حب الأوطان من الإيمان

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، نحمده حمد الشاكرين الذاكرين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في محكم كتابه: “وهو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إن ربي قريب مجيب”، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله المصطفى الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فيا أيها المؤمنون، إن حب الأوطان أمر فطري في الإنسان، فقد جعل الله سبحانه وتعالى بين الإنسان وبين الأرض التي نشأ على ترابها وغذائها، وشرب من معين مائها، وشم من طيب هوائها، رابطة من المشاعر العميقة، والمحبة الوثيقة، هي  بمثابة أواصر الدم والرحم التي تصله بوالدته التي حملته في بطنها، وولدته من أحشائها، وغذته بلبنها، وتربى في حجرها، ونما وترعرع بين أحضانها، وهذه المعاني كلها أواصر مشتركة بين الأم الوالدة والأرض المولود فيها، تستوجب من الحقوق فوق كل الحقوق، بعد توحيد الخالق عز وجل، ولذلك غرس الله محبة الوطن في أعماق الفطرة الإنسانية، وجعلها الشرع الحنيف من صميم القيم الدينية السامية، والدلائل الفطرية الإيمانية على رقي إنسانية الإنسان، ولذلك اشتهر على الألسنة: “حب الوطن من الإيمان”، قال الإمام السخاوي في كتاب المقاصد الحسنة: “لم أقف عليه، ومعناه صحيح”. أيها المؤمنون، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب وطنه مكة،  حبا عظيما، لأنها محل مولده ونشأته عليه الصلاة والسلام، فقد ثبت في أخبار هجرته صلى الله عليه وسلم، أنه لما أخرجته قريش من مكة، بعد أن اشتد عليه وعلى أصحابه الأذى، خرج متخفيا بالليل، ومعه رفيقه في هجرته أبو بكر الصديق (ض)، فوقف صلى الله عليه وسلم على مشارف مكة، وولى وجهه جهتها، وقال مخاطبا لها ومتحننا: “والله إنك لأحب البلاد إلي، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت أبدا”، فبشره الله تعالى، بعد الهجرة، بقرب العودة إليها زمن الفتح، فقال جل وعلا: “إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد”. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أحبها ودعا الله أن يرزقه حبها، فقال صلى الله عليه وسلم: “اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد”، فاستجاب الله تعالى دعاءه، فصار يحب المدينة حبا عظيما، وكان يسر عندما يرى معالمها التي تدل على قرب وصوله إليها، فعن أنس بن مالك قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر، فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقته -أي أسرع بها- وإن كانت دابة حركها”، وفي رواية البخاري أيضا: “حركها من حبها” أي من التشوق إلى المدينة. أيها الإخوة المؤمنون، إن حب الوطن من أفضل الخصال، وأحد أوصاف أهل الكمال، ولذلك جاءت نصوص الشرع  كتابا وسنة متظافرة على أن حب الوطن من سليم الفطرة، وأنه معروف في سير الرسل، وهم أكمل رجال أزمانهم، وفطرتهم أنقى فطرة وأبعدها عن الفساد. أيها المؤمنون، ليس أمر المواطنة والوطنية إلا من مقتضيات هذه الفطرة السليمة، والسنة النبوية القويمة، إذ ليست الوطنية إلا غيرة دينية شرعية، تستلزم الدفاع عن حرمة الوطن وحوزته، بحماية الأنفس والأعراض والحرص على المال العام، واحترام النظام والقوانين، والتعامل بالأخلاق الحسنة مع كل الناس، والعمل على الحفاظ على الخلية الأولى للوطن، وهي الأسرة، وذلك بتنشئة الأطفال على الثوابث الدينية والوطنية. إن الوطنية الصادقة، والإنتماء الحقيقي للوطن لا يقتصر على المشاعر والأحاسيس فقط، بل يتجلى في الأقوال والأفعال، فالوطني الصادق يسهم في تطور وطنه وبناء حضارته وتقدمه، ويحافظ على أمنه واستقراره، ويسترخص الغالي والنفيس لإعلاء شأنه وشأن أهله، ولا يساوم في أمن بلاده ووطنه، ونحن اليوم في أمس الحاجة لإبراز محبتنا لوطننا، من خلال أداء الأمانات المنوطة بنا، كل من موقعه، وتلقين أبنائنا وبناتنا وأزواجنا الروح الوطنية الصادقة، واليقظة الدائمة لحماية حمى ديننا وأمتنا من بغي الكائدين، ومن الأفكار المتطرفة التي يروج لها أعداء وحدتنا. فاللهم اجعلنا لنعمك من الشاكرين، ولوطننا وأهلنا حامين، ولعروة بيعتنا لأمير المؤمنين حافظين، وعلى صراطك المستقيم سائرين، غير مبدلين ولا مغيرين، آمين، والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

أيها الإخوة المؤمنون، إن أجمل ما يتجلى به حب الوطن الدعاء له، فالدعاء تعبير صادق عن مكنون الفؤاد، لا يخالطه كذب أو مبالغة أو نفاق، لأن له صلة مباشرة بالله، فهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام، لما أحب مكة أثمر حبه دعاء صادقا لها بالأمن والرزق الوافر: “وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر”، وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم الدعاء للمدينة بالخير والبركة والصلاح، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة”، وصح عنه أيضا صلى الله عليه وسلم أنه قال: “اللهم بارك لنا في تمرنا وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وأنا عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه”، ودعاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يظهر منه ما يفيض به قلبه من حب لبلده، ومستقر عبادته، وموطن أهله، وتأسيا بنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ندعوك يا ربنا بأن تحفظ أمتنا المغربية من كيد الكائدين، ومكر الحاسدين، وأن توقظ في قلوبنا وقلوب شبابنا وشاباتنا، وكل من تحمل المسؤولية في بلدنا شعلة الحفاظ على أمن بلدنا واستقراره، والغيرة عليه، والتعاون على استتباب الأمن

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *