تجليات الحضور الإيجابي لصوفية الهند في مجتمعهم عبر التاريخ
التصوف منهج خاص مستمد من القرآن والسنة يسلكه العبد لمعرفة الله والوصول إليه، وهو تحقيق لنظرية الإحسان الذي هو “أن تعبد الله كأنك تراه وإن لم تكن تراه فإنه يراك”. كما أن علمي الفقه والعقيدة يتعلقان بالإسلام والإيمان على التوالي.
انتشرت حركة التصوف في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري حتى تطورت إلى طرق متنوعة معروفة باسم الطرق الصوفية في القرون التالية، وكان للصوفيين دور كبير في تزكية النفوس ونشر الإسلام وتبليغ رسالته في مختلف أصقاع العالم كما أنهم قاموا بمساهمة ناجحة في مقاومة حركة التبشير المسيحي وخاصة في بعض البلاد البعيدة مثل المغرب الأقصى وماليزيا وإندونيسيا وشبه القارة الهندية.
الحركة الصوفية نالت قبولا فائقا في شبه القارة الهندية لأوضاعها الخاصة آنذاك، كانت الهند في زمن الفتوحات الإسلامية الأولى في شمال الهند مسرح الأفكار الفلسفية البراهمية والبوذية السائدة في ذالك العصر. ولم يكن الزهد والرياضات والممارسات الروحانية الأخرى لتزكية النفوس وقمع الشهوات أمرا غريبا للمجتمع الهندي. فكانت مبادئ الصوفية أقرب إلى قلوب الجماهير من أي بلد أو دولة أخرى، ورغم هذه الحقائق كلها إن الصوفية في الهند استطاعت أن تحافظ على هويتها الخالصة وأن تبتعد كل الابتعاد عن التلوث بمبادئ الوثنية الشنيعة وخرافات الفلسفيين من الديانات الأخرى، وانتشرت الطرق الصوفية فيها انتشارا واسعا وأقبلت عليها جماهيرالناس، ثم نبعت من هذه الطرق والسلاسل فروع هندية الأصل، واتخذت شكل طرق مستقلة بذاتها، مثل الطريقة الفردوسية والمدارية والقلندرية والشطارية والمجددية، وهي سلاسل نشأت في الهند، وانتشرت بعد ذلك إلى بلاد أخرى.
وقد استفاد عدد كبير من أهل الحجاز ورجال العالم الإسلامي والعربي من الشيخ علي المتقي صاحب “كنـز العمال” في القرن العاشر، ومن الشيخ تاج الدين السنبهلي والشيخ آدم البنوري في القرن الحادي عشر بعد ما هاجروا إلى الحجاز واستوطنوه. وقد أصبحت الهند في مقدمة الحركة الصوفية منذ بداية القرن الحادي عشر، وزعيمها إذ ذاك الشيخ أحمد السرهندي ونجله وخليفته العظيم محمد معصوم اللذان استفاد منهما العالم مدة طويلة من الزمن، وكان خلفاء الشيخ محمد معصوم منتشرين في أفغانستان وإيران وتركستان، وكان الناس يشدون الرحال إلى زاوية الشيخ غلام علي الدهلوي من بلاد بعيدة مثل العراق والشام ومصر والصين والحبشة وبخارى وسمرقند، وانتشرت هذه الطريقة بواسطة خليفته خالد الشهرزوري في العراق وتركستان والشام وتركيا، ولا تزل باقية فيها.
والطرق القادرية والجشتية والنقشبندية والسهروردية هي أكثر شيوعا ورواجا في المجتمع الهندي. وكانت لهذه الطرق الصوفية الأربعة على وجه الخصوص دور بارز في تزكية آلاف مؤلفة من جماهير الشعب الهندي حتى أصبحت خطوة متميزة جديدة في عملية الدعوة الإسلامية في شبه القارة الهندية.
الطريقة الجشتية
الطريقة الجشتية نجدها أكثر شيوعا حتى في القرى الصغيرة من شبه القارة، ومؤسسها هو الشيخ أحمد أبدال الجشتي. وقدمها للهند مريده العارف الشهير الشيخ معين الدين الجشتي الذي ولد في أفغانستان عام 1142م وقدم إلى الهند مع السلطان شهاب الدين الغوري عام 1192م وأقام في أجمير وتوفي فيها، خلفه على الطريقة خواجه قطب الدين بختيار الكعكي ثم بابا فريد سكر كنج، وكان لفريد خليفتان أحدهما علي أحمد صابر وأتباعه يعرفون باسم “الجشتيين الصابريين”، والآخر هو الشيخ نظام الدين، ويسمى أتباعه باسم ” النظاميين” ومنهم نصير الدين محمود بن يحيى يزدي اودهي، الملقب ب”جراغ دهلي”، أي نور دهلي، وكان من أبرز مريدي الشيخ نظام الدين. ومن شعائر الدخول في الطريقة أن المريد يصلي أولا ركعتين، ثم تؤخذ عليه التوبة، ويلقن معاني كلمات مثل الفقر والقناعة والرياضة، ويكشف له عن اسم من أسماء الله. ثم يحرم عليه من بعد ذلك تعاطي المسكرات أو المخدرات. خلع الشيخ نظام الدين على الشيخ جراغ دهلي الخرقة الصوفية، وكان نهج جراغ دهلي الفقر والتسليم لله والرضا بأمره، وقيل إنه بقي عازبا طول حياته. وانتشرت هذه الطريقة بأيدي المشائخ المستخلفين في سلسلتها كابرا عن كابر حتى اتسعت إلى أنحاء الهند مع زمن السلطان محمد بن تغلق.
الطريقة السهروردية
الطريقة السهروردية أيضا لعبت دورا هاما في عملية التزكية في الهند ونشر قيم الصوفية في مختلف أنحائها. ويعود فضل تأسيسها إلى الصوفي الشهير ضياء الدين أبي النجيب السهروردي الذي تنتهي سلسلته إلى سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بواسطة الشيخ جنيد البغدادي والإمام الغزالي رحمهما الله، ولكنها اشتهرت وانتشرت في آفاق العالم بيد ابن عمه شهاب الدين عمر أبي حفص السهروردي المتوفى سنة 632 هـ. ولذلك يعتبر هو المؤسس الحقيقي لهذه الطريقة.
كان الشيخ شهاب الدين شيخ وقته في علم الحقيقة، وانتهت إليه الرياسة في تربية المريدين، ودعاء الخلق إلى الله، والتسليك. صحب عمه وسلك طريق الرياضات والمجاهدات، وقرأ الفقه والخلاف والعربية، وسمع ثم لازم الخلوة والذكر والصوم إلى أن خطر له عند علو سنه أن يظهر للناس ويتكلم، فعقد مجلس الوعظ بمدرسة عمه، فكان يحضر عنده خلق عظيم، وظهر له القبول من الخاص والعام واشتهر اسمه، وقصد من الأقطار، وظهرت بركات أنفاسه على خلق من العصاة فتابوا، ووصل به خلق إلى الله، وصار أصحابه كالنجوم، ونفذ رسولا إلى الشام مرات، وإلى السلطان خوارزم شاه، ورأى من الجاه والحرمة ما لم يره أحد. أقام في بغداد وبنى له الخليفة العباسي الناصر لدين الله رباطا، وعينه شيخ الشيوخ في بغداد، وكان للشيخ معه علاقة وطيدة، مع أنه كان تام المروءة، كبير النفس، ليس للمال عنده قدر ; لقد حصل له ألوف كثيرة، فلم يدخر شيئا، ومات ولم يخلف كفنا .
واستخلف ابنه عماد الدين في بغداد وأرسل خلفائه الآخرين إلى مختلف أنحاء العالم. وكذلك بعث الشيخ ثلاثة من خلفائه إلى مناطق مختلفة من الهند. فأرسل حميد الدين الناغوري إلى دلهي، وأرسل أبا القاسم جلال الدين التبريزي إلى بنغال، والشيخ شهاب الدين زكريا إلى ملتان.
وكان الشيخ بهاء الدين زكريا الملتاني أكثر نجاحا وشهرة من الخلفاء الآخرين الذين قدموا إلى الهند لأجل الدعوة إلى الطريقة السهروردية. وكان بينه وبين السلطان شمس الدين إلتمش علاقة قوية، وعينه السلطان شيخ الإسلام في مملكته بعد فتح ملتان. وعند الاحتلال المنغولي لدلهي كان هو القائم بالدور الإصلاحي بين الجانبين .
وبعد وفاة الشيخ بهاء الدين زكريا خلفه ابنه الشيخ صدر الدين عارف. وكان تلميذه أمير حسين صاحب “زاد المسافرين” ومؤلفات أخرى أثْرت المكتبة الصوفية، وخاصة حول قضية وحدة الوجود. والشيخ ركن الدين نجل الشيخ أمير حسين وخليفته من بعده كان شخصية محترمة لدى الخاصة والعامة. وكانت له مكانة موقرة عند سلاطين دلهي من علاء الدين الخلجي إلى محمد بن تغلق.
ضعفت الطريقة السهروردية في ملتان بعد وفاة الشيخ ركن الدين. ولكنها نالت شعبية وقبولا في الولايات الأخرى مثل بنجاب وغجرات وكشمير وحتى في دلهي. ويعتبر الشيخ السيد جلال الدين البخاري كمجدد للطريقة السهروردية في الهند حيث قاوم التلوثات الهندوسية في حياة المسلمين وعقائدهم وعاداتهم.
الطريقة النقشبندية
تنتسب هذه الطريقة إلى محمد بهاء الدين شاه نقشبند. واشتق اسمها منه، ومن ثم عرفت به. ولد في قرية بخارى سنة 717هـ. يقول أصحاب الطريقة النقشبندية إن طريقتهم كانت تسمى “الصديقية” نسبة إلى أبي بكر الصديق. وتنتشر الطريقة النقشبندية في جميع أنحاء العالم خصوصأ في بلاد القوقاز وبخارى وسمرقند وتركمان في الاتحاد السوفياتي سابقا وفي شبه القارة الهندية. وتجمع الطريقة ما بين العلم الشرعي وأصوله من الكتاب والسنة النبوية والآداب للسلوك التعبدي للزاهدين مطبقين القاعدة التي تحث على التقرب إلى الله والوصول لحبه المطلق في جواب جبريل عليه السلام لسؤال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.
وتنتشر الطريقة في معظم البلاد العربية خصوصا في العراق وبلاد الشام، وإن من مشايخها من حمل لقب نقشبندي، ومنهم من لم يحمل ذلك اللقب. والأصل في اسم نقشبند ينقسم إلى قسمين نقش وبند، والمقصود بها أن لفظ الجلالة الله قد حفر في القلب لكثرة الذكر من شيخها محمد بهاء الدين وفي اللغة الخاصة بمنطقة الشيخ محمد بهاء الدين البخارية أو ككلمة اوزبكية (نقش_بند)، أي بمعنى أن يكون الله منقوشا على قلب المؤمن، ولا تؤثر عليه العوامل الدنيوية .
وقدمها للهند محمد الباقي بالله المدفون بدلهي. ولد قدس الله سره فى نواحي مدينة كابل، ونشأ بها، ثم جدَّ فى تلقي العلوم عن سادات العصر وفضلاء كل مِصر والأخذ عن العارفين والاستفاضة من قلوب الأولياء وروحانية المرشدين حتى صار في المعقول بحراً وفي المنقول حبراً وفى كل فضيلة فرداً ولم يأل فى السياحة جهداً إلى أن وصل إلى مدينة سمرقند واتصل بحضرة السيد محمد الخواجكي الأمكنكي قدس الله سره، فتلقى منه طريق حضرة النقشبند، فرقي فى أقرب أوقاته إلى أعلى درجاته. وكان تُرَبِّيه روحانية غوث الأبرار سيدنا الشيخ عبيد الله الأحرار قدس الله سره وشرف فى الملا الأعلى قدره.
ثم أجاز له تربية المريدين وإرشاد المسترشدين، وأمره بالعودة إلى الهند، وبشره بتربية شمس سرهند، أعني الإمام الرباني الشيخ أحمد السرهندي، فرجع إليها، وتوطن مدينة دهلي، فملأها بالإيمان والعرفان، والأسرار والأنوار، والإمداد والإرشاد، وما انتشرت فى جميع الأقطار الهندية عوارف معارف الطريقة النقشنبدية إلا من أرج رياض فضله، إذ ما كانوا يعرفونها من قبله، فأقبلت إليه الأمم بما جذبهم به من علو الهمم وقوة التصرفات الإلهية والخصائص المحمدية حتى صار كل من يقع بصره الشريف عليه أو يحضر مجلس ذكره أو يجلس بين يديه يحصل له الغيبة والفناء من أول وهلة.
وأتاه الإمام السرهندي لما زار دلهي. وكان هذا اللقاء تحقيقا لما بشره شيخه حينما بعثه إلى الهند. ولما دخل عليه فرح به أشد الفرح وأبدى رغبته في إقامته عنده، وكان ذلك كله على خلاف ما عهد به الشيخ عبد الباقي من قبل، لأنه ما كان من رأيه أن يبالغ في إكرام أحد كما فعل بالإمام السرهندي. ولا يختلف اثنان فيما تفرس به الإمام عبد الباقي في الإمام السرهندي التقدم والرقي لطريقته النقشبندية بواسطة ما سيقوم به من دعوة روحانية وإصلاحات شاملة بها يطير صيتها في الآفاق ويعبر حدود الأزمان.
وأقام عنده مدة، واستفاد منه كثيرا، حتى وثقت الصلة بين الشيخ والمريد، وتمت المبايعة على الطريقة النقشبندية، ورجع إلى سرهند. وزار شيخه مرارا بعد ذلك، إلا أنه في آخر زياراته مشى معه عند رجوعه، وبشره بنعم كثيرة، وجعله رأس الحلقة والإرشاد، وأوصى مريديه باتباع الإمام السرهندي .
وتصديقا لبشارة الشيخ شهدت الطريقة النقشبندية ترقيا كبيرا على يديه حيث عرفت بعده بالطريقة النقشبندية المجددية حيث كان يلقب بمجدد الألف الثاني .
الطريقة القادرية
الطريقة القادرية هي إحدى الطرق الصوفية التي تنتسب إلى الشيخ عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله الجيلي الحسني، ولد بجيلان سنة470 هـ، وقدم بغداد وتفقه على مشايخها. جلس للوعظ، وحصل له القبول عند الناس، واعتقدوا ديانته وصلاحه، وانتفعوا بكلامه ووعظه. اشتهر عن الشيخ عبد القادر ما يدل على فقهه وعلمه. وظهرت على يديه الكثير من الكرامات، وتاب وأسلم على يديه العديد من الناس. توفي سنة 561 هـ وعمره 90 عاماً .
لقد أسس الإمام الجيلاني طريقته وفق الكتاب والسنة، ووضع لها ضوابط شرعية، حتى لا يكثر الشطط والنقصان، والتغيير والابتداع، ويدعي المشيخة من يقدر ومن لا يقدر، ومن يعلم ومن لا يعلم. فوضع الشيخ ضوابط وشروطا ينبغي أن تتوفر في الشيخ المرشد الذي يتصدر للإرشاد. وهذه الشروط هي:
إذا لم يكن للشيخ خمس فوائد وإلا فدجال يقود إلى جهل
عليم بأحكام الشريعة ظاهرا ويبحث عن علم الحقيقة عن أصل
ويظهر للورّاد بالبشر والقرى ويخضع للمسكين بالقول والفعل
فهذا هو الشيخ المعظم قدره عليم بأحكام الحرام من الحل
يهذب طلاب الطريق ونفسه مهذبة من قبل ذو كرم كلي
لقد بين الشيخ في هذه الأبيات بعض شروط الشيخ المربي وهي خمس. فإن لم تتوفر فيه فليس لديه الأهلية للإرشاد وهذه الشروط هي :
أن يكون عالماً بأحكام الشريعة والدين، عالما بالحلال والحرام، عالما بحدود الشرع، عالما بالسنة النبوية، عالما بما علم من الدين بالضرورة. وهذا معنى قول الشيخ (عليم بأحكام الشريعة ظاهراً)
أن يكون عالماً بعلم الحقيقة والطريقة، وعالما بأحوال القلوب والنفوس وطرق تزكيتها، وخبيرا بأحوال السالكين وتدرجهم في الطريق إلى الله، ويكون قد أخذ هذا العلم من شيخ مرشد كامل عبر سند متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا معنى قول الشيخ (ويبحث عن علم الحقيقة عن أصل)
أن يكون كريماً سخياً مع ضيوفه. والسخاء من صفات رب العالمين، ومن خلق الرسول الكريم والصالحين، فلا يليق بالمرشد أن يكون بخيلاً كما جاء في الحديث “ما جبل ولي الله إلا على السخاء وحسن الخلق”، فيكرم ضيوفه ورواد زاويته دون التقصير بحق ضيافتهم، وأن تدوم البسمة على وجهه، وأن يكون رحب الصدر. وهذا معنى قول الشيخ(ويظهر للورَّادِ بالبشر والقرى )
أن يكون متواضعاً للمؤمنين يخضع لهم بالقول والفعل. وهذه الخصلة هي من خصال النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمره الله فقال له (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ). وكان الشيخ عبد القادر الجيلاني معروفاً بتواضعه للفقراء وكان يجلس معهم ويطاعمهم ويتجنب مجالسة الأغنياء والكبراء والأمراء والوزراء إلا إذا أراد النصح لهم وهذا معنى قول الشيخ (ويخضع للمسكين بالقــول والفعل. )
أن يكون ناجحاً في تربية المريدين وتزكية نفوسهم، ولن يكون له هذا إلا إذا كان قد زكى نفسه قبل ذلك على يد شيخ خبير بارع، وأن يكون قد أذن له بالإرشاد والمشيخة من قبل شيخه وفق سند متصل. وهذا معنى قول الشيخ (يهذب طلاب الطريق ونفسه مهذبة من قبل ذو كرم كلي. )