حقيقة محاسبة النفس

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره،
أما بعد، فيا عباد الله،
يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)، في هذه الآية أمر الله سبحانه وتعالى العبدَ أن ينظر ما قدم ليوم القيامة، وهل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أو لا يصلح، ولا شك أن المقصود والهدف من هذا النظر أن يقوده ذلك إلى كمال الاستعداد ليوم المعاد، وتقديم ما ينجيه من عذاب الله، ويبيض وجهه عند الله؛ وهذه في حقيقتها هي محاسبة النفس، وروى الإمام أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله”، ومعنى دان نفسه: أي حاسبها، وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.        
أيها الإخوة الكرام، إن محاسبة المرء لنفسه اتجاه تقصيره في جنب الله ينبغي أن تكون بشكل دائم، ذلك إذا أردنا النجاة والسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة، وإن ما ترون من كثير من المشاكل التي يعاني منها مجتمعنا في كثير من الميادين ما هو إلا نتيجة لقلة من يحاسب نفسه وجعل المحاسبة مبدأه، فلو كان ديدننا محاسبة أنفسنا لما عاقنا عائق ولما اعترضت طريقنا مشكلة، فلنجعل المحاسبة مبدأ أساسيا في حياتنا، وعند التأمل في حقيقة أمرنا تجدنا جمعنا بين التقصير والتفريط والأمن، وهذه أمور مهلكة غاية الإهلاك، أنظروا أيها الإخوة الكرام إلى أصحاب التجارات والمشاريع فلو لم تكن لهم أوقات خاصة لحساب الربح والخسارة لما ظهرت لأعمالهم نتائج وثمرات.  
ومحاسبة النفس لدى العقلاء تحدث يومياً، ذلك أنه ينبغي أن يكون لكل واحد منا وقفة مع نفسه في أول النهار يوصيها بالأعمال الصالحة وينهاها عن الأعمال السيئة، ويطالبها ببعض الأعمال في كل يوم، فكأنه يضع لها جدول أعمال ينبغي تحقيقه، ويمثل لنفسه أنه مات ثم يطلب أن يعاد إلى الدنيا ولو يوماً واحداً، فكأنه أعيد، وهذا اليوم هو الذي سيعيشه فقط، فماذا يجب أن يعمل فيه؟، ثم تكون له وقفة أخرى في آخر النهار ينظر ماذا عمل؟، وماذا أنجز؟ ؛ فيبدأ بالفرائض فيحاسب نفسه عليها هل أداها كما يريد الله منه، هل كان فيها الإخلاص التام لله ؟ ، هل اتبع فيها الرسول ؟، هل ازداد بها رفعة أو أداها حركات صورية جوفاء؟ ، هل كان فيها نقص فنتداركه إما بقضاء أو إصلاح ؛ ثم يحاسبها على المناهي: فإن عرف أنه ارتكب منها شيئا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى؛ ويحاسبها ماذا قدمت للإسلام ولمجتمع الإسلام؛ ويحاسبها على نعم الله، هل تذكرها وهل شعر بها أم لا ؟، وهل أسندها إلى المنعم سبحانه ؟ ، وهل قام بشكرها بصرفها في طاعة الله ولم يستعملها في معصية الله،
والمحاسبة كما ذكر الماوردي هي: “أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل”، ويقولُ ابنُ كثيرٍ رحمه الله في تفسيرِ قولِه تعالى: (وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)، أي حاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتُم لأنفسِـكم من الأعمالِ الصالحةِ ليومِ معادِكم وعرضِـكم على ربِكم ، واعلموا أنه عالمٌ بجميعِ أعمالِكم وأحوالِكم ، لا تخفى عليهِ منكم خافية، ويقول إبراهيم التيمي رحمه الله: مثلت لنفس كأني في الجنة أكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأطوف في وديانها وأعانق أبكارها ثم مثلت لنفسي وكأني في النار أكل من زقومها وأشرب من حميمها وأصيح بين أهلها ثم قلت يا نفس أي دار تريدين؟ فقالت أعود إلى الدنيا فأعمل صالحاً كي أنال الجنة فقلت يا نفسي هاأنت في الدنيا فأعملي.
والمحاسبة أيها الإخوة والأخوات، طريق لاستقامة القلوب وتزكية النفوس؛ فإن زكاتها وطهارتها موقوف على محاسبتها، فلا تزكو ولا تطهر ولا تصلح ألبتة إلا بمحاسبتها، وهي دليل على صلاح الإنسان وعلى خوفه من الله؛ فغير الخائف من الله ليس عنده من الدواعي ما يجعله يقف مع نفسه فيحاسبها و يعاتبها على تقصيرها، وإن هلاكُ القلب من إهمالِ النفسِ ومن موافقتها وإتباع هواها، وهي التي تقود أخيرا صاحبها إلى طريق التوبة النصوح؛ وذلك لأنه إذا حاسب نفسه أدرك تقصيره في جنب الله، فقاده هذا إلى التوبة.  
و المحاسبة أنواع منها محاسبة قبل العمل، ذلك أن المسلم إذا أراد أن يقدم على عمل ما فينبغي أولا أن يقف مع نفسه وقفة محاسبة، هل يقدم على هذا العمل أم لا؟ فينظر هل يستطيع أن يقوم به أو لا؟، وهل الأفضل أن يعمله أو يتركه؟، وهل الدافع لعمله ابتغاء مرضات الله أو له أهداف دنيوية؟، قال الحسن رحمه الله: “رحم الله عبدا وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر”، فإذا نظر في هذه الأشياء أقدم على العمل أو أحجم عنه، ومحاسبة بعد العمل أي محاسبة النفس على التقصير في الطاعات في حق الله تعالى، وذلك يكون بأن يسأل نفسه هل أديتُ هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصاً فيها لله ووفق ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، ثم يجبر نقصها بأداء النوافل، ويحاسبها على كل معصية بدرت منه لماذا ارتكبتها ؟، ويستغفر ويعمل الحسنات الماحيةِ والمذهبة للسيئات، كما قال الله سبحانه: (إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ).
ويحاسبها على كل أمرٍ كان تركه خيراً من فعله، فيسأل نفسه لِمَ فعلتُ هذا الأمر؟ أليس الخير في تركه؟ وما الفائدة التي جنيتها منه؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي؟ ونحو ذلك من الأسئلة، ومحاسبتها على كل أمر مباح أو معتاد لم فعلته؟ وهل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحاً لي؟ أو فعلتُه عادةً وتقليداً بلا نيّةٍ صالحة ولا قصدٍ في المثوبة؛ فيكون فعلي له مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجح؟
والوقت الأنفع للمحاسبة كما ذكر العلماء يستحسن أن يكون عند نهاية الأسبوع أو الشهر أو السنة؛ فتقف مع نفسك وقفة محاسبة تكون بمثابة جرد لأعمالك، ماذا قدمت؟، وبماذا قصرت؟، هل ازددت من الله قرباً أو ازددت منه بعدا؟، هل أنا خاسر أو رابح، و هل حافظت على رأس المال على الأقل؟ ويستحسن كذلك محاسبتها عند الأوقات الفاضلة، والأمكنة الفاضلة وفي مواسم الخير كرمضان، وعشر ذي الحجة، ويوم الجمعة، وآخر الليل، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

 

الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه.
أما بعد فيا عباد الله،
كتبَ سيدنا عمرُ بن الخطابِ رضي الله عنه إلى بعضِ عمُّالِهِ: حاسب نفسكَ في الرخاء قبلَ حسابِ الشدة، فإن من حاسبَ نفسهُ في الرخاءِ قبلَ حساب الشدة، عادَ أمرُه إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلتْـهُ أهواؤه عادَ أمرُه إلى الندامةٍ والخسارة، وقال أنس رضي الله عنه: سمعتُ عمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه، وقد دخلَ حائطاً، وبيني وبينه جدار، يقول: عمرُ بن الخطاب أميرُ المؤمنين، بخٍ بخ، واللهِ لتتقينَ الله يا ابن الخطاب أو ليُعذبنَّك، وهذا أبو بكر رضي الله عنه يدخل مزرعة أحد الأنصار ويرى طائر يطير من شجرة إلى أخرى فيتأمل ويقول هنيئاً لك يا طائر ترد الشجر وتأكل وتشرب وتموت ولا حساب ولا عقاب يا ليتني كنت شعرة في صدر عبدٍ مؤمن، وكان الأحنفُ بن قيسٍ يجيءُ إلى المصباحِ فيضعُ إصبَعهُ فيه ثم يقول: يا حُنيف، ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا؟ ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا؟ وقال الحسن  رحمه الله: “إن المؤمنَ واللهِ ما تراهُ إلا يلومُ نفسهُ على كلِّ حالاته، يستقصرها في كل ما يفعل، فيندمُ ويلومُ نفسَهُ، وإنّ الفاجرَ ليمضي قُدُماً لا يعاتبُ نفسَه”.
فيجبُ أن يكونَ المؤمنُ محاسباً لنفسهِ مهتماً بها، لائماً لها على تقصيرِها، وهذا الربيع بن خثيم كان له تحت سريره حفرة كلما رأى من نفسه إقبالاً على الدنيا نزل فيها، وكأنه في قبره ويصيح ويبكي وكأنه في عداد الموتى، ويقول رب ارجعون رب ارجعون ثم يصعد من الحفرة، ويقول: يا نفس هاأنت في الدنيا فاعملي صالحاً، وكذلكم كان شأن الكثير من الربانيين من أهل المغرب أوثر عنهم أنهم اشتروا أكفانا ووضعوها مع ملابسهم، كي يتذكروا الموت كلما هموا بتغيير ثيابهم، وأوثر عن بعضهم أنهم حفروا قبورهم بأيديهم وكانوا يزورونها بين الحين والآخر ويجلسون فيها حينا من الوقت لردع أنفسهم ووعظها، والحمد لله رب العالمين.  
الدعاء.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *