعوا بأمرٍ صالح وما سمعوا بسيرة عبدٍ صالح، نسأل الله العظيم أن يجعل لنا ولكم في ذلك أوفر العظة والعبرة.

ورابع الأسباب  ـ معاشرة الرحماء،  لانها تحرك القلوب إلى الرحمة والإحسان إلى الناس ، فانظر في إخوانك وخلانك، فمن وجدت فيه الرحمة ورقة القلب وسرعة الاستجابة لله، فاجعله أقرب الناس منك، فإن الأخلاق تعدي، فإذا عاشر العبد الصالحين أحس أنه في شوق للرحمة، وأحس أنه في شوق للإحسان إلى الناس، ودعاه ذلك إلى التشبه بالأخيار، فكم من قرينٍ اقترن بقرينه، كان من أقسى الناس قلباً، فأصبح ليناً لان قلبه بصحبة الصالحين. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أشد الناس قلباً وأعظمهم صلابة، فلما أكرم  الله قلبه بالإسلام، كان من أرحم الناس بالمسلمين رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه عاشر رسول الأمة وإمام الرحماء فتأثر به، حتى قال العلماء رحمهم الله: كان أرحم الناس بالناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خامسا الاختلاط بالضعفاء، والمساكين، وذوي الحاجة؛ فإنَّه ممَّا يرقِّق القلب، ويدعو إلى الرَّحْمَة والشفقة بهؤلاء وغيرهم.

 يحكى ان بن عباس كان  معتكفا في مسجد النبي, فرأى رجلا كئيبًا، فقال له: مالي أراك كئيباً؟ قال: ديون لزمتني ما أطيق سدادها، قال: لمن؟ قال: لفلان، فهذا ابن عباس قال: أتحب أن أكلمه لك؟ قال: إذا شئت، فخرج ابن عباس من معتكفه، -والاعتكاف في رمضان من أجل العبادات-، فقال له واحد: يا بن عباس أنسيت أنك معتكف؟ قال: لا والله ما نسيت أني معتكف، ولكن سمعت صاحب هذا القبر، والعهد به قريب، وبكى (لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر، واعتكافي في مسجدي هذا).

ونحن إذا تراحمنا يرحمنا الله، وينصرنا، لكن في حياة المسلمين ظلم يهتز له عرش الرحمن، وقهر، وسحق، وتضييق من إنسان مسلم لإنسان مسلم، لا رحمة، لا أحد يرحم أحداً، كل واحد متمكن من شيء يفرض إرادته الظالمة على من حوله، فلذلك طريق النصر أن نتراحم، إذا تراحمنا يرحمنا الله، وإذا قسا بعضنا على بعض سقطنا من عين الله..

هذا وصلوا وسلموا ….الدعاء

خطبة الجمعة ليوم 07 نونبر2018 بمسجد الحسن الثاني بسيدي بنور    الدكتور : عبد الهادي السبيوي

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *