تجليات الحضور الإيجابي لزاوية الشيخ سيدي إبراهيم البصير في المجتمع المغربي
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على خير الورى في الموقف العظيم، سيدنا محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار، اللهم أجرني وإخوتي من النار.
“يا أيها الذين اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون”
“يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا”
“يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما”.
أسأل الله أن يجعلنا من الفائزين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
شيخي وأستاذي الفاضل خادم أهل الله بزاوية الشيخ سيدي إبراهيم البصير، سيدي ومولاي إسماعيل البصير حفظه الله تعالى وخلد في الصالحات أعماله.
السيد الكاتب العام لعمالة إقليم أزيلال، نسأل الله عز وجل أن يبارك جهودكم، ونحن ضيوف في أرضكم، وأن تكون أقدامنا أقدام خير وبركة عليكم.
السادة الشرفاء من أبناء عمومة آل بصير من أهلينا في الأقاليم الصحراوية المغربية الشرفاء الكرماء النفحاء الوحدويون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
السادة العلماء الفضلاء ضيوف صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، من أشقائنا في الدول الإسلامية، الذين حلوا من أقصى العالم، ويكفي أنه في جانبي على المنصة أحد علماء الهند، ومن علماء الجزائر، وأمريكا وغيرهم ممن يحضر معنا نسأل الله أن يكون مقدمهم قدوم خير وبركة على هذه البلاد المغربية الراعية للعلم والعلماء، ولا ننسى ضيوفنا من أرض الجهاد الأكبر، من أرض الرباط أرض القدس، فلسطين، وتحية لآل البصير المجاهدين في أرض الرباط، ولا أنسى أن أرحب بعلمائنا الأجلاء من أرض السودان الشقيقة، وكم يحز في النفس أن يتم تقسيمها، قبل ثلاث سنوات التقينا في هذه الزاوية العامرة، وفي حفل الغذاء بنواحي منطقة أزيلال في يوم الجمعة قال أحد علماء السودان الأجلاء، موجها الخطاب إلينا وإلى إخوتنا في الصحراء: إنه ينبغي علينا جميعا أن نحمد الله على نعمة الوحدة”، وقال:” أنتم في نعمة مزجاة لا يعرفها إلى من يوشك جسم وطنه وأوصاله أن تتقطع”، وللأسف الشديد فقد تحققت نبوءة ذلك العالم الرباني الجليل، فالله أسأل صادقا أن يؤلف بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
السادة الحضور الكرام من العلماء والباحثين من أهل الله.
السيد المبجل صاحب الذكرى الثانية والأربعين سيدي محمد بصير المجاهد العالم الروحاني الحاضر بروحه وفكره معنا، “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياءا عند ربهم يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون” آل عمران 170.
أشعر بالحياء والخجل أن أتقدم أمام هؤلاء العلماء، وأنا لازلت حدثا طفلا في البحث العلمي، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، وهذا من طبيعة آل البصير، الذين انتسبنا إليهم ولله الحمد عبر الورد الرباني، فهم في إطار انفتاحهم على كل فئات المجتمع، من مظاهر التجديد المباركة التي يقودها شيخنا مولاي إسماعيل وإخوته الأجلاء، هي التشبيب، وهذا فيه إشارة إلى أن الزاوية الآن تخطو خطوتها الثالثة، فإذا كان التأسيس في عهد الغوث الرباني سيدي إبراهيم البصير، وكان البناء والتشييد على يد شيخ الطريقة سيدي محمد بصير، فالطريقة الآن تنطلق انطلاقتها الثالثة في الانفتاح على كل فئات المجتمع، والبناء للتصوف العلمي؛ ولا أقول التصوف السني، لأنه ليس هناك تصوف سني وتصوف بدعي، ولا مشاحة في الاصطلاح، ولكن التصوف هو المنهج الرباني الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها السادة الفضلاء يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي رواه الترمذي في سننه: “من لم يشكر الناس لم يشكر الله”. فالشكر والثناء والدعاء إلى الله تعالى بالتوفيق والسداد والنصر والتمكين في قلوب العباد لآل البصير، لمن كانوا سببا في دعوتنا لحضور هذا الملتقى السنوي المتألق لنشارك ثلة من خيار الناس وفضلائهم في مقاربة موضوع أساس من موضوعات الفكر الإسلامي المعاصر، تفرضه ضرورات الحياة وما يعيشه المسلمون اليوم من تحديات سلوكية وأخلاقية وتربوية، تؤثر سلبا في مسيرتهم التنموية والاقتصادية والاجتماعية، ولهذا لايسعني إلا أن أهنأ السادة الشرفاء على التوفيق الذي حالفهم في حسن الاختيار لموضوع: أهل التصوف وضرورة الحضور الإيجابي في المجتمع الإسلامي.
وإن المتأمل في هذا العنوان يجده مليء الوطاب بالمعاني العميقة، فالله سبحانه يجتبي ويصطفي من خله ما يشاء، فقد اصطفى آدم عن سائر المخلوقات واصطفى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم على سائر الرسل والأنبياء، فكذلك اصطفى أهل التصوف من بين أهل الصلاح والإصلاح للقيام برسالاتهم التي اصطفاهم الله عز وجل لأجلها، وهي تزكية القلوب والأرواح وتصفيتها من الكدر وقبائح الخلال، عبر تخلية وتحلية، ومن من الطوائف والفرق التي يمكنا أن تؤدي رسالة الإصلاح وتقوم بدورها الإيجابي في زمن الفتن كقطع الليل المظلم، إلا أهل الله من العلماء الصادقين رهبان الليل وفرسان النهار؟.
إنه فعل ينطلق من ثقل الرسالة التربوية التي تحملها أهل الله لإخراج الأمة من ضيق الدنيا إلى ساعة الدنيا والآخرة، ومن جور العقائد الباطلة المبتدعة إلى رحمة وكرامة وحرية الإسلام في رحابه الواسعة، “ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا”.
إن الإيجابية في سلوك أهل الله من الصوفية تعني فيما تعنيه من معاني عميقة الانسلاك في دروب المجتمع، والانفتاح على قضاياه، والعمل على إيجاد الحلول النفسية والتربوية لانحرافاته الأخلاقية والسلوكية، وهم بذلك يقتفون أثر النبي المربي القدوة، الذي قال فيه المولى جل وعلا: “لقد كان لكم في رسول الله أسوة”.
فالرسول صلى الله عليه وسلم من خلال سيرته العطرة المباركة، كان إيجابيا في تفاعله مع قضايا مجتمعه، أليس هو القائل صلى الله عليه وسلم: “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير وأحب إلى الله من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على آذاهم”.
فالمخالطة هنا تواصل إيجابي بين الداعية إلى الله وأفراد مجتمعه، يقترب من همومهم، ويتفاعل مع قضاياهم دون الانسلاخ عن دينه وتوابثه وشريعته الواضحة الغراء، وهكذا هو مكمن القوة الروحية التي يتميز بها أهل الله من الصوفية الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير”.
وإن من شأن هذا الفهم لمفهوم الإيجابية في من يسلك طريق الله تعالى، أن يرد عن الأغيار الذين يقصرون التصوف في مواقف شاذة عن منهجه السوي ممثلة في الانعزال والانكفاء عن الذات وترك ما لله لله وما لقيصر لقيصر، “ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم فما رعوها حق رعايتها”.
إن الدارس، أيها الحضور الكرام، لمختلف الطرق الصوفية المجاهدة للجهاد الأكبر والأصغر، يتجلى له بوضوح، أنها لم تكن في يوم من الأيام حركة نشازا عن المجتمع وتطلعاته إلى التحرر والانعتاق من ربقة الجهل والتخلف وعبادة الهوى، ولعل شعارهم الذي اتخذوه في سيرهم الإيجابي الإصلاحي قول الصحابي الجليل رَبْعِي بن عامر إلى رستم قائد الفرس قبيل موقعة القادسية “إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”، وأستسمحكم إذا قلت متجاوزا أن هذه هي روح التصوف، التصوف هو اختيار وليس إجبار، والصوفي هو من يتفاعل مع قضايا مجتمعه بإيجابية دون انهزام.
فربيعي بن عامر هذا الجندي البسيط في كتبة التوحيد، لم يستأذن أحدا ليعبر عن هذا الموقف الإيجابي إيزاء دينه وهويته الحضارية، وإنما عبر عنها بفطرته الأصلية التي فطره الله عليها. وصقلتها التربية السلوكية التي تلقاها على المربي الأول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا نقول بأن الأصل في الإنسان هو الصلاح، وأن الأصل في الإنسان هو الفطرة السليمة، ولكن قد يعتري هذه الفطرة ما يعتري كل الفطر بأسباب معينة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف السبيل إلى إعادتها إلى أصلها؟، لا بد من تربية على يد شيخ مربي، لأنه هو من يعرف منعرجات الطريق، وبدعائه الصالح يمكن أن يستوي السلوك.
لكن السؤال القديم الحديث الذي يطرح على مائدة البحث، أيها الإخوة، هل كانت مواقف الصوفية كلها إيجابية من قضايا مجتمعها؟ وإلى أي حد عكست تجربة الزاوية البصيرية هذا البعد الإيجابي في تعاملها مع أفراد المجتمع المغربي منذ نشأتها وحتى يوم الناس هذا؟
إننا يمكن أن نجيب بدون شعور بالحرج وعقدة النقص، أن الحركة الصوفية في مجملها قد عكست فعلا عبر تجربتها الإصلاحية هذا الجانب الإيجابي، لنميزها بذلك عن غيرها من الحركات المتصوفة، وهنا أفرق بين المتصوف والصوفي، الصوفي ليس هو المتصوف، فالمتصوف هو من يدعي الانتساب إلى التصوف، والحركات المتصوفة هي التي تدعي الانتساب إلى أهل الله ظلما وزورا، وكل يدعي حب ليلى وليلى من حبهم براء، وهي لا علاقة لها بالتصوف في صفائه وفي أصوله ومنابعه الأصلية.
إن الحركة الصوفية في مجملها كما قلنا هي حركة إيجابية، لأنها نابعة من هموم المجتمع، ومن قضاياه وليست حركة تأتي من الخارج لتفرض على مجتمع من المجتمعات، كما وقع لبعض شبابنا، وقد حكى ياسر الشاذلي من أمريكا بعضا من ذلك، فلماذا نتدين بما يتدين به الآخرون وننسى أصولنا التي نشأنا عليها، والتي قدم فيها علماءنا الأجلاء المهج والدفاع من أجل الحفاظ على روح الإسلام في صفائه ونقائه في هذا الباب.
فإما أن تشارك الحركة الصوفية بإيجابية في حاضر ومستقبل مجتمعاتها وتضمن لنفسها الاستمرار، وإما أن ننحرف عن جادة الطريق، فتندحر وتذهب ريحها كما انتهت مختلف الحركات التي لم يتأسس بنيانها على بصيرة وتقوى من الله تعالى.
أيها الإخوة الكرام عرف المغرب الأقصى من شماله إلى صحرائه، منذ أن أنعم الله تعالى عليه بنعمة الإسلام حركات وطرق صوفية مباركة، كانت تنهض ولا تزال برسالة تجديد أمر الدين، كلما دب في الأمة الوهن، تحقيقا لنبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يقول في الحديث الصحيح: “يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها”.
ومن، أيها الإخوة تفيد العموم، فهو لا يقصد شخصا بعينه، فقد يكون المجدد شخصا، وقد يكون حركة، وقد تكون كل الحركات الصوفية تقوم بالتجديد كما قال شيخنا مولاي إسماعيل بالأمس، فالحركات الصوفية منبعها واحد وأصلها واحد وكل العلماء العاملون العارفون بالله لا يميزون بين طريقة وأخرى، وأقول: بأني منذ أن وطأت أقدامي هذه الزاوية المباركة وأنا مازلت في مجال البحث العلمي، قرأت وأحسست وآمنت بتصور شيخنا ماء العينين رحمة الله عليه في أرجوزته “إني مخاوي”، ولكن عندما أتيت هذه الزاوية رأيت ذلك حقيقة، وللأسف الشديد، فإن بعض الزوايا التي تدعي الانتساب إلى التصوف تمنع من يخالف منهجها من أن يتبوأ الكلمة في منزلها، فالأحرى أن يكون مشاركا في ندوة من ندواتها، وكأنها تخاف على نفسها أن تضيع قوتها، وإنما الأفكار تتقوى بتقديمها للآخر بالنقاش وبالحوار، وقوة الأفكار إنما من قوتها الذاتية ولا تحتاج إلى من يقويها من الخارج.
أيها الإخوة الأفاضل، ومن بين الحركات التجديدية الإصلاحية التي انبثقت من أرض المغرب الطيبة التي تنبت الأولياء كما تنبت الأرض الزرع، الزاوية البصيرية الإبراهيمية الشاذلية الدرقاوية التي تنتسب إلى الولي الصالح والقطب الغوث الرباني سيدي إبراهيم البصير، التي انطلقت من سوس والصحراء ليكتب لها الفتح والتمكين في بني عياط العامرة بالذكر والذاكرين الله كثيرا آناء الليل وأطراف النهار.
والباحث لا يخطئه المسير ليستشف الحضور الإيجابي لهذه الزاوية المباركة بين مختلف أوصال المجتمع المغربي شمالا وجنوبا.
ويمكن أن نستجلي هذا الدور الإيجابي من خلال أربعة جوانب:
1- الحضور الإيجابي للزاوية البصيرية في الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة.
2- الحضور الإيجابي للزاوية البصيرية في نشر العلم ومحو الجهل.
3- الحضور الإيجابي للزاوية البصيرية في الرعاية الاجتماعية والأخلاقية لأفراد المجتمع المغربي.
4- الحضور الإيجابي في موقف الزاوية البصيرية في علاقتها بالدوحة العلوية الشريفة.
5- خصوصية الزاوية البصيرية في العصر الحاضر:
أ- التشبيب
ب- التجديد على مستوى الخطاب والممارسة.
أولا: الحضور الإيجابي للزاوية البصيرية في الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة:
يؤكد أستاذي وأخي الفاضل سيدي كريم الجيلالي في بحثه القيم حول الزاوية البصيرية، أن أمر الدعوة إلى الله كان من أهم المهمات التي أخذ بها شيخنا إبراهيم البصير نفسه منذ أن التقى بشيخه الإلغي، ولعلنا لا نجانب الصواب كما يقول أستاذنا الفاضل إذا قلنا أن هذا الأخير اصطفاه الله لهذه المهمة دون غيرها، وكان أول الأمر أصدره هو السياحة في عدة مناطق موضحا أنه لا يريد مهم شيئا غير تصفية القلوب وبنائها على التقوى، والإصلاح بين العباد وربهم، لأنه لا أعظم ولا أجل عند الله من توجيه الناس إلى ربهم، وانتشالهم من الغفلة، كما يؤكد المختار السوسي رحمة الله عليه في المعسول.
وهكذا أرسلهم إلى قبيلة اصبويا بقبيلة آيت باعمران السوسية لإرشاد العباد، وبعدها إلى الرحامنة لعل الله يرحمها، وتنيب إلى طريقها، ثم أرسله إلى دكالة العلم والعلماء لوعظهم وللأخذ بأيديهم بعد أن دب فيهم الجهل والجهالة، كما كان كذلك أيضا آخر أمر أوصاه به قبل وفاته، حيث أمره أن يرشد عباد الله إلى ربهم، وليشد حزامه وألا يتهاون في ذلك، ويبدو أن التوفيق كان حليفه في مهمته هاته، حتى إن كل الأماكن التي وصلها استجابت له في الإقبال على الله، وما من دار يدخلها إلا واهتزت نفسه اهتزازا لا مثيل له بالذكر والمذاكرة، وما إن يدعو إلى التوبة والرجوع إلى الله حتى يندفع الناس نحوه اندفاع العطشان لحافة البئر.
حتى إن شيخه سيدي الإلغي أثناء زيارته إلى الرحامنة كما يقول المختار السوسي في المعسول اندهش وفرح فرحا شديدا حين رآهم مقبلين على ربهم، وقد تابوا وأنابوا واندفعوا اندفاعا غريبا في السير إلى الله، وقد فسر الشيخ سيدي إبراهيم البصير كما يذكر الشيخ محمد المصطفى بصير، أن هذا النجاح يكمن في أن المحبة كائنة في قلوب الناس، إذ هيأ الله لهم من يدعوهم إليه مخلصا في دعوته.
وبعد وفاة شيخه استمر الشيخ إبراهيم البصير على نفس النهج سائرا سائحا بين القرى والمداشر، هكذا انتقل إلى دكالة ثم إلى منطقة بني مسكين وهناك إشارة لابد أن أشير إليها، وللأسف الشديد مازالت منتشرة في بعض قُرانا ببعض المناطق خصوصا بعض المساجد بدكالة، تبين أن الأذان لا يرفع فيها وحتى الإمام لا يحافظ على صلاة الصبح، وإذا أردت أن تصلي يجب عليك أن تبحث عن مفتاح المسجد في مكان لا وجود له، هذه الصوررة للأسف الشديد تتطلب من أهل الله من رجال التصوف ورجال السياحة في الله أن ينتشروا في الآفاق ويبلغوا دعوة الله كما بلغها الشيخ إبراهيم البصير رحمة الله عليه.
فإليكم هذه القصة المؤلمة التي ينبغي أن يؤخذ منها العبرة حينما التحق الشيخ إبراهيم البصير بمنطقة انبي مسكين وجدها مكتظة بحفظة كتاب الله والقراء السبع، وأظن أن إخوان الزاوية وشيخي وأستاذي الفاضل سيدي عبد المغيث من أهل الزاوية علمونا ذلك، ولكن للتذكير،”فذكر إن الذكرى تنفع المومنين”، عندما التحق بهذه الأرض وجد الناس يحفظون كتاب الله ويحفظونه بالقراءات السبع، ولكنهم لا يضعون جباههم على الأرض، وما نفع القرآن إذا كان يحمله الإنسان في عقله ولا يصل إلى قلبه ولا ينعكس على سلوكه؟ “كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”.
فالإيجابية تقتضي أن ينتفع القارئ لكتاب الله بما يقرأه وأن ينتفع بسلوكه وبعلاقاته بمحتمعه، لكن الصلاة قليلة وأن من بين الحفاظ السبع من لم يضع قط جبهته على الأرض.
ذكر إبراهيم البصير أن سبب انتشار القراءات السبع لابن مسكين كما يفسر ذلك هو مادي، فقد كان أحد القواد يشجع الآباء على أن يحفظوا أبناءهم القرآن الكريم، ومن حفظه بالسبع فإن هذا القائد يقوم بتوظيفه، ولذلك أقول لأحبائنا الأعزاء أهل القرآن أهل الله، لا تشتغلوا بالدنيا، اشتغلوا بالآخرة في قراءة القرآن وفي حفظه توهب لكم الحسنيين، الدنيا والآخرة إن شاء الله، والقصة بتمامها في معسول المختار السوسي لمن أراد أن يراجعها.
وإن من بين معالم التجديد الإيجابي بزاوية آل البصير نشر العلم ومحو الجهل والأمية، فلم تكن الزاوية كما يؤكد أستاذي الفاضل الدكتور عبد الهادي البصير، مجرد زاوية صوفية، وإنما كانت أيضا مدرسة علمية يحج إليها الناس من كل المناطق المغربية للنهل من معين العلم، إذ على الرغم من أن هذا الرجل كان أميا، تشير المصادر إلى أن شغفه بكتاب الله وحبه للعلم والعلماء فاق الإعجاب والتقدير، حتى أنه كان لا يفارق العلماء، ولا يقدم على أمر إلا إذا سأل أهل العلم، كما كان يعتني بالكتب عناية خاصة فلا تفارق جنبه أبدا، ويبحث عن المخطوطات ويبعث في طلبها من مظانها ليوفر مراجع لمن معه من رواد المعرفة حتى أصبح يخيل لمن يراه بداءة أنه من فطاحل العلماء.
ولا شك أن هذا الشغف الكبير بالعلم والعلماء إنما هو انعكاس للبيئة العلمية التي ترعرع فيها، فقد كان جده إبراهيم بصير، رحمة الله عليه، ذا بصيرة نيرة حازت العلم والدين، كما يؤكد أستاذنا الفاضل كريم الجيلالي، كما كان لوالده فقه بالمعارف خاصة الفقه والحديث وعلم الهيئة والتفسير، وهنا نشير إلى أن زاوية آل بصير، الزاوية البصيرية، كانت كما اليوم محجا للعلماء فزارها مجموعة من العلماء.
واسمحوا لي أن أتعصب قليلا، أنا لا أتعصب لشيء ولكن لدكالة، فمن النفحات الربانية شاعت في هذه البلاد، أن زار الشيخ أبي شعيب الدكالي بني ملال، وأقصد الشيخ أبي شعيب الدكالي العالم الوزير، ونحن نعلم أن الشيخ أبي شعيب الدكالي كان له نفحة سلفية ولكن السلفية الوطنية التي دافعت عن الوطن وعادت بالبلاد إلى الإصلاح، وليس المفهوم السلبي الآن.
فقد زار هذه المنطقة ووقعت له مع الشيخ ابراهيم البصير إشارة ينبغي أن نقف عندها، فقد أشار صاحب الاغتباط إلى ثلة من المشايخ والعلماء الذين سعوا إلى زيارة الشيخ في زاويته أو التقوا به مغتنمين فرصة وفادته على القطب التادلي، مثل الحافظ أبي شعيب الدكالي الذي التقى به أثناء زيارته لإقليم تادلة، حيث قدم له الشيخ ابراهيم البصير ناقة هدية لله وللعلم الشريف، والحمد لله أننا نرى إخوتنا في الزاوية البصيرية يحافظون على ذلك، ونحن إذ نذكر ذلك فليس من باب الإطراء، والبحث العلمي لا يعرف الإطراء، وهذا لا يعني أننا لا نقول الحق، وقبلها الشيخ أبي شعيب الدكالي قائلا: والله يا شيخ ما تلقيت هدية أكثر ولا أحسن من هذه، وتعرفون أن الشيخ أبي شعيب الدكالي لا يعرف في الحق لومة لائم ولا يعرف المجاملة.
وهذه القصة تذكرني بقصة وقعت أخيرا، وقد حكاها لي أستاذي الفاضل بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة، وهو شيخ سيدي كريم الجيلالي، سيدي الدكتور أحمد الوارث، وهو رئيس وحدة البحث في الزوايا والرباطات بالكلية، أنه زار منطقة بني ملال في إطار المشاركة في ندوة من الندوات، والتقى بمولاي إسماعيل بصير وإخوته، ولعله يحتذي حذو أبيه وجده في ذلك، إذ رأى أنهم لم يكرموا وفادتهم بالصورة التي ينبغي أن يُكرموا بها، فاستدعاهم إلى الزاوية، وكانت المفاجأة أن الدكتور أحمد الوارث قد قرأ بحث الأستاذ سيدي كريم الجيلالي حول الزاوية، وعندما كان يقرأ كان يتعجب كأنه لا يصدق، لكنه عندما رأى الزاوية وزارها ورأى الشيخ مولاي إسماعيل وكرمه الحاتمي، نبه سيدي كريم الجيلالي على أنه لم يذكر كل شيء عن الزاوية البصيرية، وأنه كان ينبغي عليه أن يزيد ويطيل في مدح سجايا هذه الزاوية العامرة بذكر الله.
وزار كذلك، هذه الزاوية ثلة من العلماء من مدينة الجديدة في الشهر الماضي، في إطار ندوة علمية بينها وبين كلية الآداب في الجديدة والعلوم الإنسانية بالجديدة، ما يدل على انفتاح الزاوية البصيرية على النخبة العلمية وعلى محيط البحث العلمي، وكانت المفاجأة أن هؤلاء الأساتذة عندما عادوا إلى الكلية لم يصدق الناس ما يذكرونه عن الزاوية البصيرية، وهذا من المبشرات، التي بشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأمة، أن هذه الأمة كلها خير “الخير في وفي أمتي إلى قيام الساعة”، “ومن قال لا خير في الناس فهو أهلكهم”.
الجانب الثالث وهو أساسي كذالك الجانب الاجتماعي والجانب الأخلاقي، فقد اشتهرت الزاوية منذ نشأتها بإيواء المستضعفين والفقراء والمساكين، فكانت تهيئ لهم الطعام والملبس والمشرب، في حين أن الشيخ نفسه كان يحرم نفسه من ذلك، إلى جانب ما اهتمت به الزاوية من الإصلاح بين المتخاصمين، يؤكد المختار السوسي وكل الباحثين الذين في هذه الزاوية ومنذ نشأتها أنها كانت تقوم بدور رائد في الجمع بين القبائل المتناحرة، ولعل من بركة وجود الشيخ في هذه المنطقة أن الله عز وجل قد وحد ببركته بين مجموعة من القبائل، ومن ذلك أنه كان إذا أراد أن يصلح بين قبيلتين يقدم بين يديه ناقة ليكرم المتخاصمين.
الجانب الأخير وأختم به، وينبغي أن تهتم به الحركة الصوفية ولا تغفله، وهو الدور الأخلاقي، دور السلوك، وأقول بكل صراحة، وأستسمحكم في أن أقول هذه الكلمة: إن الزوايا ليست مكانا للخرافة والجذبة، وليست مكانا للتسول، والحمد لله لا نرى هذا في زاوية آل البصير، فأنا لاأحس بأن الشيخ وأنت تسلم عليه أنه يتشوف لشيء منك، ولكن للأسف الشديد أنه ذب الوهن إلى بعض الطرق الصوفية، فأصبحوا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، والدعوة إلى الله ليس لها ثمن، ومن سعى الله يرزقه من فضل الدنيا والآخرة، ومن سعى باسم الله ليملك الدنيا، يخسرهما، وهذا الجانب المهم ينبغي على الزوايا المجاهدة أن تحافظ عليه وهو الجانب الأخلاقي، والجانب الثاني هو محيط الزاوية، فمحيط بعض الزوايا وللأسف الشديد تنتشر فيه الدعارة والبغاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والسلام عليكم ورحمة الله.