تجليات الحضور الإيجابي لصوفية الجزائر في مجتمعهم عبر التاريخ
الحمد لله حمد الشاكرين، وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد،
فمن دواعي الغبطة والسرور أن نجتمع في هذه الأيام المباركة في هذا البلد المبارك معدن الأولياء ومنتج المقربين الأصفياء من أهل الله العارفين السالكين طريق القوم السعداء في الزاوية الميمونة من أسست على تقوى وخير، الزاوية البصيرية المنورة، سائلين الله تعالى أن يديم ظلها وخيرها ونورها وأن يوفق شيخها الهمام مولاي إسماعيل وإخوته وبني عمومته وأحبابه إلى كل خير.
رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي وانفعنا والحاضرين بما نقول ونسمع، عنوان مداخلتي هو: “تجليات الحضور الإيجابي لصوفية الجزائر في مجتمعهم عبر التاريخ”، والموضوع مهم للغاية وطويل بعيد النهاية، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، حاولت فيه أن أعطي صورة مصغرة عن دور مشايخ الجزائر عبر العصور في مجتمعهم، وأوردت أمثلة حية عن ذلك، وسامح الله باحثينا ومثقفينا عن تقصيرهم في الكتابة عن هؤلاء الشيوخ وعن أحوالهم وآثارهم، إذ نحن المغاربة عموما أقل الناس اعتناء بالكتابة عن الشيوخ والعلماء، بخلاف المشارقة فإنهم يعتنون بتدوين كل صغيرة وكبيرة، ولقد نبه إلى ذلك الفقيه أبو علي اليوسي لما نزل مصر وأعطى فيها ورد الطريقة الشاذلية، رأى المصريين يكتبون كل شيء عن تلك الجلسة التي أعطى فيها الورد، فتأسف وقال: أما نحن في المغرب فكم ضاعت حياة علماء وصلحاء وما كتبها أحد أو بما معناه.
المحور الأول: بناء الشيوخ للزوايا ورباطات العلم:
اهتم شيوخ التصوف ببناء الزوايا والرباطات من أجل النفع العام، ومن أجل التفرد للعبادة والتوجه إلى الله، وكانت أهداف الزوايا هي تحفيظ القرآن الكريم وتعليم العلم وإطعام الطعام، وإيواء الغريب وابن السبيل والإحسان إلى الأرملة واليتيم والإصلاح بين الناس، ولا يختلف اثنان في أن الذي حافظ على اللغة العربية وعلى القرآن وعلى الإسلام هي الزوايا، فإن العلماء والفقهاء ما تخرجوا إلأ من زوايا التصوف التي انتشرت في كل مكان، في المدن والأرياف والسهول والجبال، ولقد اعترف الفرنسيون انفسهم أنهم عند دخولهم إلى الجزائر وجدوا شعبا متعلما، خلافا لما خرجوا فإنهم تركوه أميا متعبا، ولقد تفرغ الشيوخ لتعليم الناس وتربيتهم فقلما تجد بلدة أو قرية خلت من زاوية، وقد قام شيخنا الفقيه “محمد باي” بكتابة الرحلة العليا بعمل شبه إحصاء لزوايا الوطن، فأحصى زوايا ثمانية وعشرين منطقة من الجزائر كل منطقة بها عشرات الزوايا(1).
فمن هذه الزوايا التي ذكرها الشيخ باي بمنطقة أدرار:
– زاوية الشيخ محمد بلكبير، وقد انتفع الناس بها كثيرا، وقد زاد عدد طلابها على الآلاف وهي تقوم بتحفيظ القرآن وتعليم العلوم الشرعية واستقبال الضيوف وإعانة الناس والإصلاح بينهم.
– زاوية تلميذه الشيخ حسن، وفيها أكثر من أربعمائة طالب وعملها كعمل الزاوية الأولى.
– زاوية تسفاوت يقوم عليها الشيخ مولاي الحاج.
– زاوية المهدية، زاوية الشيخ عبد العزيز سيدي عمر، صاحب التآليف الكثيرة، والزاوية الطاهرية بسالي والزاوية الكنتية والزاوية الدباغية.
أما بالشلف فزاوية سيدي محمد بن علي بمجاجة، أما بالأغواط فنجد الزاوية التيجانية، أما ببجاية فنجد زاوية الشيخ الحداد، أما بسكرة فنجد الزاوية المختارية بأولاد جلال، أما بولاية بشار فنجد زاوية سيدي أحمد بن موسى بكرزاز، أما بولاية تيارات فنجد زاوية سيدي عدة، أما بولاية المسلية فزاوية الهامل، وغيرها كثير نكتفي بهذا العدد وقد ألف الأستاذ صلاح العقبي كتابا عن الطرق الصوفية والزوايا بالجزائر فصل فيه الأمر تفصيلا(2).
قال الدكتور أبو القاسم سعد الله في تاريخ الجزائر:” وقد ساهمت الزاوية في الريف مساهمة أكثر إيجابية من الزاوية في المدينة حيث كانت الزوايا عبارة عن رباطات أو نقط أمامية ضد الأعداء فكان شيوخها يقودون أتباعهم في الحروب الجهادية وينصرون المجاهدين ويطعمونهم في زواياهم ويتحالفون مع الأمراء من أجل الدين وحماية البلاد، وكانوا على صلة بالشعب أكثر من صلتهم بالسلطة”(3). وقال الأستاذ صلاح العقبي في كتاب الطرق الصوفية والزوايا بالجزائر:” كان للطرق الصوفية في خدمة الإسلام والدعوة إليه ونشر فضائله وبث تعاليمه السامية ونقله إلى مناطق نائية وعرضه عرضا خاليا من التعقيد”. وقد ذكر بوني موري في كتاب “الإسلام والمسيحية بإفريقيا” أن الإنسان نهض نهضة ثالثة من 1750م إلى 1901م، فقد نهض هذه المرة على أيدي مشايخ الطرق الصوفية، ويقول الأستاذ العقبي:” أن الجناية على الحقيقة وعلى التاريخ ومن الكذب على الأجيال أن ينكر البعض ما قامت به الطرق الصوفية والزوايا المنتشرة في قرى الوطن ومدنه وفي جباله وسهوله وفي صحرائه الواسعة من دور عظيم في نشر الإسلام والحفاظ على كتابه الخالد وتعليم لغة الضاد والمحافظة عليها، وقد كان للزوايا فضل كبير في تربية الأجيال تربية إسلامية عربية كان من بينها ذلك الجيل المؤمن بدينه ووطنه”.(4).
وفي العدد الأول من مجلة التراث كتب الأستاذ الطاهري عزوي، عن حياة البطل الشهيد مصطفى بن بولعيد رحمه الله تعالى، يقول فيه:” يرجع الفضل في ثبات الإسلام في الأوراس وتمسك السكان بالدين الإسلامي خلال فترة الاحتلال الفرنسي إلى الزوايا التي حافظت على تعليم القرآن والتعليم التقليدي.
وقد ذكر المؤرخ الجزائري الكبير أحمد توفيق المدني في كتابه الجزائر:” لبعض الطرق الصوفية بقطرنا هذا آثار تاريخية لا يستطيع أن ينكرها حتى المكابر، ذلك أنها استطاعت أن تحفظ الإسلام بهذه البلاد في عصور الجهل والظلمات، وعمل رجالها الكاملون الأولون على تأسيس الزوايا يرجعون فيها الضالين إلى سواء السبيل ويقومون بتعليم الناشئة وبث العلم في صدور الرجال، ولولا تلك الجهود العظيمة التي بذلوها، والتي نقف أمامها موقف المعترف المعجب لما كنا نجد في بلادنا أثرا للعربية ولا لعلوم الدين ويقول الشيخ مولاي التهامي في الدرر النفيسة:” فالزوايا الكبرى كالهامل وزاوية البلولي وسيدي منصور وأمثالها هي التي كونت دائما في هذه البلاد الطبقة الفاضلة من العلماء والفقهاء وحفظة القرآن وعملت على نشر الإسلام في أقاصي الجنوب والسودان، وكانت فوق ذلك ملجأ للعاجز وابن السبيل(5).
ويقول مؤرخ الجزائر العالم الفاضل الشيخ عبد الرحمان الجيلاني في تاريخ الجزائر:” إن نشاط الطرق الصوفية التي كان من فضلها ومن بين محاسنها في الميدان الاجتماعي أن بعثت بالتقاليد الإسلامية، كما عملت على التقريب بين السكان، حيث جعلت منهم وحدة متكاملة”، وقد ذكر الشيخ نور الدين عبد القادر في كتابه “صفحات من تاريخ مدينة الجزائر:” وقد جاء دور المرابطين والزوايا فأداروا شؤون المداشر بالاتفاق والتفاهم، ومراعاة المصالح مع جماعاتهم واعتنوا بنشر العلم وجلب الطلبة إلى معاهدهم، فكان في ذلك خير البلاد وانتفع به المواطنون”، وقال الداعية الكبير الهمام الورتيلاني عن شيوخ التصوف:” أن تلك الجبال التي نزلوا بها وهي تناطح السحاب وسكانها يومئذ أشبه بالوحوش، ورضوا بالقيام بها لا لغرض دنيوي ظاهر، ولكن لنشر العلم ومحاربة الجهل، والجهل أكبر عدو للإسلام خصوصا وللإنسانية عموما”.
دور شيوخ التصوف في التربية والتعليم
قال الأستاذ محمد الطاهر فضلاء عن تعليم الشيوخ: “ولولا هذا التعليم ورجاله وطلابه لازدادت غربة هذا الدين وحشة بين أبنائه، وهو يجابه الظروف القاسية المتسلطة بروح الصليبية الحاقدة والعلمانية المتهافتة الكافرة والمتبرجة في ثياب الإغراء والفتنة، التعليم الديني وعلماؤه وفقهاؤه المرابطون في زواياهم ومساجدهم وقراهم النائية عن العمران هم من حافظ على الشخصية لهذا المجتمع المسلم في هذا الوطن العربي المسلم”.
وقال شيخنا الفقيه محمد باي في كتابه الرحلة العلية، عن تعليم العلوم الشرعية في الزوايا:” بعد أن يحفظ القرآن العظيم في المدرسة القرآنية، يتابع متون العقيدة والفقه والنحو والصرف والفرائض، يحفظها ثم يدرس تفسيرها ومعانيها على الشيخ المتخصص فيها فيفسرها له بيتا بيتا وكلمة كلمة، حتى يوقفه على معانيها ويطلعه على أسرارها، بعد إتقان العلوم السالفة الذكر ينتقل الطالب لعلوم الحديث والتفسير إلى أن يتخرج من المدرسة، وقد تمكن من علوم الشريعة والعلوم اللسانية، ولا تزال تقوم بتفسير العلم والمعرفة وتحفيظ القرآن الكريم، وتمد الطلبة يد المساعدة بإيوائهم وإطعامهم وتزويدهم بكل ما يحتاجونه ﻷداء مهمتهم النبيلة والمتخرجون من هذه المدارس قديما وحديثا هم الذين يوجهون إلى الجهات عديدة داخل الوطن وخارجه، لنشر العلم وتحفيظ القرآن الكريم، كما أن الكثير من المعلمين في التربية حديثا تخرجوا من هذه المدارس كما أن لها الدور المهم في مكافحة الأمية، كما تركت تلك الزوايا ثروة هائلة من المخطوطات والمؤلفات النافعة في كل العلوم، كما خلفت لنا آثارا تاريخية …ومساكن للضيافة، فالتعليم الديني هو الذي جعل شعبنا شامخا أمام الاستعمار(6)، قال الدكتور بوداود عبيد في كتابه ظاهرة التصوف في بلاد المغرب الأوسط:” المتصوفة لم يعيشوا حياة العزلة، بل كانت لهم إسهاماتهم في مختلف جوانب الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية، ومن ذلك المساهمة في تقريب الشرائح الشعبية بالمدن والأرياف ومنها عرض الإسلام في ثوب جديد أعطاه شيئا من الحيوية، وكان لرجال التصوف فضل المساهمة في نشر تعاليم الإسلام بين مختلف الجماهير الشعبية بالبوادي والأرياف، ولقد حافظ رجال التصوف على سلامة النسيج الاجتماعي وتماسك المجتمع، وذلك بسعيهم لحل مشاكل العامة التي كانت تلجأ إليهم لهذا الغرض(7).
قال الدكتور أبو القاسم سعد الله في تاريخ الجزائر: “كان التعليم عند رجال التصوف وخصوصا في الريف نوعا من العبادة والجهاد(8).
أقول: وكان الشيوخ يجلسون من الصباح إلى المساء للتعليم والإرشاد فكان برنامجهم طول النهار: صلاة الصبح ثم الجلوس للذكر إلى طلوع الشمس، ثم يأتي الطلبة لعرض ألواحهم وتصحيحها من طرف الشيخ ثم بعدها يجلس الشيخ للإفطار مع الضيوف والحديث معهم، ثم بعدها يجلس لدرس الفقه، وطريقتهم بالوقفات، فيقرأ الطلبة في عدة كتب، أما في متن ابن عاشر أو الرسالة أو الشيخ خليل، فالمبتدئ يقرأ في متن ابن عاشر والمتوسط في الرسالة والمنتهي في خليل، ثم تكون استراحة قليلة، ثم يكون الغذاء، وبعد العصر يتحلقون لقراءة الراتب القرآني، وبعد المغرب لقراءة النحو والصرف، ثم بعد صلاة العشاء يقدم العشاء ثم يجلس الشيخ للسمر قليلا مع ضيوفه، هذا برنامجهم كل اليوم.
وهذا المنهج لازال ساريا إلى يومنا هذا، ومن القصص الجميلة عن تشجيع شيوخ التصوف للطلبة على العلم ما يحكى عن الفقيه الصوفي احمد بن محمد بن زكري المازوني التلمساني، كان في ابتداء أمره يتعاطى الحياكة ليتمه وفقره، إذ مات أبوه وتركه صغيرا في حضانة أمه، فحدث أن جاءه أحمد بن زاغو الفقيه الصالح بالغزل لينسجه له، ثم تبين له أن الغزل غير كاف، فذهب إلى الجامع يطلب من الشيخ غزلا آخر كي يكمل النسيج، فحضر الدرس وكان الشيخ ابن زاغو يقرا مسألة فقهية أشكل معناها على الطلبة وعسر عليهم فهمها، فقال ابن زكري للشيخ: أنا فهمتها وبينها أحسن بيان، فقال الشيخ مثلك يشتغل بالعلم لا بالحياكة، فذهب الشيخ إلى أمه ووعدها بإعطائها أجرة ابنها من الحياكة يوميا، ليتفرغ لديه للعلم فأخذ العلم عن أول شيوخه وهو ابن زاغو، وعن غيره من علماء تلمسان كالعقاباني وابن مرزوق، وأخذ عنه بعدها كبار علماء تلمسان كابن مرزوق الحفيد وغيره ت 899 هـ، وكان ابن زكري بارعا في الأصول والفروع والتفسير، له فتاوى كثيرة في المعيار للونشريسي وغيره، من تآليفه: بغية الطالب شرح عقيدة ابن الحاجب، المنظومة الكبرى في علم الكلام، شرحها أبو العباس المنجور بشرحين، يقول ابن زكري في منظومته محصل المقاصد:
فأول الأبواب في المبادي وتلك عشرة على مرادي
الحد والموضوع ثم الواضع والاسم الاستمداد حكم الشارع
تصور المسائل الفضيلة ونسبة فائدة جليلة
وهي في مبادئ كل فن وقد استدل بها الفقيه الأصولي محمد الطيب الفاسي في شرحه على مفتاح الوصول في علم الأصول لجده عبد القادر الفاسي
وقد ترجم الشيخ أبو عبد الله المديوني في كتابه البستان في ذكر العلماء والأولياء بتلمسان، لكثير من شيوخ التصوف الذين اشتهروا بالعلم والتأليف، وخلف أكثر من ثمانين تأليفا طبع منها تفسيره الجواهر الحسان كاملا وكتاب الأنوار في سيرة النبي المختار صلى الله عليه وسلم، والعلوم الفاخرة في علوم الآخرة، طبع في مجلدين وكتاب الأذكار ككتاب الإمام النووي وغيرها من الكتب.
ومن شيوخ التصوف الذين اشتهروا بالعلم والتأليف، الإمام السنوسي التلمساني صاحب كتاب التوحيد، الذي مازال يدرس إلى يومنا هذا في كل العالم.
ومن شيوخ التصوف الذين اشتهرت تآليفه، ولا زالت تدرس إلى الآن الشيخ عبد الرحمن الأخضري صاحب السلم في المنطق، ومن أبرز ما قام به شيوخ التصوف الإصلاح بين الناس، حيث قام الشيخ امحمد بن علي بالصلح بين قبيلتي الغنانمة والتوارق سنة 1838م، وقد قام أيضا بالصلح بين قبيلتي أولاد جرير وبني قيل سنة 1849م، وقام الشيخ احمد بن الكبير بالصلح بين قبيلتي الغنانمة وذوي منيع سنة 1886م، ومن أبرز ما قام به الشيوخ الوقوف أمام جحافل المبشرين المؤيدين من طرف الاستعمار، ذكر الأستاذ طاهر العزوي، أن الزوايا استطاعت أن تخرج المبشرين ورجال الدين المسيحي من سهل المدينة بالأوراس سنة 1928م، وقد استقدموا للاستيطان والتبشير عقب ثورة 1871م.
وذكرت الأستاذة خديجة بقطاش في كتابها الحركة التبشيرية في الجزائر أن من أسباب قيام ثورة 1871م بقيادة الشيخ المقراني، وهو من شيوخ الرحامنية الخلوتية، هو تصرفات المبشرين التي هددت الدين الإسلامي بوقاحتها، ومما يذكر عن الولي الصالح سيدي عبد الرحمان النعاس النائلي، أنه قام ببناء زاوية اتجاه كنيسة بنيت لتضليل المسلمين، والعجيب أن الكنيسة أصبحت أثرا بعد عين، أما زاوية الشيخ فلازالت قائمة إلى الآن تؤدي أعمالها.
جهاد شيوخ التصوف
ذكر الشيخ حمدان خوجة وهو ممن عاصروا دخول الاستعمار إلى الجزائر في كتابه المرآة، أن شيوخ الطرق الصوفية هم الذين أمروا جميع المواطنين بالتعبئة العامة والدفاع عن مدينة الجزائر، ومما لا يخفى على أحد ولا يحتاج إلى دليل ولا يختلف فيه اثنان، أن شيوخ التصوف هم الذين قاموا بالجهاد ليس في الجزائر فقط، بل في كل مكان.
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
وأول من رفع راية الجهاد في الجزائر الأمير عبد القادر الجزائري الذي ينتمي إلى الطريقتين القادرية والشاذلية جاهد المستعمر الفرنسي سبعة عشرة عاما، ومن مواقفه المحمودة في حادثة 1860م التي حدثت بين المسيحيين الدروز، حيث أنقذ خلالها الكثير من المسيحيين، وأدخلهم بيته وظل يحرسهم هو ومن معه من المغاربة، ومن الشيوخ الذين جاهدوا الاستعمار الشيخ بوعمامة وينتمي إلى الطريقة الشاذلية، جاهد الاستعمار أكثر من عشرين سنة، ابتدأت ثورته سنة 1882م، وظلت إلى حين وفاته سنة 1908م وقبره بفكيك.
ومن الشيوخ الذين جاهدوا الاستعمار في حرب الزعطاشة، الشيخ بوزيان الذي حمل رأسه إلى فرنسا، ولازال إلى الآن محنطا في معرض اللوفر بفرنسا.
ومن المجاهدات الشيخة الصالحة لالة فاطمة نسومر التي قاتلت الفرنسيين أشد قتال، وهزمت منهم عدة جنرالات حتى وقعت أسيرة وماتت في الأسر ضواحي العاصمة، وهي في سن الشباب، وهي تنتمي إلى الطريقة الرحمانية الخلوتية، وقد كانت الطريقة الرحمانية أشد من قاتل الاستعمار حيث شاركت هذه الطريقة بأكثر من مائة وعشرين ألف مقاتل وخاضوا نحو ثلاثمائة وخمسين معركة.
وكمثال على تلك الثورات ثورة الشيخ الحداد رحمه الله تعالى، التي شارك فيها وسنه فوق الثمانين، ولما قبض عليه خرب المستعمر زاويته، وقبض على ابنيه عبد العزيز ومحمد وحوكم المقدمون والوكلاء وأعدم عدد منهم وحوكم الباقون، وطردوا إلى حدود تونس وصودرت أملاكهم، ونفي كثير منهم إلى كاليدونيا الجديدة بسبب الثورة، ومنهم الشيخ المقراني الذي ظل في اﻷسر عشرين سنة ثم عاد الى الجزائر، ولاتزال لأحفاد هؤلاء المجاهدين وجود إلى الآن في كاليدونيا.
أود في الختام أن أورد أمثلة حية عن بعض أعمال شيوخ التصوف لتبقى حية في الذاكرة.
أولهم الشيخ العالم المجاهد سيدي محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني الذي وقف في وجه يهود توات، حين ظهر له منهم نقض العهد والخروج عن الذمة لما اشتد نفوذهم وطغوا وتجاوزوا الحدود الشرعية، حيث كانوا يسيطرون على أغلب الصنائع الأولية كصياغة الذهب والفضة، وضايقوا المسلمين في تجارتهم، وهو أحد الذين نشروا الإسلام في إفريقيا، وكانت له مكانة رفيعة عند السلطان، كانوا بنجيريا أسقيا، له تآليف كثيرة منها فتاويه لأسقيا مطبوع، وكان معاصرا للإمام السيوطي وبينه وبين السيوطي مساجلات في قضية المنطق.
ومنهم الشيخ الولي الصالح سيدي عبد القادر طاهري الرحماني الخلوتي، ومن أعماله أنه كان يقوم الليل في صومعة الجامع ثم يقوم فيهيئ الماء الساخن للطلبة ثم يوقظهم للوضوء والصلاة ثم الذكر والإفطار، ومما يذكر أن خمر نسائه البيضاء كانت تسود من دخان الطبخ، وقد كان يصل عدد ضيوفه ما بين سبعمائة وثمانمائة، ومن مناقب الشيخ العظيمة أنه كان يرهن برنسه وحلي نسائه عند تجار اليهود ليطعم الطلبة والمحتاجين، ويستدين منهم في الكثير من الأحيان تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان يرهن سلاحه عند اليهود كما جاء في صحيح البخاري، وكان الشيخ رحمه الله تعالى يباسط ضيوفه وطلابه، وكان صاحب نكتة ودعابة ليخفف من تلك الهيبة التي كان يتصف بها، ومن تعب الوقت وكان يخرج للصيد أحيانا مع الناس.
ومن الشيوخ الصالحين الشيخ طاهر آيت علجات وهو من شيوخ الرحمانية الخلوتية، قضى حياته في التعليم والإرشاد ولازال يدرس العلم لحد الساعة، وهو الآن يدرس مغني اللبيب لابن هشام وغيره من الكتب، ومن مناقب الشيخ حفظه الله أنه باع إبان الثورة الجزائرية بستانا من شجر الزيتون، وأعطى ثمنه للمجاهدين، وكان هو أحد الذين حملوا السلاح مع طلبة زاوية جده الشيخ سيدي يحيى العيدلي، واستشهد كثير من طلبة الزاوية وسنه الآن فوق الثمانين بقليل.
ومن الشيوخ الصالحين العلامة الفقيه سيدي محمد الشارف ينتمي إلى قبيلة الحوامد التي يرتقي نسبها إلى المولى إدريس، ذكر في فتاويه أنه كان يعلم السجناء العرب والأفارقة في السجون الألمانية القرآن والفقه والدين، وظل في المعتقل من سنة 1939م إلى سنة 1944م، ومن الأعمال التي قام بها في السجن المحافظة على راتب من القرآن يختم فيه كل شهر، ودرس خلالها متن ابن عاشر والمقدمات الممهدات في الفقه المالكي والأجرومية في النحو، واتخذ الشيخ ترجمانا يترجم لغير العرب دروسه، وقد ذكر لي أنه وجد شرح ميارة عند أحد الأفارقة، وقد طلب الشيخ من طلابه نسخ الكتاب، فنسخوا منه خمسين نسخة.
ومنهم الشيخ سيدي عطية مسعودي النائلي، ينتمي إلى قبيلة أولاد نائل، ومن مناقبه أنه كان يصلح بين القبائل البدوية في تلك المناطق، ويزور الناس في البوادي يعلمهم الدين ويقول لهم: ما دمتم لا تزورونا فنحن نزوركم، وكان ذكيا شديد الذكاء مع بساطة وسلامة الصدر ورقي في الأخلاق.
ومما يحكى من مناقبه وهو شاب صغير في السابعة عشر من عمره، أنه كان قصد جامع الزيتونة للتعلم فيه، فمنعه الاستعمار الفرنسي اللئيم، وعند رجوعه مر على إحدى المدن فرأى مبشرا من المبشرين، وحوله جمهرة من الجزائريين يحاول تضليلهم، فسمع المبشر وهو يسأل الحاضرين، قال لهم: الحي أنفع أم الميت؟ قالوا: الحي أنفع، فقال لهم: أتؤمنون بحياة عيسى؟ قالوا: نعم، قال: محمد ميت، قالوا: نعم، قال: إذن عيسى أفضل من محمد، لدى يجب إتباعه، فسكت الناس والتبس عليهم الأمر، قال الشيخ عطية: قلت له: أسألك سؤالا، قال: نعم، قلت: أمك حية؟، قال: نعم، قلت له:أم عيسى، مريم عليها السلام ميتة، قال: نعم، قلت: إذن أمك أفضل من مريم، فبهت الذي كفر، فرأيته يحمل أوراقه وينهزم.
ومن الشيوخ الشيخ الوالي الصالح مداح النبي صلى الله عليه وسلم سيدي الأخضر بن بخلوف، وهو من الشعراء الشعبيين، وله قصائد كثيرة لا زالت إلى يومنا الحاضر محبوبة عند الناس، وينشدها المنشدون ويغنيها أهل الطرب الشعبي والأندلسي، وأشهرها القصيدة التي يقول فيها:
أحسن ما يقال عندي باسم الله وبيك نبدا
حبك في سلطان جسدي نعزك يا عيني واحدة
قدر النحلة اللي تسدي تبني شهدة فوق شهدا
يا محمد أنت سيدي صلى الله عليك أبدا
وله قصيدة مشهورة وصف فيها انتصار المسلمين على الإسبان في معركة مزغران، ووقعت له كرامة مع لص شهير، كان يسمى بجرادة، كان ذات يوم في غابى يرتقب التجار، حتى أتى على الطريق سيدي الخضر، فسمع شجرة السدر تقول للأخرى أنظري إلى وجه الولي الصالح واقتبسي من نوره، فتاب اللص وصلح حاله وقد ذكرهذا في قصائده.
ومنهم الشيخ سيدي بالكحل النائلي ينتمي إلى قبيلة أولاد نائلة، اشتهر بقصائده في التوحيد بالعامية، نظمها للعوام ليحفظوا عقيدة الإسلام(1)
المراجع والمصادر:
1 / الإخوان دراسة حول الجماعات الدينية بالجزائر لآدور دنوفر، دار الهدي الجزائر 2003.
2. أضواء على الطريقة الرحمانية الخلوتية لعبد الباقي مفتاح دار الوليد للنشر 2005.
3. باقة السوسان في التعريف بحاضرة تلمسان لحاج محمد بن رمضان شاوش ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر 1995.
4. تاريخ الجزائر الثقافي للدكتور أبو القاسم سعد الله، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع 1985 الجزائر.
5. البستان في ذكر الأولياء والعلماء لمريم المديوني، دار المطبوعات الجامعية الجزائر.
6. دهر التصوف في المغرب الأوسط لأبو داود عبيد، دار الغرب للنشر والتوزيع 2003.
7. الحركة التبشيرية الفرنسية في الجزائر 1871/1830 لخديجة بقطاش، دار دحلب.
8. نسائم عرفانية من حياة الربانية لمحمد الطيبي، شركة سارل الجزائر.
9. ديوان سيدي لخضر بن خلوف تحقيق محمد بلحاج الغوثي دار ابن خلدون الجزائر 2001.
10. فتاوى الشيخ محمد شارف دار البلاغ الجزائر 2002.
11. الحلة العلية للشيخ محمد باي دار هومي الجزائر 2005.
12. الدرر النفيسة في ذكر جملة من حياة سيدي أحمد بن موسى الشيخ مولاي الهامي غيثاوي منشورات اناب 2004.