جليس السوء
الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم كتابه المبين: “الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين”، نحمده تعالى ونشكره على أن هدانا بفضله إلى صراطه المستقيم، وهيأ لنا أصحابا وجلساء صالحين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحفظ عباده المؤمنين من قرناء السوء والجهالة،
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ومصطفاه من خلقه وخليله، القائل في توجيهاته لأتباعه: “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل”، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وسلم تسليما كثيراإلى يوم اللقاء به، أما بعد،
فيا أيها الإخوة المؤمنون، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري (ض) : “إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة”، أيها الأحبة في الله، كنا في الأسابيع الماضية قد تكلمنا عن الشطر الأول من هذا الحديث والذي يهم الجليس الصالح، واليوم بحول الله نتناول الحديث عن الصنف الثاني من الجلساء والأصحاب، والذين أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم “كنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة”، أخي المسلم، إذا كان المرء على مشرب صديقه، وعادات خليله فلينظر بعين البصيرة إلى أعمال وأخلاق من يريد صداقته ومرافقته وصحبته، فمن رضي أعماله وأخلاقه وإقباله وإدباره صادقه ومن سخط أعماله وأخلاقه ولم يعجبه منطقه وإسلامه تباعد عنه، وفي هذا الأخير يقول سيدنا على كرم الله وجهه: “إياك وصاحب السوء فإنه كالسيف المسلول، يروق منظره ويقبح أثره”، وفي الحديث تحذير من مجالسة الأشرار الذين لا ينالك منهم إلا الشر المستطار، كالمغتاب والنمام والسكير والزاني والمرائي والمتكبر، والقمار والكذاب، فإن رضيت بصحبتهم وركنت إلى معاشرتهم صار مثلك معهم كنافخ الكير على الفحم الكثير وأنت جليسه، فإما أن يحرق بدنك وثيابك وإما أن يملأ أنفك بالروائح الكريهة، وأنت شريكه في الإثم والفضيحة، ومن أعان على معصية ولو بشطر كلمة كان شريكا فيها، والسكوت علامة الرضا، قال تعالى: “وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين”، وقد يكون جليس السوء فاجرا قويا لا تقدر على ردعه، ولا نهيه عن منكره فخير لك الإبتعاد عنه لئلا تكون في معصيتين، معصية السكوت على الباطل ومعصية مرافقة أهله، والحكماء يقولون: مع من تكن بحاله تكن، روي عن سيدنا علي كرم الله وجهه قال: “خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فتوفي أحد المؤمنين وبشر بالجنة فذكر خليله فقال: اللهم إن فلانا خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر وينبئني أني ملاقيك اللهم فلا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني، وترضى عنه كما رضيت عني، فيقال له: اذهب فلو تعلم ماله عندي لضحكت كثيرا وبكيت قليلا، قال ثم يموت الآخر فتجتمع أرواحهما فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول كل واحد منهما لصاحبه نعم الأخ ونعم الصاحب ونعم الخليل”، وإذا مات أحد الكافرين وبشر بالنار ذكر خليله فيقول اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بالمنكر وينهاني عن المعروف ويأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك ويخبرني أني غير ملاقيك، اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت علي، قال فيموت الكافر الثاني فيجمع بين أرواحهما فيقال ليثن كل واحد منكما على صاحبه فيقول كل واحد منهما لصاحبه بئس الأخ وبئس الصاحب وبئس الخليل، قال ابن عباس (ض) “صارت كل خلة عداوة يوم القيامة إلا خلة المتقين”. فالهم ارزقنا الصحبة الصالحة، واجعل رفقاءنا حاملين للمسك هادين إلى سواء السبيل، جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا ينبغي الحمد إلا له والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبوة والرسالة وعلى آله وصحبه وكل من انتمى له، عباد الله من اتقى الله فاز برضى مولاه ومن جاءته موعظة من ربه فانتهى فأجره على الله، أما بعد، أخي المسلم أختي المسلمة، إن المتأمل البصير في كل الشرور والموبقات التي تعاني منها المجتمعات عامة وأمة الإسلام خاصة يجد أن السبب الرئيسي والأول فيه هم الرفقاء والأصحاب، الذين لا بد لنا منهم، ولكن إذا كانوا رفقاء صالحين صارت أحوالنا إلى الصلاح، وإذا كانوا فاسدين والعياذ بالله صارت أحوالنا إلى ما لا تحمد عقباه في الدنيا ويوم العرض على رب العالمين، فالجرائم التي نقرأ عنها ونسمع صداها عبر وسائل الإعلام سببها الأول تعاطي المخدرات، والمسكرات، والقمار، والزنى، وكل هذه الجرائم يقترفها أصحابها اقتداءا برفقائهم، أولئك الذين خصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشطر الثاني من هذا الحديث، حتى ولو لم يقترف الإنسان الجرم بيده فكونه صديقا أو خليلا للمجرمين يوقعه في شباك الإجرام، ويحسب على المجرمين، قال تعالى ناهيا عباده عن مجالسة هذا الصنف من الناس والركون إلى ما هم فيه من غي وضلالة وفسق وفجور: “ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون”، ويقول الحكيم: “مع من تكن بحاله تكن”، ويقول فيه الشاعر: عن المرء لا تسل وسل عن قرينه ** فكل قرين بالمقارن يقتدي. وإلى هذا المعنى أشار صاحب الحكم العطائية محذرا أهل الطاعة من الركون إلى رفقاء السوء، ومرغبا إياهم في البحث عن أهل الله الصالحين، رفقاء الخير والدالين على الخير بقوله: “لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله” فاختر أخي الصالح وأختي الصالحة من الأحباب والأصحاب ما ينفعك ويدلك على الله مقاله وفعله فتكونان سببا للأخوة الدائمة التي وعد الله أصحابها بالظل التام تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. الدعاء