تطور فلسفة حقوق الإنسان من النظرية إلى التشريع
الأصول النظرية والفكرية لقضية حقوق الإنسان
يتميز مفهوم حقوق الإنسان بكونه من المفاهيم التي تمزج بين الطابع النظري التجريدي والطابع العملي الملموس، فهو من ناحية أولى تجسيد لتراكم نظري
تأملي استلهم أفكاره وتصوراته من حقل الفلسفة السياسية وطروحاتها ونظرياتها التي تجسد نضج الإنسان وتطور وعيه ونمو عقلانيته، وبين ما نصت عليه الأديان السماوية خاصة الديانة الإسلامية من تكريم للإنسان وإقرار بحقوقه وواجباته في مراحل مبكرة من تاريخ الحضارة الإنسانية، بينما يتسم مفهوم حقوق الإنسان من ناحية ثانية أنه ذو طابع تشريعي قانوني لما لهذه العملية من نتائج ملموسة بإخراج النظريات والأفكار من خاصيتها النظرية وأبعادها التجريدية إلى قوالب تشريعية وقواعد قانونية عامة وملزمة؛
من الضروري الإشارة إلى استلهام مفهوم حقوق الإنسان لمرتكزاته النظرية من حقل الفلسفة السياسية، نتيجة التماس بين العقل الإنساني والاجتماع الإنساني إذا ما سلمنا بأن قضية حقوق الإنسان اعتبرت مجرد فكرة دافعها إدراك لموقع الكائن البشري في العالم، ورصد لعلاقة الإنسان بخالقه ومكانته في الكون والطبيعة والمجتمع؛
فالسعي للسمو بالإنسان وحماية حقوقه الشخصية والفكرية والاجتماعية والسياسية، تطورت بحكم ما شهدته المجتمعات البشرية من تحولات تاريخية حضارية فكرية، فتطورت مجموع هذه التصورات والأفكار من فكرة الإنسان ومكانته داخل الكون والمجتمع إلى طموح لمعرفة حقوقه وواجباته كمحاور ونظريات اهتمت بها الفلسفات الوضعية والأديان السماوية بمقاربتها على مستوى النظرية(نظريات الحق الطبيعي، نظرية العقد الاجتماعي)؛
وإذا كانت المذهب اللبرالي القائم على الملكية الخاصة وحرية المبادرة قد أسهم تاريخيا وفكريا، من خلال الدفاع عن تصوراه ومصالحه قد عرف بحقوق الإنسان من خلال الاهتمام أكثر بالحقوق السياسية والمدنية، فإن المذهب الماركسي قد اكسب مفهوم حقوق الإنسان بعدا عمليا من خلال ما قامت به الإيديولوجيا الماركسية والقوى السياسية الاشتراكية خلال القرن العشرين عبر إعادة الاهتمام بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى نضال باقي الشعوب الإنسانية وسعيها العملي لنيل الحرية والحقوق من خلال الفعل الجماعي الاحتجاجي والفعل النقابي والفعل الجمعوي؛
وبالرغم من الخلافات حول مفهوم حقوق الإنسان وتباين النظر لمضامينه ومحتوياته، فإن البعد العملي لحقوق الإنسان تكرس من خلال صيغ قانونية وقوالب تشريعية كحقوق وواجبات وطنية ودولية؛
إشكالية حـقـوق الإنسان:
تضخم التعاريف وتباين المضامين وتعدد المعايير
يتسم مفهوم حقوق الإنسان بصعوبة صياغة تعريف محدد ودقيق له، أمام واقع الوجود المكثف للتعريفات، بشكل يجعل من العبث العلمي بسطها وتتبعها واستقصاءها، وهو يجعلنا نفضل اقتراح التعريف الإجرائي الآتي: فحقوق الإنسان هي مجموع الحقوق والحريات المخولة لكل فرد باعتباره كائنا إنسانيا. بغض النظر عن موطنه أو انتمائه وأصوله أو معتقداته ومرجعياته؛
إلا أن الأهم ليس الاقتصار على مسألة التعاريف ومضامينها بقدر ما يتحدد المشكل في ما تطرحه من أسئلة وإشكالات حول أسباب اختلاف نظرة الإنسان بتنوع ثقافاته والمجتمعات بتعدد مكوناتها لقضية حقوق الإنسان؟
لاشك أن النظرة الموضوعية لمفهوم حقوق الإنسان تختلف من مجتمع إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، لأن المشكل لا ينحصر تحديدا حول حقوق الإنسان وهل نقبلها أو نرفضها؟، بقدر ما يشخص المشكل في مضامين حقوق الإنسان ونوعية الحقوق التي تسعى لإقرارها وغالبا ما تكون في جزء منها خلافية (المثلية-حرية العقيدة والمعتقد)، وهي مسألة ترتبط برؤية الإنسان الفلسفية للكون، وكيفية تصوره له، طبيعة المرجعيات الإيديولوجية والأنساق الفكرية المعتمدة (اشتراكية، ليبرالية، قومية، إسلامية..)، وطبيعة الثقافة السياسية السائدة(جدلية عالمية حقوق الإنسان وخصوصية الثقافات الوطنية).
نجم عن مرحلة الحرب الباردة خلال الصراع السياسي والإيديولوجي بين المعسكر اللبرالي الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الاشتراكي الذي كان يتزعمه ما كان يسمى بالإتحاد السوفيتي، إلى بروز مفهومين لحقوق الإنسان، المفهوم اللبرالي لحقوق الإنسان الذي كان يرجح الحريات السياسية والمدنية من خلال إعطاء الأهمية للحريات الفردية كحرية الفكر والرأي والتعبير والملكية والتنقل وغيرها التي يعتبرها تكرس السيادة الشعبية، وتطور الإنسان ونضج المجتمع وتخلصه من الاستبداد والاستفراد بالقرار؛
وبالمقابل أعطى المفهوم الاشتراكي لحقوق الإنسان الأولوية للحقوق الاجتماعية والاقتصادية على حساب الحقوق السياسية والمدنية التي اعتبرها صورية وشكلية، فتم التركيز على الحريات الجماعية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهي رؤية تنهل من الرؤية الماركسية التي تعتبر أن البنيات التحتية(الاقتصاد ووسائل الإنتاج) تتحكم في البنيات الفوقية بحرياتها وحقوقها وغيرها؛
يفضي الحديث عن موضوع حقوق الإنسان لمجموعة من العوائق والصعوبات، فما هي المعايير المعتمدة لتصنيف حقوق الإنسان كآلية لاستيعابها وفهم أسباب الاختلاف حولها، وعلى العموم يجمع الباحثون على وجود عدة معايير لتصنيف حقوق الإنسان سنركز على أهمها: فهناك المعيار النظري، معيار التطور التاريخي، معيار طبيعة الحقوق وخصوصيتها؛
المعيار النظرى:
ينطلق المعيار النظري من التمييز بين صنفين من حقوق الإنسان هما: الحقوق الفردية، والحقوق الجماعية، وإذا كانت الحقوق الفردية ترتبط بالفرد كوحدة قانونية متميزة، فإن الحقوق الجماعية هي التـي ترتبط في ممارستها بمجموعة من الأشخاص، كحق التجمع وحق الإضراب وغيرها؛
معيار التطور التاريخي:
تصنف حقوق الإنسان وفقا لظهورها التاريخي أو القانوني على المستوى الوطني أو الدولي، كالحقوق المدنية والسياسية، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فنجم عن هذا التعدد في طبيعة الحقوق إلى إقرار التمييز بين الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما طرح إشكالية إلزامية هذه الحقوق من عدمها، وهناك شبه اتفاق بيم الباحثين والمتخصصين على أن الحقوق المدنية والسياسية ملزمة ولا يجوز التصرف فيها لأنها ترتبط بعلاقة الفرد والمجتمع بالدولة، أما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فتـرتبط بالإمكانيات والقدرات والموارد المتاحة لأمة من الأمم وللمجتمع الدولي بشكل عام.
وقد برزت في الآونة الأخيرة نوعية جديدة من الحقوق اصطلح على تسميتها بالحقوق الحديثة، التي تتضمن مجموعة من الحقوق التي اقتضتها إكراهات العولمة، والتعقيدات التي تشهدها المجتمعات المعاصرة وتطور وسائل الإعلام والتكنولوجيا ومخلفاتها على الإنسان مثل الحق في بيئة نظيفة، والحق في السلام.
معيار طبيعة الحقوق وخصوصيتها:
تقسم الحقوق وفقا لهذا المعيار إلى الحقوق الشخصية والحقوق الجماعية والحقوق الخاصة؛
وتتضمن الحقوق الشخصية عشرة حقوق أساسية تتجاوز الفصل بين المجالات المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وهي كالآتي: الحق في الحياة، الحق في الحرية، الحق في الكرامة، حرية الرأي والتعبير، الحق في التجمع السلمي، الحق في التقاضي، الحق في المساواة؛، الحق في العمل والملكية، الحق في التعليم والثقافة، الحق في المشاركة السياسية؛
أما الحقوق الجماعية فهي مجموع الحقوق الفردية التي تمارس في إطار جماعة، وأبرز هذه الحقوق:
حق تقرير المصير؛
وحق التنمية والسلام.
أما حقوق الفئات الخاصة: فقد نص عليها التشريع الدولي لحقوق الإنسان من خلال الإعلانات والمواثيق الخاصة التي تهتم بفئات معينة ومن هذه الفئات: حقوق الأطفال، حقوق المرأة، وحقوق الأطفال والمسنين، حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة (المعاقين).
بماذا نفسر التحول السريع لمسألة حقوق الإنسان في العالم؟
العوامل الفكرية والسياسية الدولية في التعامل مع قضية حقوق الإنسان
أفضى انهيار النموذج السوفياتي الذي كان يطمح لتحقيق التنمية والإقلاع الاقتصادي لصالح الجماهير وتعبئتها في إطار الحزب الوحيد، إلى جانب انحراف هذا النموذج في براثن البيروقراطية الإدارية والحزبية، وافتقاده للديمقراطية والحكامة والمساءلة مما أثر على الدول التي كانت تقتدي به وتعتبره نموذجا مرجعيا، فكان من نتائج هذا الانهيار سقوط الأطروحات التي كانت تطالب بتأجيل الديمقراطية وحقوق الإنسان على حساب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (1)
وهناك عامل آخر ساهم في الإضرار بالديمقراطية وحقوق الإنسان وهو التدخل الغربي بصورة متواصلة ضد إرادة الشعبية ودعم مجموعة من الأنظمة الاستبدادية في ما يسمى بدول العالم الثالث، إن التعامل البراغماتي مع مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان من لدن القوى الغربية، يطرح سؤال إشكالي يتحدد في علاقة المبادئ السامية والقيم الأخلاقية في علاقتها مع المصالح المتنازع عليها والغنائم المادية التي يتم الحصول عليها؛
لقد سقطت السياسات الغربية في منزلق الانتقائية السياسية عبر ترجيح كفة المصالح المادية والسياسية على حساب المبادئ والمثل لأخلاقية من خلال دعم الكثير من الأنظمة التسلطية والتغاضي عن خرقها السافر لحقوق الإنسان وهو ما أثر سلبا على سرعة انتشار هذه الحقوق كقيم حضارية كونية سامية تعكس تطور الإنسان ونبله؛
فهل لازالت السياسات الغربية في تعاملها مع مسألة حقوق الإنسان ساقطة في مأزق ازدواجية المعايير، فهي مع حقوق الإنسان مادم ذلك يخدم أهدافها ومصالحها، وهي ضد حقوق الإنسان ما دام ذلك يتعارض مع سياساتها ويناقض مصالحها؟ أم أن السياسات الغربية قد تغيرت تغيرا جذريا في علاقتها مع إشكالية حقوق الإنسان؟
من المؤكد تعدد عوامل تطور الديمقراطية وحقوق الإنسان التي سنشير إلى أهمها، لقد أضحت قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان مبدأ مجمع حوله وضرورة خلال المجتمعات الحديثة، خاصة بعد نهاية الحرب الباردة وبروز أحادية قطبية بقيادة الولايات المتحدة؛
وهناك عامل تطور وسائل الإعلام ونمو القنوات التلفزية وتطور استعمال الأنتريت والهاتف النقال وغيره من وسائل التواصل الحديثة التي سهلت من مستويات انتشار المعلومة وتصويرها وسرعة بثها؛
إلى جانب دور الصحافة في التعريف بأهمية حقوق الإنسان والتأكيد عليها عبر فضح الانتهاكات والخروقات التي تواجه الإنسان؛
ودون إهمال عنصر الدور المتنامي للمنظمات الدولية غير الحكومية المدافعة عن حقوق الإنسان والديمقراطية كمنظمة العفو الدولية ويومان رايت وتش، وغيرها، إلى جانب الدور المتنامي لمنظمات المجتمع المدني؛
إلا أن أبرز التحولات التي شهدتها قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان تمثلت في تشكل وعي في البلدان الغربية مند نهاية التسعينات بفشل الاستراتيجيات التي كانت تحافظ على مصالح الغرب عبر دعم الأنظمة الاستبدادية، فالسير في هذا المنحى يكرس نوعا من المخاطرة، فغدا دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان أفضل وسيلة للحفاظ على مصالح الدول الغربية وهو تحول جديد؛
إلى جانب بروز مؤسسات دولية من قبيل المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان ومحكمة الجنايات الدولية تقوم بدور الرادع والمحاسب لانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان محاربة جرائم الإبادة الجماعية والتصفيات العرقية التي شهدتها العديد من البلدان،
وبعيدا عن التعريفات النظرية للديمقراطية من قبيل أنها حكم الشعب للشعب أو أنها تعبير عن الإرادة العامة وغيرها، فهناك شبه إجماع على أن الديمقراطية هي الإطار السلمي لحل الصراعات داخل المجتمع وترتيب العلاقات فيه لصالح تقدم الأمة وتمتع المواطن بحقوقه كاملة(2)، وهو ما يؤكد على أولوية حقوق الإنسان في علاقاتها بالديمقراطية؛
الديمقراطية وحقوق الإنسان
ترتبط دولة الحق والقانون بالديمقراطية وحقوق الإنسان ارتباطا جوهريا، بل إنها أدخلت على الحياة السياسية مبدأ معنويا وهو الملاذ الذي يحتاج إليه من لا يمارسون السلطة في الحياة المجتمعية،(3)
«إن الحياة السياسية مجبولة على هذا التضاد القائم بين قرارات سياسية وقانونية تعزز أوضاع الجماعات المسيطرة، وبين اللجوء إلى أخلاقيات مجتمعية تدافع عن مصالح المغلوبين على أمرهم وعن الأقليات»(4)
فلا يمكن تعريف حقوق الإنسان دون الحديث عن «فكرة الإنسان»، إن تأسيس مفهوم حقوق الإنسان يعد ورشا مهما قصد عرضه على الفكر المعاصر،(5) إن نفس التعقيد الذي يعرفه المفهوم ينطبق من جهة أخرى على أصول مفهوم حقوق الإنسان الذي لا ينطلق حتى في المجتمعات الغربية من نموذج وحيد، وهو ما يعكس بجلاء تباين تصورات المجتمعات وتعددها لقضية حقوق الإنسان؛
لقد واجه محرري مختلف إعلانات حقوق الإنسان في سعيهم للتوفيق بين مختلف الوضعيات السياسية والاجتماعية الخاصة، لمواجهة بعض الاشكالات التي لم يتمكنوا من حلها من قبيل الحق في الخروج على الحاكم(6) désobéissance والدعوة إلى الثورة على المستبدين؛
وتتميز أغلبية النصوص المصوت عليها داخل الهيئات الدولية بشكليتها من الناحية القانونية، فهي لا تعدو أن تكون مجرد «توصيات» تفتقد للطابع الإلزامي فتفرض على الحكومات دون أية مسؤولية قانونية، إن ما تتضمنه عبارة عن مسؤولية أخلاقية، تبقى بعيدة عن المنطق المحركة للدول وهو المصالح والبراغماتية، ليبقى الفراغ الذي غالبا ما يتم ملؤه من لدن المنظمات الإنسانية الغير حكومية التي تقوم بتحسيس الرأي العام الدولي بخطورة الوضع، (7)
كما يطرح أيضا قضية التسييس المتنامي لقضية حقوق الإنسان باسم مصالح غالبا ما تكون خفية غير واضحة، مما يطرح إشكالية التوظيف المزدوج من طرف العديد من الدول لمسالة حقوق الإنسان بشكل يبرزهم كمنافقين؛(8)
حقوق الإنسان والحريات العامة: حدود العلاقة بين المفهومين.
ومن بين الأخطاء الشائعة في موضوع حقوق الإنسان خلط الكثيرين بين مفهوم حقوق الإنسان، ومفهوم الحريات العامة، فما هي حدود العلاقة بين المفهومين؟ ولماذا أضحى مفهوم حقوق الإنسان أكثر تداولا وانتشارا من مفهوم الحريات العامة ؟
لقد شهدت المجتمعات البشرية تحولات تاريخية وسياسية واجتماعية على مستوى حقوق الإنسان، وتجمع الدراسات التاريخية والحقوقية والسياسية أن التجربة البريطانية كان لها السبق في إصدار وثيقة تاريخية سميت الماكنا كارتا Magna Carta 1215 أو الميثاق الأعظم، التي اعترفت لأول مرة مجموعة من الحقوق كإلغاء الضرائب الاستثانية فأقرت بحرية التجارة وأشارت إلى حقوق الأفراد كمنع إلقاء القبض عليهم إلا بموجب القانون وحرية التجول وغيرها. تلا الماكنا كارتا وثائق تاريخية أخرى كملتمس الحقوق 1628 وقانون الهابياس كوربوس 1679 وقانون الحقوق 1689، بينما تميزت التجربة الأمريكية بإصدار كإعلان فرجينيا للحقوق سنة 1776 الذي أقر الحقوق العالمية غير أنه استثنى قضية الرقيق ومجموعات أخرى من التمتع بهذه الحقوق، وصولا لإعلان حقوق الإنسان والمواطن 1789 مباشرة بعد الثورة الفرنسية؛
ومع بداية القرن العشرين الميلادي شكلت سنة 1919 منظمة العمل الدولية التي ظلت تسعى لإقرار الحقوق الأساسية في جميع أنحاء العالم.
وقد نجم عن النتائج الكارثية الحرب العالمية الثانية ومخلفاتها (1939 – 1945 م) إلى نشأة وعي بضروة الاهتمام بالإنسان وحقوقه . فأحدثت الدول المستقلة منظمة الأمم المتحدة. وأصدرت هذه المنظمة ميثاقها الذي أصبح واحداً من أولى وثائق حقوق الإنسان العالمية. وتكريس احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للبشرية دون تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، فأصدرت الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948 م، الذي تضمن المبادئ الرئيسية للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحريات الفردية.
لا شك أن من نتائج الاهتمام بمجال حقوق الإنسان الإقبال المكثف على هذا المفهوم وكثرة استعماله إلى نشأة منظمات مدنية غير حكومية للدفاع عن حقوق الإنسان، إلى جانب محاولات للمواكبة العلمية للمفهوم سعت إلى الانتقال من حقوق الإنسان كموضوع للجدل والمحاججة كقضية حقوقية وسياسية إلى اعتباره علما مستقلا موضوعه هو الكرامة الإنسانية حسب رينيه كاسان (من مؤسسي المعهد الدولي لحقوق الإنسان بستراسبورغ) الذي عرف حقوق الإنسان هي «فرع خاص من الفروع الاجتماعية يختص بدراسة العلاقات بين الناس استناداً إلى كرامة الإنسان وتحديد الحقوق والرخص الضرورية لازدهار شخصية كل كائن إنساني»(9).
وإذا كانت أصول حقوق الإنسان تستمد مرجعياتها من القانون الطبيعي (10) الذي يكفل للإنسان حقوقا تلازم شخصيته فهي مرتبطة به وبدونها يفقد الفرد صفته كإنسان، فحقوق الإنسان ترتبط بالفرد أينما حل وارتحل وليس بالدولة التي يقيم بها، بينما برزت وجهة نظر أخرى ترى أن الأديان السماوية وخاصة الدين الإسلامي يقر بمسألة حقوق الإنسان وحريته معتبرة أن سعي المدرسة الطبيعية لاحتكار قضية حقوق الإنسان تحكمها خلفيات استشراقية؛
أما الحريات العامة فتعرف كمجموعة من الحقوق والإمكانات المعطاة للفرد وهي حريات تظهر بصفة الجمع وهي عامة لأنها تفترض تدخل السلطة العامة، دلالةً على دور الدولة في الإقرار والاعتراف بحريات وحقوق الأفراد وتنظيمها وضمانها بموجب قواعد قانونية.
فماذا عن طبيعة الاختلاف بين مفهومي حقوق الإنسان والحريات العامة؟
تعد حقوق الإنسان مجموعة حقوق طبيعية جُبِل عليها الإنسان وهي لصيقة به بموجب القانون الطبيعي والشرائع السماوية، وتظل موجودة حتى إذا لم يتم الاعتراف بها من لدن أنظمة الحكم الشمولية؛
أما الحريات العامة فهي تنتمي إلى القانون الوضعي، الذي أقرته الدول داخل مجتمعاتها كآلية لتنظيم العلاقة بين الفرد والمجتمع؛
أما مجال حقوق الإنسان فيرتبط بالفرد وسعيه لممارسة حريته داخل المجتمع، في حين أن مجال الحريات العامة هو الفضاء العمومي الذي يندرج ضمن حيز الدولة والسلطة وفي علاقتها بالأفراد؛
على المستوى القانوني إذا كان مجال حقوق الإنسان هو دراسة العلاقات التي تخدم هذه الحقوق، فإن الحريات العامة تحددها الدولة بموجب نصوص تشريعية وقانونية وتحميها بموجب هذه النصوص القانونية، فالعلاقة بين الحريات العامة والدولة وطيدة حيث يستحيل الحديث عن الحريات العامة إلاّ في إطار نظام قانوني محدد؛
أما على مستوى مضامين حقوق الإنسان والحريات العامة ومحتوياتهما فتحتوي على مجموعة محددة من الحريات كحق التجمع وتأسيس الجمعيات والأحزاب وحق الإضراب وغيرها التي يعترف بها القانون ويضمنها في ترسانة تشريعية وقانونية، أما مفهوم حقوق الإنسان فهو يتعدى هذا الإطار الضيق ليلامس كل ما تحتاجه الطبيعة الإنسانية أو البشرية كحرية الرأي والتعبير وحق الملكية وحرية التجول، فهي حقوق تتساوى فيها البشرية قاطبة دون تمييز في اللون أو الجنس أو الأصل أو البلد، وهو ما يؤكد الطابع التكاملي لحقوق الإنسان؛
كما أن طبيعة الاختلاف بين المفهومين يمتد إلى ما يرتبانه على عاتق السلطة، فبينما تعتبر الحريات العامة بمثابة إمكانية اختيار مرتبطة بالإنسان الفرد، إذ يمكن أن يستفيد منها بمعزل عن السلطة، فهي متعلقة بالشخص وإمكاناته وقناعاته الفكرية والسياسية، بينما حقوق الإنسان لا يمكن تأمينها والاستفادة منها إلاّ عن طريق السلطة وما تنشئه من مرافق عامة كالضمان الاجتماعي، المؤسسات الصحية والتعليمية والثقافية…
غير أن هناك وجهة نظر تعتبر التمييز بين المفهومين تقني صرف فالحريات العامة كمصطلح يستعمل داخل الدولة على مجموع الإمكانيات التي يتمتع بها الفرد أو المواطن سواء كانت حقوق أو حريات، بينما يحتفظ بتعبير حقوق الإنسان للدالة على اهتمام المجتمع الدولي في إطار هذا الموضوع .
حقوق الإنسان ثقافة أم إيديولوجيا؟
سننطلق من الإشكال الآتي: هل يمكن اعتبار قضية حقوق الإنسان إيديولوجيا وشعار سياسي أم أنها ثقافة مجتمعية متجذرة؟
الإيديولوجيا هي نسق من التمثلات (صور وأساطير وأفكار وتصورات) التي تتميز عن العلم عن طريق وظيفتها العملية الاجتماعية،(11) وبذلك يقصد بإيديولوجيا حقوق الإنسان تبني خيار الدفاع عن الإنسان وحقه في الحياة والحرية والرأي والتعبير وغيرها من الحقوق كشعار إيديولوجي لحظي بغية تحقيق أهداف سياسية معينة ظرفية وراهنة، حالما تتحقق يغدو موضوع حقوق الإنسان موضوع ثانوي مقابل بروز أهداف سياسية أخرى مستجدة، ومن ثمة فإيديولوجيا حقوق الإنسان هي مناورات وشعارات تستعمل في ميدان المنافسة السياسية والصراع الاجتماعي، بينما يقصد بثقافة حقوق الإنسان الدفاع عن أفكار ومرجعيات استطاعت عبر التاريخ ونتيجة التطور الفكري والسياسي أن تترسخ في وعي الإنسان وفكره وسلوكه،(12) وأن تتجذر اجتماعيا وثقافيا وتضحي مسألة تتسم بالبداهة والثبات و تحظى بإجماع مختلف الأطراف السياسية الاجتماعية بغض النظر عن اختلاف مرجعياتهم أو مشاريعهم.؛
فتصبح النتيجة أن الظرفي هو السياسة وتقلباتها وصراعاتها ومصالحها المرتقبة، أما الأساس الذي تبنى عليه السياسات العمومية فهو حقوق الإنسان كثقافة وتجذرة تعكس الوعي التاريخي للمجتمع والنضج السياسي لأفراده.
بماذا نفسر الانتشار الواسع لقضية حقوق الإنسان في المغرب بعد مرحلة التسعينات؟
أفضى انهيار جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي سابقا(1989) وباقي الأنظمة الشيوعية إلى تراجع الإيديولوجية الماركسية والمد الاشتراكي، وزوال الثنائية القطبية لصالح ظهور أحادية قطبية بقيادة الولايات المتحدة، وهو ما قلص من امتدادات المفهوم الاشتراكي للديمقراطية وحقوق الإنسان وتراجعه نتيجة إخفاق التجربة الشيوعية والاشتراكية، وبالمقابل تمدد المفهوم الغربي للديمقراطية التي أضحى نظاما يحظى بالإجماع؛
انفتاح النظام السياسي بالمغرب على المعارضة السياسية اليسارية نتيجة التحولات الداخلية بحكم تنامي الدور الذي يقوم به المجتمع المدني،(13) وارتفاع مستوى الوعي والتعليم، واتساع عدد السكان داخل المدن وغيرها، إلى جانب عامل الضغوطات الخارجية(صندوق النقد الدولي والمنظمات الحقوق الدولية)؛
دخول المغرب في سياق ترتيبات ما سمي بالتناوب التوافقي بعد انفتاح المؤسسة الملكية على المعارضة اليسارية التاريخية مند سنة 1995 تلاه إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وديوان المظالم(الوسيط حاليا) وهيئة الإنصاف والمصالحة؛
طلب الاتحاد الأوربي لضرورة احترام حقوق الإنسان مند مؤتمر لابور حول الفرونكونية كمعيار لتقديم المساعدات المالية الأوربية(14) التي تمنح للدول بغية استثمارها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما جعل من احترام الأنظمة السلطوية لحقوق الإنسان يعد معيار لمدى لاستحقاقها لهذه المساعدات الخارجية؛(15)
إدخال الالتزام الدولة المغربية بحقوق الإنسان في دساتير 1992 و1996 و2011. وذلك إثر تأثر المغرب بالموجة العالمية الداعية لاحترام حقوق الإنسان وعبرها نلمس التحول الجذري للدولة المغربية في التعامل مع هذه القضية؛(16) كان آخرها إقرار المغرب بعدم محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية.
——–
هوامش:
1- د. محمد عابد الجابري: “الديمقراطية وحقوق الإنسان”، سلسلة الثقافة القومية (26)، قضايا الفكر العربي (2)، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، بيروت/لبنان، أكتوبر 2004، ص 90-91.
2- د. محمد عابد الجابري: “الديمقراطية وحقوق الإنسان”، مرجع سابق، ص 133-134.
3- ألان تورين: “ما هي الديمقراطية؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية”، ترجمة حسن قبيسي، دار الساقي، بيروت/لبنان، الطبعة الثانية 2001، ص 33.
4- ألان تورين: “ما هي الديمقراطية؟ حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية”، مرجع سابق، ص34.
5- Albert Gaillard: Discours et réalités des droits de l’homme, in : Autre temps, Les cahiers du christianisme social, N 11 ;1986,pp 40..
6- Albert Gaillard: Discours et réalités des droits de l’homme, op, cité, p 42.
7- Albert Gaillard: Discours et réalités des droits de l’homme, op, cité, p 43.
8- Albert Gaillard: Discours et réalités des droits de l’homme, op, cité, p 43.
9- حقوق الإنسان: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
10- نشأت نظرية القانون الطبيعي من لدن العديد من الفلاسفة والمفكرين من قبيل توماس هوبس وجون لوك، وترتكز هذه المدرسة على وجود قوانين طبيعية تعتبر أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وأن القوانين الطبيعية سبقت قيام الدولة ونشأتها ويجب على السلطة السياسية احترامها؛
11- Raymond Boudon :” L’idéologie ou l’origine des idées reçues”. Idées Forces, FAYARD, 1986 P.31.
12- محمد عابد الجابري: مواقف إضاءات وشهادات، الأساس العلمي لعالمية حقوق الإنسان، العدد 38، ص33-34.
13- د.علي كريمي: “حقوق الإنسان والحريات العامة بالمغرب”، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة “أعمال ومؤلفات”، العدد 46، ص 73.
14- د.علي كريمي: “حقوق الإنسان والحريات العامة بالمغرب”، مرجع سابق، 74.
15- د. عمر بندورو: “مدخل إلى دراسة حقوق الانسان والحريات العامة”، 1993.
16- د.علي كريمي: “حقوق الإنسان والحريات العامة بالمغرب”، مرجع سابق، ص 75.