خلق الأمانة عند النبي صلى الله عليه وسلم

خلق الأمانة عند النبي صلى الله عليه وسلم

الحمد لله الذي أضاء الكون بنور الرسالة، وهدى الإنسانية برسوله صلى الله عليه وسلم إلى الحق وسواء السبيل بعد التيه والضلالة، وبعث في الناس رسولا من أنفسهم يحرص على خيرهم ويطهرهم مما تخلقوا به من جاهلية وسفاهة، نحمده تعالى ونشكره شكرا جزيلا يوافي نعمه، ويدفع عنا نقمه، ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو أمر بأداء الأمانات، والقيام بها على الوجه المطلوب فيها فقال جل وعلا: “إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا”، وحذر من مغبة التهاون بها وخيانتها فقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، ختم به النبوة والرسالة، وجعل اتباعه واقتفاء أثره من صميم محبة العبد لربه، جمله بخلق الأمانة منذ كان صبيا في قومه، حتى أصبح وصف الأمين له اسما ولقبا لا يعرف إلا به، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتأسوا به وتخلقوا بأخلاقه، وامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه، وورثوا عنه قوله “لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له وسلم تسليما كثيرا إلى يوم اللقاء به. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، ونحن نتفيأ ظلال المحبة في حبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بمناسبة ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم،يطيب لي أن أجول معكم في هذه الصفة العظيمة التي اتصف بها حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم منذ صباه، والتي عز اليوم أن نجد لها مكانا في أخلاقنا ومعاملاتنا، ألا وهي صفة الأمانة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقب بين قومه إلا بها، وذلك لأنها كانت متمثلة في سلوكه وأخلاقه، فكانوا يلقبونه بالأمين، والأمانة التي نتكلم عنها ليست كما يتبادر في أذهاننا أنها لصيقة بالمال والودائع فقط، بل هي تشمل جوانب كثيرة في حياة المسلم، فهي تكون أيضًا في القول والفعل، والمعاشرة الزوجية، وفي الوظيفة، وفي المجالس، والنقل عن الغير،وعن خلق الأمانة يقول ابن هشام في السيرة النبوية: ” فشبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلموالله تعالى يكلؤه ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أنْ كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، تنزها وتكرما، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة”، ولقد كانت ثقة أهل قريش بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي أمانته كبيرة، فكانوا ينقلون إلى بيته أموالهم ونفائسهم أمانة عنده، ولم يزل ذلك دأبهم حتى بعد معاداتهم له بسبب دعوته لهم إلى الإيمان بالله تعالى وترك عبادة الأوثان، والأمانة هي الصفة التي لم يستطع صناديد قريش، وهم أشد عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، أن ينفوها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي تفسير قوله تعالى: “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ، أَفَلَا تَذَكَّرُونَ”، قال مقاتل: ” نزلت في أبي جهل، وذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه لصادق! فقال له: مه! وما دلك على ذلك؟قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكمل رشده، نسميه الكذاب الخائن!”،
وها هو أبو سفيان زعيم مكة قبل إسلامه يقف أمام هرقل ملك الروم و يعجز عن نفي صفة الأمانة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أشد حرصا على أن يطعن في النبي ودعوته، ولكن ما إن سأله هرقل عما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أجاب قائلا: ” يأمر بالصلاة، والصدق والعفاف، والوفاء بالعهد وأداء الأمانة”، أيها الإخوة المؤمنون، رسولنا المصطفى، وهو يستعد للهجرة لم يهتم لشيء أكثر من اهتمامه لرد الأمانات التي كانت لقريش عنده، فعندما أوصى سيدنا عليا بالمبيت في فراشه ليلة الهجرة، بين له أمانات قريش، وهم أشد أعداء الله له وللدين الذي يدعو إليه، أوصاه بردها لأصحابها، والأمانة في سيرة رسولنا الكريم هي السر الذي جعل أمنا خديجة بنت خويلد تخطب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسها مما خبرته من أمانته في تجارتها التي قادها صلى الله عليه وسلم إلى الشام، ومن أمانته صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو هريرة (ض) أنه قال: “وَاللَّهِ إِنِّي لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي -أَوْ فِي بَيْتِي- فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً -أَوْ مِنَ الصَّدَقَةِ- فَأُلْقِيهَا”، أيها الإخوة المؤمنون، روى الإمام مسلم عن معقل بن يسار ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّة، يموت يوم يموت وهو غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إلا حرم الله عليه الجنة،  ومثله أخرجه البخاري عن أبي ذر الغفاري (ض) قال: “قلتُ يا رسول الله، ألا تستعملني؟، قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها”، إنها الأمانة في تحمل المسؤوليات، الي كثير منا يبحث عنها، في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعلم عظمها كان يخشى على أصحابه من تحملها، خاصة من يتطلع إليها ليجلب منها ما ليس له الحق فيها، ويستغلها لغناه، فقد أخرج الإمام البخاري عن أبى حميد الساعدى قال: “استعمل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلا على صدقات بنى سليم يدعى ابن اللتبية, فلما جاء حاسبه, قال: هذا مالكم , وهذا هدية, فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كُنْتَ صادقا؟ ! ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولانيالله فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟ ! والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقِيَ الله يحمله يوم القيامةفلا أعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاءأو بقرة لها خوارأو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه يقول: اللهم هل بلغت”. فاللهم اجعلنا من المحبين لرسول الله، المتمسكين بسنته المقتفين أثره، المهتدين بهديه، من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين.

الخطبة الثانية

أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، ما أحوجنا اليوم للتأسي بنبينا صلى الله عليه وسلم في خلق الأمانة، التي تهاوننا بها حتى فقدناها في أهم المواقف، وهي ما يتعلق في المعاشرة الزوجية بين الزوجين، فعن أبي سعيد الخدري (ض) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة، الرجل يُفْضِي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها” وفي رواية:”ثم ينشرُ أحدُهما سِرَّ صاحبه”، قال النووي: “وفي هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه”، وخير ما نختم به حديثنا عن أمانته صلى الله عليه وسلم قوله: “المسلمُ من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن: من أمِنَهُ الناسُ على دمائهم وأموالهم “، ألا فلنتق الله تعالى في الأمانات التي تحملناها، فوظائفنا ومسؤولياتنا أمانة، وإنجاز العهود والمواثيق التي بينا وبين المسلمين أمانة، واباؤنا وبناتنا، وأزواجنا التي استرعانا الله حقوقهم أمانة، والمحافظة على أمن البلاد واستقرارها أمانة، وتلامذتنا في مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا أمانة، والسر المجالس أمانة، الدعاء

خطبة الجمعة من مسجد الحسنى عين الشق، بعنوان: “خلق الأمانة  عندالنبي صلى الله عليه وسلم” الجمعة 13 ربيع الثاني 1440 موافق 21 دجنبر 2018 ،الأستاذ مولاي يوسف المختار بصير

 

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *