توجيهات الدين إلى الستر وكيف تعامل السلف مع هذا الخلق
توجيهات الدين إلى الستر وكيف تعامل السلف مع هذا الخلق
الدكتور مولاي عبد المغي بصير
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، تتميما لما بدأناه في الأسبوع الماضي بطرقنا لموضوع خلق الستر، بقي أن نطلع على بعض توجيهات ديننا في الموضوع، وأن نعرف كيف تعامل أكابر الربانيين من سلفنا مع خلق الستر. وكيف لنا أن نعزز هذا الخلق في أنفسنا؟
عباد الله، إن من أشهر القصص في هذا الموضوع ماوقع في قصَّة ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه، ففيها كامل العبرة والعظة، وذلكم عندما جاء ماعز هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف على نفسه بالزِّنى، وسأله أن يقيم عليه الحدَّ ليطهِّره، فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم برجمه، فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله مع من زنيت؟، وكذلكم المرأة الغامديَّة رضي الله عنها عندما أقرَّت على نفسها،لم يسألها النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، روى الإمام مالك في الموطأ وغيره في إحدى روايات حديث ماعز رضي الله عنه، أنَّه جاء إلى أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه، فقال له إنَّ الآخر زنى -يريد نفسه- فقال له أبو بكر: هل ذكرت هذا لأحد غيري؟ فقال: لا، فقال له أبو بكر: فتُب إلى الله، واسْتَتِر بسِتر الله؛ فإنَّ الله يقبل التَّوبة عن عباده. فلم تُقْرِره نفسه، حتَّى أتى عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال له عمر مثل ما قال له أبو بكر. فلم تُقْرِره نفسه حتَّى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: إنَّ الآخر زنى. فقال سعيد: فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرَّات، كلُّ ذلك يُعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى إذا أكثر عليه، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: أيشتكي، أم به جِنَّة؟ فقالوا: يا رسول الله، والله إنَّه لصحيح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبِكْر أم ثيِّب؟ فقالوا: بل ثيِّب، يا رسول الله، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرُجِم. وفي رواية صحيحة أنَّ رجلًا اسمه هَزَّال، هو الذي أشار على ماعز أن يأتي النَّبي صلى الله عليه وسلم فيخبره، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم:” يا هَزَّال، لو سَتَرْته بردائك، لكان خيرًا لك”، قال العلماء: إنما قال ذلك حبًّا لإخفاء الفضيحة، وكراهيةً لإشاعتها.
تأملوا عباد الله كيف يعلمنا ديننا الستر على الناس في جميع الأحوال، وخاصة إذا تابوا إلى الله وحسنت أحوالهم، لا كما يفعل اليوم العديد ممن في نفسه شيء، حيث يسعى لإفساد كل علاقة قائمة قد تقرب بين مسلم ومسلمة أو بين صديق وآخر أو بين عائلة وعائلة، فتجد ديدنه هو الإفساد والتخريب والفضح وكشف العيوب.
بقي عباد الله أن نطلع على توجيهات بعض سلفنا الصالح في هذا الموضوع، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “يا نساء المؤمنين، إذا أذنبت إحداكنَّ ذنبًا، فلا تخبرنَّ به النَّاس، ولتستغفر الله تعالى، ولتتب إليه؛ فإنَّ العباد يُعَيِّرُون ولا يُغَيِّرُون، والله تعالى يُغَيِّر ولا يُعَيِّر”، وفي قصة أخرى عن الشَّعبي رحمه الله: أنَّ رجلًا أتى عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، قال: “إنَّ ابنة لي أصابت حدًّا، فعَمَدت إلى الشَّفْرة، فذبَحَت نفسها، فأدركتُها، وقد قطعت بعض أوداجها، فداويتها فبرأت، ثم أنَّها نَسَكت، فأقبلت على القرآن، فهي تُخْطب إليَّ، فهل ترى أن أخبر خطيبها بالذي كان، فقال له عمر: تعمد إلى سِتْر سَتَره الله فتكشفه؟ لئن بلغني أنَّك ذكرت شيئًا من أمرها، لأجعلنَّك نَكالًا لأهل الأمصار، بل أنكِحها نكاح العفيفة المسلمة”. وعن الرباني الكبير إبراهيم بن أدهم، قال: بلغني أنَّ عمر بن عبد العزيز قال لخالد ابن صفوان: عِظْني وأوجز. قال: فقال خالد: ياأمير المؤمنين، إنَّ أقوامًا غرَّهم سِتْر الله عزَّ وجلَّ، وفتنهم حُسْن الثَّناء، فلا يغلبنَّ جهل غيرك بك علمك بنفسك، أعاذنا الله وإياك أن نكون بالسِّتْر مغرورين، وبثناء النَّاس مسرورين، وعمَّا افترض الله متخلِّفين مقصرين، وإلى الأهواء مائلين. قال: فبكى، ثم قال: أعاذنا الله وإياك من اتِّباع الهوى”.
وعن عبد الله بن المبارك، قال: كان الرَّجل إذا رأى من أخيه ما يكره، أمره في سِتْر، ونهاه في سِتْر، فيُؤجر في سِتْره، ويُؤجر في نهيه، فأمَّا اليوم فإذا رأى أحدٌ من أحدٍ ما يكره، استغضب أخاه، وهتك سِتْره. وعن أبي عثمان النَّهدي، قال: إنَّ المؤمن ليُعطى كتابه في سِتْرٍ من الله تعالى، فيقرأ سيِّئاته فيتغيَّر لونه، ثمَّ يقرأ حسناته فيرجع إليه لونه، ثمَّ ينظر، وإذا سيِّئاته قد بُدِّلت حسنات، فعند ذلك يقول هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ”. أسأل الله تعالى أن يستر علينا وأن يبدل سيئاتنا حسنات، أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فيا عباد الله، إن في الحث على التخلق بخلق الستر عدة رسائل للمسلم، وأهمها أن ينشغل بإصلاح نفسه، قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: “يا ابن آدم، لن تنال حقيقة الإيمان حتَّى لاتعيب النَّاس بعيب هو فيك، وتبدأ بذلك العيب من نفسك، فتصلحه، فما تصلح عيبًا إلَّا ترى عيبًا آخر، فيكون شغلك في خاصَّة نفسك”.
ختاما لهذا الموضوع أقول: رُوي عن بعض السَّلف أنَّه قال:” أدركت قومًا لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب النَّاس، فذكر النَّاس عيوبهم. وأدركت أقوامًا، كانت لهم عيوب فكَفُّوا عن عيوب النَّاس فنُسيت عيوبهم”.
لذلكم ينبغي الاجتهاد في سِتْر عَورَات المسلمين وقبائحهم، وإظهار مناقبهم، وكونهم يدًا واحدةً في جميع الأوقات، لأن ذلك يساهم في نشر الحبِّ والألفة بينهم ويعين العاصي على أن يتدارك نفسه، ويتوب إلى الله توبةً نصوحًا، وبالعكس فلو فُضِح وشُهِّر به، لكان في هذا إعانة للشَّيطان عليه، حيث يدفعه إلى مزيد من المعاصي والآثام، كما أن فَضْح النَّاس وخاصة أهل الفضل منهم إن بدت منهم زلَّة أو هفوة قد يجرِّئ كثيرًا من عوام النَّاس على المعاصي، أضف إلى ذلك أنَّ نفس السَّاتر تزكو، ويرضى الله عنه، ويَسْتُره في الدُّنيا والآخرة. ومن منا لايتمنى أن تتزكى نفسه؟ ومن منا لا يحب أن يرضى الله عنه؟ ومن منا لايطلب ستر الله الجميل في الدنيا والآخرة؟
والذي ينبغي أن نعلمه في الأخير أن الله تعالى قد يستر علينا في دار الدنيا، ولا يفضحنا. ولكن هذا لايعني بحال من الأحوال أنه قد غفر لنا وعفا عنا، مما يستلزم دوام طلب المغفرة والعفو والستر في الدنيا والآخرة نسأل الله دوام ستره والحمد لله رب العالمين.