تعامل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم مع الدنيا
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، سبحانك اللهم ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيرا ونذيرا، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى وأحثكم على ذكره.
أما بعد فيا عباد الله، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: “وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ”، ويقول سبحانه وتعالى: “اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ”. والغرور من فعل غر، يقال غرَّ فلانٌ فلانًا؛ معناه عَرَّضه للهلكة والبوار.
أيها الإخوة الكرام، إن الوصول إلى درجة التقوى يواجه بعقبات جسيمة ومشوشات حقيقية، تتمثل أساسا في النفس والشيطان والدنيا والهوى، هذه المشوشات الأربعة التي ينبغي لكل عاقل في هذه الدار أن يكون منها على بال حتى يغادر الحياة بسلام، وسنتوقف في هذا اليوم المبارك عند أمر الغلو في حب الدنيا، حيث يعتبر من المؤثرات الأساسية التي يستخدمها الشيطانُ لإيقاع بني آدم في شَرَكه، ويحول بين الإنسان والوصول إلى درجة التقوى، فماذا يعني غلو الإنسان في حب الدنيا وانجراره وراء ملذاتها؟ وكيف تعامل قدوتنا الحبيب المصطفى مع الدنيا؟
أيها الإخوة الكرام، بداية لقد جاء ذكر الدُّنيا في القرآن العظيم في أكثر من مائة موضعٍ، وفي أغلب هذه المواضع لم تمدح الدنيا، وإنما تم التحذير منها والتقليل من شأنها، وحتى في المواضع التي ذكر أنَّ الله جل جلاله يُعطي الدنيا أو ثوابَها، فهي ليست مواضع مدح لها؛ بل هو مدحٌ لمقام إنسان كرَّمه الله جل جلاله أنْ أُعطي نصيبًا من الدنيا. ومع كل هذه التحذيرات الربانية وغيرِها من الدنيا، فإنَّ الإنسان يقع في حبائلَ كثيرة منها، بل إن الإنسان يستحبها، وليس فقط يحبها، قال تعالى: “ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ “، ومعلوم أن صيغةَ استفعل أشدُّ من صيغة أفعل، وتدلُّ على عمق المحبة وشدتِها والاجتهاد في نيلها، مما جعل الإنسان يحب الدنيا ويحب معها كلَّ إغراءاتها وشهواتها وملذاتها، وفاق حبه للدنيا حبه للنعيم المقيم في الآخرة، وهذا أمر بديهي، فمع ضعف الإيمان وغياب التقوى، يرى المرءُ نعيم الدنيا جميلاً جمالاً حقيقيًّا فيتمسك به، ويبذل الجهد لنَيله، فإنْ نالَه تمسَّك به حتى الموت، في حين يرى المؤمن أن متاع الدنيا متاع مزيَّف زائلٌ، وأنَّ النعيم الحقيقيَّ هو في الجنة بحول الله تعالى، ويتفاوت هذا الشعورُ بحسَب الإيمان؛ حيث يزداد مع ازدياده، وينقص بنقصانه؛ لأنَّ الإيمان يزيدُ وينقص كما تعلمون.. ولكن المؤمن عندما يطلب بعضَ الأمور في الدنيا، فإنما يطلبها لتكون عونا له على العمل للآخرة، وهذا تماما هو معنى قوله تعالى:” وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”.
هذا وإن غلو الإنسان في محبة الدنيا يجعله يرضى بها ويطمئن لها ويراها غايةَ مناه، ومنتهى هواه، ويبقى قلبُه متعلق بها وبأهلها، وكلَّما رأى عبدًا من عباد الله في نعمة، تمنَّى لو أنَّ له مِثلَها، ويرى أنَّ حظَّه في الدنيا أفضل منه، وأنه مُنعَّم بما لديه من الأموال والأولاد والجاه، وأنه يعيش حياةً هنيئةً رغيدةً، والأمرُ عكس ذلك تمامًا، ويتجلى حب الدنيا في قلوب العباد لدى أصحاب الأموال الذين يحبون المال حبا جما، وأنفسهم مطبوعة على الشح وخوف الفقر، فتجدهم لا يتصدقون ولا يخرجون زكاة أموالهم رغم الغنى الفاحش، وأصبحت تجد في أيامنا هذه أن أكثر من يسأل عن قضايا ودقائق تتعلق بالزكاة هم الناس البسطاء من الناحية المادية لا من يملكون الملايين والملايير. أسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظنا من فتنة الدنيا، وأن يرزقنا الكفاف والعفاف والغنى عن الناس، آمين آمين آمين أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد فيا عباد الله، روى الإمام الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وِطاءً؟ فقال ما لي وللدنيا؟، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها”.
أيها الإخوة الكرام، إن أحسن نموذج وأحسن قدوة يمكن أن نقتدي به في التعامل مع الدنيا، هو نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي خاطبه الحق سبحانه وتعالى بقوله: “ولسوف يعطيك ربك فترضى، ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى”، بعد هذا البيان الإلهي وهذا الوعد الكريم من الكريم جل جلاله، ألم يكن من الهين على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون أغنى أنسى وأرفههم وأترفهم؟، ولكن أنظروا إن أقصى ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم في طفولته أنه رعى الغنم، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم ولد يتيماً ونشأ في كفالة جده ثم عمه، ولم يرث عن أبيه شيئاً يغنيه، فلما بلغ سناً يمكن العمل فيه عادة رعى الغنم مع إخوته من الرضاعة في بني سعد، ولما رجع إلى مكة، رعاها لأهلها على قراريط كما روى ذلك الإمام البخاري، والقيراط جزء يسير من الدينار.
ولما شب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ الفتوة، أقصى ماعمله أنه مارس التجارة، فقد ورد أنه كان يتجر مع السائب بن أبي السائب، فكان خير شريك له، وكانت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها من أفضل نساء قريش شرفاً ومالاً، وكانت تعطي مالها للتجار يتجرون فيه على أجرة، فلما سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم، عرضت عليه مالها ليخرج فيه إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما أعطته غيره، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غلامها ميسرة إلى الشام، فباع وابتاع وربح ربحاً عظيماً.
بعد هذه الفترة، أي بعد نزول الوحي، طلب كفار قريش من عتبة بن ربيعة في قصة طويلة أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم في أمر هام، وذلك حين أسلم حمزة ورأى الكفار أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله فقال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، إلى آخر القصة، بالله عليكم ما الذي منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون أغنى الناس في قومه بعد هذه الحادثة؟، وما الذي منعه أن يكون ملكا عليهم؟ وما الذي منعه أن يملك الدنيا وقد عرضت عليه عرضا؟
نعم أيها الإخوة والأخوات هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الدنيا، أنظروا في هديه واقتبسوا من نوره، واعتبروا بفعله، فإنه لم يكن يأبه بها كما دلت على ذلك عدة أحاديث صحيحة، منها ماصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه ما منع سائلًا سأله أبدًا؛ بل لقد ورد في صحيح مسلم، أنَّ رجلًا جاء إلى المصطفى فسألَه، فنظر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى غنَم بين جبلين كانت له وقد امتحنه الله بالغنى كما ذكر بعض شراح الحديث، فقال: ((انظر إلى هذه الغنَم، سُقها فهي لك!))، وفي رواية: قال: ” أتهزأ بي ؟ “، قال: ” لا والله هو لك”، فساق الرجلُ الغنمَ كلَّها بين يديه، وذهب إلى قومه قائلًا: يا قوم، أسلِموا؛ فإنَّ محمدًا يعطي عطاء مَن لا يخشى الفقرَ”، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الدنيا، وهذا هو اليقين الذي ينبغي أن يكون لنا في تعاملنا مع الدنيا، أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا والحمد لله رب العالمين.