بعض تجليات الترابط بين المغرب والجزائر وضرورة العمل على إحيائه
الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه تعالى ونستعينه، فلك الحمد يا رب حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ونصلي ونسلم على سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله الصادق الوعد الأمين، وعلى صحبه وآله الطيبين الطاهرين، ومن اهتدى بهديهم ودعا بدعوتهم واستن بسنتهم وسلك طريقهم القويم إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها الأفاضل، أيها الأكارم، أحييكم جميعا بتحية أهل الجنة في الجنة فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وتحية عطرة إلى هذا الشعب المعطاء الخير المضياف، وإلى جلالة أمير المومنين محمد السادس حفظه الله ورعاه وحفظ الله هذه البلاد من كل سوء، وتحية طيبة مباركة إلى السادة العلماء الأفاضل كل واحد باسمه، وكل طلاب العلم وكل المحبين، كل واحد باسمه وبشخصه الكريم.
الحديث عن هذا الموضوع يحتاج إلى لفتة تاريخية، ويسمى عند علماء الاجتماع السوسيولوجيا التاريخية، ويسمونه كذلك بالانتربولوجيا، يحتاج إلى نظرة تاريخية إلى الماضي، أي الجواب عن السؤال التالي:كيف كانت هذه الشعوب الإسلامية تعيش في تعايش وفي تآزر وفي تناصر؟.
فإذا نظرت إلى أي شخصية من الشخصيات العلمية الروحية الصوفية، خاصة منهم الزهاد الكبار، من رجال المقاومة، سواء أكانت هذه المقاومة بالعلم أو بالجهاد المسلح أو بغيره، فإننا نجد أن الترابط جد قوي ومتين لا يمكن أن يقطعه قاطع، وتجدر الإشارة إلى أن أعلام التصوف في هذه البلاد وفي الجزائر هم على ترابط مستمر وثيق قوي، لا يمكن لأي دارس مهما كان إلا أن يجد هذا الترابط حقيقة واقعية.
فلو أنك نظرت إلى العلامة المقري رحمة الله عليه، صاحب كتاب “نفح الطيب” تجده ولد في الحضنة وتوفي في تلمسان، وإذا رأيت إلى سيدي إبراهيم الداودي، تجده ولد بفاس ومات في تلمسان، وإذا رأيت إلى سيدي الهواري المشهور في وهران تجده قرأ في فاس، وإذا تأملت في كل واحد منهم تجد هذا الترابط متجليا واضحا، وغير هؤلاء من العلماء وجدنا هذا الترابط متجليا، وهذا الفعل والحضور الإيجابي واضحا في أعمالهم وفي أفعالهم وفي مريديهم وفي تصرفاتهم.
وسيجرني هذا إلى الحديث عن معنى التصوف، لأن التصوف كما يفهمه البعض هو فقط عبارة عن قشور وعبارة عن أشياء ظاهرية ليس لها علاقة بالروح، وليس لها علاقة بالمعنى، وليس لها علاقة بالتصرف والسلوك، ولكن الحقيقة غير ذلك، فعلماء التصوف علماء الإسلام المشاهير، ويعجبني إعجابا كبيرا قول الإمام الشيخ محمد الغماري رحمة الله عليه، لما سئل عن أول من أسس التصوف؟، وهل هو بوحي سماوي؟، فأجاب أن الطريقة أسسها الوحي السماوي، في جملة ما أسس من الدين المحمدي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة، وهذا معروف مشهور في الحديث الذي ذيله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “هذا جبريل عليه السلام أتاكم ليعلمكم دينكم” رواه الإمام مسلم.
ومعنى هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام بعدما أجاب جبريل عن الإسلام، وعن الإيمان، وأجاب عن الإحسان، فكان طريق القوم هو الإحسان، ولعل من الجمل التي شاعت وانتشرت وذاع صيتها بين أعلام الفكر والقلم من العلماء العاملين ومن أرباب العلوم والسيوف تلك التعاريف التي نحتاج إليها في التأسيس حتى يعرف الإنسان أن التصوف له أصل قوي في شريعة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ولهذا فالتصوف هو علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك وتصفية الباطن من الرذائل وتحليتها بأنواع الفضائل وأوله علم ووسطه عمل وآخره موهبة.
وقال الإمام أبو الحسن الشاذلي رحمة الله عليه التصوف تدريب النفس على العبودية، وردها إلى أحكام الربوبية، كما ذكره ابن عجيبة وغيره، ورحم الله شيخ زروق حين عرف هذا الفهم فقال: التصوف علم قصد لإصلاح القلوب وإفرادها لله تعالى عما سواه كما قال الإمام الجنيد وغيره: التصوف استعمال كل خلق سني وترك كل خلق دني والتصوف كله أخلاق فمن زاد عليك في الأخلاق زاد عليك في التصوف.
أعتقد أن الكلام في هذا الباب يجعلنا نقول: أن هؤلاء الذين كتبت أسماؤهم من ذهب في أعلام التصوف، وفي أعلام علم التوحيد، وفي أعلام العلوم الشرعية في البلدين، كانت تجمعهم حقيقة روابط متينة ضربت أعظم الأمثلة لتجليات الترابط بين الشعبين الشقيقين وبين الجارتين المغرب والجزائر.
ولهذا ينبغي أن نفهم أن حد العنوان “ضرورة إحياء” أن هذه الأشياء أنشئت ونحن نريد إحياءها، لأن إحياء هذه الروابط هو عمل شرعي: فالتآخي والتواد والتناصح كلها من تجليات النظرة الإيجابية عند المتصوفة في هذا العصر، فكيف ينبغي أن يتعاطى الصوفية مع مجتمعاتهم ومع طلابهم ومع مريديهم؟، وما هي النظرة الثاقبة التي ينبغي أن يركز عليها أهل التصوف في عصر العولمة؟.
تعلمون أيها الإخوة أننا كثيرا ما أصبحنا نسمع الجدال بين عدة نظريات مختلفة وأفكار متضاربة تتمثل في مجملها حول هذه الأعمال التي يقوم بها المتصوفة هل لها سند في الشريعة أم أنها بدعة وضلالة وزندقة وبعد عن الله؟
أحب أن أقول هنا لإخواني من أهل التصوف، ولكي نكون إيجابيين أكثر، فلابد من عدة أمور:
أول ذلك العلم، الإمام البوصيري رحمه الله يقول: اعلم أن طريقنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، وكل الأوائل كانوا على هذا الفهم السليم، وكانوا يعظمون الشريعة ويقدسونها ويعملون على تطبيقها كما جاءت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما اشترطوا في العلم الشرعي اشترطوا الصحبة، وتعلمون أن خيار الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الصحابة، ولم تعرف أفضلية أفضل من صحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك يشترط السادة الصوفية مصاحبة الشيخ على المنهج الذي يمكن التلقين به لأن في ذلك استفادة عدة أشياء تطبيقية عملية، إذن فالصحبة ليست بدعة ابتدعها المتصوفة بل هي من قلب وصميم السنة وإتباع للمصطفى عليه الصلاة والسلام.
وأشرف الناس بعد الصحابة هم التابعون، نالوا هذه المرتبة الكريمة بسبب صحبتهم للصحابة، ثم حاء تابع التابعين ونالوا هذه المرتبة لأنهم صحبوا أخيارا، وبذلك من صحب الأخيار من العلماء دائما يذكر سنده واتصاله بمن كان لهم السبب الحقيقي في هذا الخير، وهذا سيدي إبراهيم البصير في الطريقة يذكر نسبه إلى الإمام الشاذلي، فهذا النسب المتصل إنما هو يحمي هذا الكيان وهذه النظرة الجميلة.
الأمر الآخر بعد الصحبة الذكر، وكما تعلمون مكانة الذكر في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام مكانة لا تخفى، ونحن في هذا المجلس في مجلس ذكر لله، قال الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام: “إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قيل وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: “حلق الذكر”، تعلمون أن من أفضال حلق الذكر أنها تحفها الملائكة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الذكر لا يشقى بهم جليسهم، وأن الذكر مرتبة عظيمة، قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا”، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي:” من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه”، وهذه بضع من الأحاديث الكثيرة الطويلة والعريضة التي صحت ووردت عن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في باب الذكر، تبين أن القوم- أي أهل التصوف- ساروا على المنهج الصحيح السليم في فهم هذا الوعاء الكبير الذي ندعو إليه، ألا وهو إحياء الترابط، وبخاصة التربط الصوفي بين الجزائر والمغرب.
الأمر الآخر الذي أحب أن أشير إليه وهو كلام جمعه سيدي بن عاشر في أول منظومته المشهورة، جمع فيه أمورا نشتركها معا، يقول رحمه الله:
وبعد فالعون من الله المجيـد في نظم أبيات للأمي تفيـد
في عَقْدِ الأشعري وفقه مالك وفي طَريقَةِ الجُنَيْدِ السَّالِـكِ
فبهذا التواضع كتب لنظمه “المرشد المعين” الخير والبركة والقبول، ولا يزال محفوظا في صدور الناس في كل البلاد المغاربية، ولازال محفوظا في أوراق الكتب، ولازال الشراح يتطورون في شرحه، لأنه فيه الورع والعلم والتواضع.
فهذا الجسر المتواصل في العقيدة وفي المذهب المالكي، الذي ينسب إلى سيدنا الإمام مالك إمام دار الهجرة رضي الله عنه، وفي سلوك الإمام الجنيد، أي السلوك الصوفي الحقيقي الذي يجمع بين هذه الروابط وبين الطرق الجزائرية والطرق المغربية، فتجد أصلها من هنا وأصلها الآخر من هناك، فهذا الترابط هو وحده كفيل بنا أن نكون شعبا واحدا متآزرا متناصرا متعاونا متآخيا، وأن فكر التصوف يبعد الناس ويبعد الشباب بالأخص عن التطرف وعن العنف وعن الفهم السقيم للسنة وعن معرفة العادات التي انتشرت في بلادنا جميعا مما يخالف شرع الله عز وجل وهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه حقيقة التصوف، وهذا هو الأمل المنشود في هؤلاء العلماء، وهؤلاء الخطباء، وهؤلاء الأدباء، وهؤلاء الإعلاميين، أن نكون شحنة واحدة ولحمة أصلية واحدة، لأن أصولنا جاءت من هناك من ذلك الشريف الكبير سيدنا مولاي إدريس رضي الله عنه وأرضاه وعن جميع الأشراف أينما كانوا وأينما حلوا وذلك الرابط من روابط النبوة، وذلك الرابط من روابط الخير التي تجمعنا على المحبة وعلى التآزر وعلى الخير لما يجمع مصالح المسلمين لقوله تعالى : “إنما المومنون إخوة”، فنحن قبل أن نكون أشقاء فنحن إخوة، ومن تلك الروابط الأمازيغية التي نشتركها، والتي جمعتنا وانتصرت لهذا الدين، إنما تدعونا إلى إحياء هذه الروابط وإلى تجديدها على ما تجتمع عليه الأمة من خير وبركة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: “لا تجتمع أمتي على ضلالة”.
وأجدد شكر الكريم إلى الأسرة البصيرية وإلى شيخها سيدي مولاي إسماعيل وإلى الدكتور عبد المغيث وإلى كل واحد باسمه وإلى هذه الجموع المباركة التي أخبر عنها النبي عليه أزكى الصلاة والسلام : “جددوا إيمانكم بملاقاة بعضكم البعض” أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فهذه اللقية أكبر ثمرة وأكبر رحمة وأكبر خير بأن تتلاقح الأفكار، وكلنا كالأزهار، وكل واحد منا وإلا وفيه دواء.
أسأل الله العلي القدير أن يجعل جمعنا جمعا طيبا مباركا وبارك الله في الحاضرين وبارك الله في هذه الأرض الطيبة وفي هذه الزاوية الكريمة، بارك الله في لجنة الإعلام، وجزاكم الله خيرا.