تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضي الله عنهم مع الدنيا
تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضي الله عنهم مع الدنيا
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: “مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ”.
أيها الإخوة الكرام، نعلم جميعا أن من أخلاقه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الدنيا وقد عرضت عليه مرارا، وفتحت عليه تكرارا الزهدُ فيها، والاكتفاء منها بما يُقيم الأَوَدَ، والصبرُ على شظف العيش، والقناعة بما يصل إليه، فثبت وصح على أنه صلى الله عليه وسلم، كان ينام على حصير ليس تحته غيره، ووسادة حشوُها ليف، وكان لباسه البُرَدَ الغليظة، وطعامه التمر والشعير، يمضي الشهر والشهران لا يُوقد في بيته نار؛ وإنما يكتفون بالتمر والماء، وكثيرًا ما كان يبيت طاويًا، ويصبح صائمًا، وكان يعصب الحجر على بطنه من شدة الجوع، وحُملت إليه الأموال فلم يدَّخر منها شيئًا، بل مات ودرعُه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير، ولو أراد أن يعيش في نعيم ورغَد من العيش، لكان له ذلك، ولكنه صلى الله عليه وسلم آثر الزهد والصبر ابتغاءَ مرضاة الله تعالى.
تأملوا أيها الإخوة والأخوات فيما ورد في المتفق عليه عن أبي ذر رضي الله عنه قال:كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة، فاستقبلنا أُحُدًا، فقال: “يَا أَبَا ذَرٍّ”. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: “يَا أَبَا ذَرٍّ، أَيُّ جَبَلٍ هَذَا؟”.قلت: أُحُد، فقال: “مَا يَسُرُّنِي أَنْ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا، تَمْضَي عَلَيَّ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلاَّ شَيْئًا أَرْصُدُه لِدَيْنٍ إِلاَّ أَنْ أَقُولَ فِيهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا” عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه. فصرح النبي صلى الله عليه وسلم أن امتلاك جبل من الذهب ليس من أسباب السعادة والسرور، وأفصح أنه لا يحتاجه إلا في حالتين: الحالة الأولى: “إلا شيئًا أرصده لدين”. والحالة الثانية: “إلا أن أقول فيه في عباد الله هكذا وهكذا” عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، بمعنى يوزع من الجبل على كل الناس، عن اليمين، وعن الشمال، ومن وراء ظهره. يقول أبو ذر: ثم مشى، فقال: “إِنَّ الأَكْثَرِينَ- يعني الأكثرين في المال في دار الدنيا- هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ – يعني في الدرجة- إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا -عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه- وَقَلِيلٌ مَا هُمْ”.
نعم هكذا كان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الدنيا، وكذلكم أيها الإخوة الكرام وجدنا الصحابة رضي الله عنهم يتعاملون معها، فقد كانوا ينظرون إليها نظرة متوازنة، فهم من جانب لايعطون لها قيمة في حياتهم، يتنازلون عنها بسهولة، وببساطة شديدة، وكأنها لا تساوي درهما، ومع ذلك فهم من جانب آخر يعملون فيها بجد واجتهاد؛ يزرعون، يتاجرون، يتكسبون المال، يعمرون الأرض، فكان منهم الأغنياء الذين لا تحصى أموالهم، والملاك الذين تجاوزت أراضيهم مئات الهكتارات.
الدنيا في أعين الصحابة رضي الله عنهم لم تكن غاية، ولم تكن هدفًا، بل كانت وسيلة إلى إرضاء الله، الله أمر بإعمار الدنيا، فليكن الإعمار.. الله أمر بكفالة الأسرة والزوجة والأولاد والآباء والأمهات، فليكن العمل في الدنيا لتحصيل المال لكفاية هؤلاء.. ؛ شعارهم كان العمل في الدنيا لإرضاء الله، كسبوا الأموال لإرضاء الله، تزوجوا لإرضاء الله، أنجبوا الأولاد مرضاة لله، عملوا كل شيء في الدنيا لكي يرضوا الله تعالى.. وبذلك قد يصبح أحدهم من أغنى الأغنياء وهو يرضي الله، لكن في الوقت نفسه لا يوجد مانع أن يترك أحدهم الدنيا كلها، ويصبح أفقر مَنْ فيها؛ لكي يرضي الله تعالى.
تأملوا في تصرفهم لما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم في غزوة تبوك، في زمانٍ عانى الناس فيه من عُسرة الحال وضيقه، وشدّة الحر، وجدب الأرض، وكان عليه الصلاة والسلام قد حضّ على الصدقات بهدف تجهيز الجيش، فقدّم أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه ماله كلّه، وهو أربعة آلاف درهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل أبقيت لأهلك شيئاً؟، فقال: أبقيت لهم الله ورسوله)، وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنصف ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: (هل أبقيت لأهلك شيئاً؟، قال: نعم، مثل ما جئت به). وتصدّق عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بمئتي أوقية من الفضة إلى رسول الله. وتصدق عاصم بن عدي رضي الله عنه بسبعين وسقاً من تمر. وتصدقت الصحابيات النساء رضي الله عنهن بكل ما كان بالإمكان من مسكٍ، ومعاضد، وخلاخل. وتصدّق العباس رضي الله عنه بتسعين ألفاً… وجهّز عثمان بن عفان رضي الله عنه ثلث الجيش، ولقد كان الجيش يزيد على الثلاثين ألفاً. أسأل الله تعالى أن يوفقنا للاقتداء بأمثال هؤلاء في تعاملهم مع الدنيا، أمين أمين أمين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فياعباد الله، دعونا نطرح هذه الأسئلة، كيف فَقِهَ الصحابة هذا الفقه المستنير لحقيقة الدنيا؟ وكيف حققوا المعادلة الصعبة، بل المستحيلة في أعين الكثيرين؟ بمعنى كيف وازنوا بين العمل للدنيا والآخرة؟ أقول في الجواب كيف لايوازنوا بين نظرهم للدنيا والآخرة ومعلمهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي صحبوه وعاشوا معه، فقد كانوا ينظرون إلى الدنيا بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد الزاهدين في الدنيا، فهو صلى الله عليه وسلم زهد فيها بأقواله وأفعاله ومواقفه، وكيف لا تصغر الدنيا في أعينهم وهم يسمعونه يردد عليهم كل يوم ما يزهدهم فيها ويصغرها في أعينهم، ورد في المتفق عليه عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين؛ ليأتي بالجزية، والبحرين هي شرق الجزيرة العربية، وليست البحرين هي مملكة البحرين الآن، كان يعيش فيها مجوس، وكانوا يدفعون الجزية لرسول الله. أبو عبيدة بن الجراح ذهب إلى هناك، وأتى بالجزية، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع الأنصار رضي الله عنهم بقدوم أبو عبيدة، فحضروا في صلاة الصبح في مسجد رسول الله…، فالرسول يعرف سبب مجيئهم؛ لأنهم سمعوا أن هناك أموالاً كثيرة جاءت من البحرين، فتبسم رسول الله لما رآهم، وقال: “أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَيْءٍ”.قالوا: أجل يا رسول الله، فقال لهم الرسول في رأفة ورحمة: “فَأَبْشِرُوا، وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ”. لكن في الوقت نفسه أراد الرسول أن يعطيهم درسًا تربويًا في غاية الأهمية، فقال: “فَوَاللَّهِ لاَ الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ”
هذه هي الخلاصة أيها الإخوة الكرام، نبينا صلى الله عليه وسلم لايخشى علينا الفقر، ولكن يخشى أن تبسط علينا الدنيا، ونتنافسها فيما بيننا إلى درجة نصير فيها في غفلة مطلقة عن منهج الله تعالى ومنهج رسوله، فنضيع الآخرة حيث مقرنا الدائم الخالد ونهلك مع الهالكين، فلا ينبغي للعاقل إذن أن ينخدع بالدنيا وبمتاعها وزهرتها وزينتها ويظل أسيرا لها، بل عليه أن يشتغل بعمل الآخرة أيضا، لأن الآخرة هي دار القرار ودار النعيم ودار الخلود والحمد لله رب العالمين.
الدكتور مولاي عبد المغيث بصير، الجمعة 11 محرم 1440 هـ الموافق ل 21 شتنبر 2018 بمدينة برشيد