حاجة المسلم إلى التصوف وإلى أخلاق وتربية أهل التصوف
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره. أما بعد فيا عباد الله،
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: “واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا”
أيها الإخوة الكرام، تعيش الزاوية التي نحمد الله تعالى بالانتساب إليها في هذه الأيام المباركة ومعها محيطها الجهوي نفحات علمية ومجالس ذكر عطرة، بحضور ثلة أخيار من نخبة العلماء والباحثين في العالم الإسلامي، جاؤوا ليتدارسوا موضوعا مهما يهم المسلمين في العالم، ألا وهو موضوع: تجديد الفكر الصوفي والانفتاح على قضايا الأمة المعاصرة، وذلك بمناسبة تخليد ذكرى انتفاضة المجاهد الوطني الفقيد سيدي محمد بصير، التي تحظى بالرعاية السامية لمولانا أمير المؤمنين محمد السادس حفظه الله، ولكي يكون للإخوة والأخوات نصيب من هذه المائدة العلمية، ولكي نشرككم معنا في تحمل المسؤولية في التجديد، أحببت أن أخصص هذه الخطبة لموضوع: “حاجة المسلم إلى التصوف وإلى أخلاق وتربية أهل التصوف”، لأن التجديد مسؤولية كل فرد منا وليست مسؤولية الشيوخ وأرباب الزوايا فقط.
أيها الإخوة الكرام، بداية إن كثيرا من الناس يستشكل كلمة التصوف هذه، ويقول إنه شيء طارئ على الإسلام متسرب إليه ويعدونه من البدع التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: “… وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة”، وبهذا الخصوص أقول: إن الأسماء والكلمات ليست هي التي توصف بأنها الإسلام أو هي البدع الطارئة عليه، وإنما الذي يوصف بهذا هي المعتقدات الزائغة والسلوكات الباطلة، أما أهل التصوف كما يعرفهم القاصي والداني فإنهم في الغالب يهتمون بتزكية النفس ومراقبة الله متحققين بمقام الإحسان الذي يعني أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، كما فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكي يتحقق المسلم بمقام الإحسان هذا، لابد أن يسري من العقل الذي آمن إلى الأعضاء التي استسلمت سلك من التأثير والفاعلية بحيث يغدو المسلم يعبد ربه وكأنه يراه متفاعلا بشعوره مع عباداته.
فهذا هو معنى التصوف وموضوعه باختصار، وبخصوص مدى حاجتنا إلى التصوف وإلى أخلاق أهل التصوف، أقول: فمن يطلع على أحوالنا وأحوال الكثير من المسلمين في الوقت الحاضر، يجدنا ويجدهم لازالوا لم يتحققوا بعد بدرجة الإسلام، يجدهم مسلمين إسلاما تقليديا، كل منهم يقلد الآخر في القيام بأركان الإسلام،كما تجد الغالبية العظمى منهم تجهل أحكام الطهارة والصلاة والزكاة وغيرها من تعاليم الدين الإسلامي التي تتعين معرفتها على كل فرد مسلم، وفي مقابل ذلك تجدهم منشغلين بزخارف الدنيا وملذاتها غافلين عن الله منغمسين في المحرمات وما إلى ذلك، كما تجد الكثرة الكاثرة منهم لازالت تعارض القضاء والقدر ولم تسلم لله بما جرت به المقادير، وتسأل أسئلة تنبئ عن عدم تحققها بمقام الإيمان بعد، وذلك كقول بعضهم عندما تنزل به ملمة أو مصيبة: لماذا فعل الله بي هذا؟ وبأنني أستحق أكثر من هذا، أو بأني تناولت دواء كذا فشفيت، ويرجع فاعلية الشفاء للدواء وليس لله … وغيرها من الأمور والدقائق التي اهتم بها أهل التصوف، وهذا كله علامة عن عدم التحقق بدرجة الإيمان.
وأما درجة الإحسان التي تعني أن تعبد الله كأنك تراه، وهي الدرجة التي وصلها المتصوفة في علاقتهم بربهم، أي إنهم يراقبون الله في أعمالهم أينما كانوا، فإن الناس اليوم بعيدون عن هذه الدرجة بعد المشرقين، لأن كل الأمراض الخفية كالحسد والغيبة والنميمة والرياء والعجب وحب الرئاسة والشهرة والعصبية والعنصرية والطمع في الخلق والأنانية وغيرها، لازالت متفشية فينا، وغالب الناس مرضى بهذه الأمراض الخفية وهم لا يدرون، وإذا لم يبحثوا عن الدواء الناجع فهم على خطر شديد ولا يمكن أن يأمنوا من فتن الدنيا والآخرة، زد على ذلك مراقبة الناس بدل مراقبة الله، والخوف من ذوي الجاه والسلطان والتملق لهم، بدل الخوف من الله عز وجل، وخوف الفقر والشكوى إلى الخلق، وغير ذلك.
والذي يراقب الله عز وجل في مأمن من كل هذه الأمراض والعيوب، ولا يمكن وصول هذه المرتبة إلا بالوصول لمقام الإحسان الذي تكلمت عنه آنفا.
وفي هذا المقام يحكى عن أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج مع نفر من الصحابة واشتكوا من الجوع، فنزل بهم راع يرعى غنما، فقال له سيدنا عمر بعنا شاة من هذه الغنم، فأبى الراعي وقال: إنما أنا عبد مملوك وهذه الغنم لسيدي، فقال له سيدنا عمر: إن سيدك لا يراك وبإمكانك أن تبيع ما تريد، فقال له الراعي: إن كان سيدي لا يراني فإن الله يراني، فبكى سيدنا عمر بن الخطاب وذهب يسأل عن سيد الراعي حتى لقيه واشترى منه الراعي واعتقه لوجه الله تعالى.
فهذا المقام هو مقام المتصوفة وهو المقام الذي يجب أن يصله كل مسلم في علاقته بربه، فالصوفي الحقيقي هو كما قال الشاعر في هذه الأبيات الرائعة:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا وظنه البعض مشتقا من الصوف
ولست أمنح هذا الاســـم غير فتى صافى فصوفي حتى سمي الصوفي
أسأل الله أن يرزقنا صفاء القلوب وسلامة الصدور وأن يخلقنا بأخلاق أهل الله، أمين أمين أمين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد فيا عباد الله:
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: “في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لاتلهيهم تجارة ولابيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب“.
أيها الإخوة الكرام، بقي أن أجيب على سؤال مهم، وهو كيف السبيل إلى التحقق بمقام الإحسان الذي تكلمنا عنه؟
الجواب، السبيل إلى التحقق بمقام الإحسان هو الإكثار من ذكر الله تعالى وتذكره والإكثار من مراقبة الله وربط النعم بالمنعم، بحيث كلما وفدت إليك نعمة تذكر الإله الـذي تفضل بها عليك، واستمر على هذا النهج إلى أن تهتاج بين جوانحك محبة عارمة للإله المتفضل، وإذا ترسخت محبة الله في قلبك، فإنه يطرد غيره منه ويتراجع سلطان الأهواء على نفسك، وللتحقق بهذا المقام يوصي أهل الاختصاص بصحبة شيخ صالح عارف المسالك والعقبات، مأذون من غيره، صاحب سند في الطريق إلى الله، يقول العلامة ابن عاشر المغربي:
يصحب شيخا عارف المسالك يقيه في طريقه المهالك…إلخ
هكذا يظهر أن الإحسان الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو لباب الإسلام، وهو الجامع المشترك بين الإيمان والإسلام، بل إن الإسلام بدون هذا الإحسان كجسد لا روح فيه.
فالممارسة الدينية التطبيقية العملية في العديد من المجتمعات الإسلامية، قد استبدلت وغيرت بسلوكات جديدة ومظاهر غريبة في الشكل والمظهر والصورة، كاللباس والمظهر الخارجي، وأصبح التركيز على ذلك أكثر من التركيز على تحصيل القلب السليم والعناية بالتخلص من أمراض الباطن، وحسن المعاملة مع الغير التي يهتم بها أهل التصوف أيما اهتمام، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول في المتفق عليه،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:”إِنَّ اللَّهَ لايَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ”، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيما رواه الإمام الطبراني عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَنَّةَ أَنَّهُ سَمِعَه يَقُولُ:”بَدَأَ الإسْلامُ غَرِيبًا، ثُمَّ يَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى للغُرَبَاءِ”، لقد أصبح التركيز أكثر في أيامنا هذه من قبل أصحاب التيارات الدخيلة على أمور المظهر والشكل والصورة الخارجية، وعلى القضايا الجزئية الاجتهادية، كذكر الله في السبحة ومع الجماعة، وقراءة القرآن جماعة، وزيارة القبور والأضرحة…وكأن الإسلام اختزل اختزالا في هذه القضايا فقط.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يبصرنا بعيوبنا وأن يصلح منا ما ظهر وما بطن وأن يجعلنا من عباده الصالحين النافعين والحمد لله رب العالمين