الوقوف في حدود الله انطلاقا من حديث السفينة
الوقوف في حدود الله انطلاقا من حديث السفينة
الأستاذ مولاي يوسف بصير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، نحمده تعالى على فضله وإحسانه حمدا كثيرا، ونشكره سبحان وتعالى على نعمه التي أسبغ علينا بكرة وأصيلا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، امتن على عباده بفيض نعمه وآلائه، ودعانا إلى التأمل فيها وشكرها في قوله: “وأما بنعمة ربك فحدث”، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، سيد من عرف نعم الله فشكره عليها، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المتمسكين بسنته السائرين على نهجه الشاكرين لنعمائه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون، أخرج الإمام البخاري عن سيدنا النعمان بن بشير (ض) عن النبي ﷺ قال: “مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا”،
أيها المؤمنون، ما أحوجنا اليوم للوقوف على هذا الحديث والتأمل في معانيه التي تهدف إلى إنقاذ المجتمع من تصرفات بعض الناس الذين لا يهمهم سوى مصلحة أنفسهم كما يرونها هم لا كما ينبغي أن تكون، وقد ضرب رسول الله ﷺ هذا المثل ليكون أبلغ في العظة والإعتبار، ومضمونه أن المجتمعات الإنسانية بصفة عامة، لا تخلو من وجود فئتين من الناس، أولهما الواقف في حدود الله، الساهر على مصالح العباد، الذي وهبه الله تعالى فكرا ثاقبا، ورؤية مستقبلية، وتصورا بناءا لخدمة المجتمع والرقي به إلى المعالي، والسير به نحو التنمية بجميع مجالاتها، والثاني نوع من الناس، لا يرى إلا مصلحته، ولا يهتم إلا بما يظن أنه نافع له، ويبذل في سبيل نفع نفسه بحسب منظوره الغالي والنفيس، ولا يهتم لما قد يلحق المجتمع بأسره من تبعات نتيجة تصرفاته، في حين أن المجتمع كله عبارة عن سفينه في وسط البحار تتقاذفها الأمواج من كل مكان وعلى الجميع أن يعمل على الرسو بها في شاطئ الأمان، ويعمل على نجاتها وركابها، فهذا الحديث النبوي مثل ضربه رسول الله ﷺ منبها المجتمع الإنساني المسلم إلى ما قد يجر عليه الإندفاع والأنانية من ويلات، وما ينتج عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خيرات،
أيها المؤمنون، هذا الحديث من الأمثال التي ضربها النبي ﷺ للإعتبار والعظة، قال تعالى: “وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ”، يصور من خلاله حال المجتمع الذي تقع فيه المعصية والمخالفة، وذلك أن هذا المجتمع يركب جميعاً سفينة واحدة، فإذا عمد إليها سفيه وخرقها فإنه لا يغرق نفسه فحسب، وإنما يغرق من في السفينة، يقول رسول الله ﷺ : “مثل القائم في حدود الله” بمعنى المدافع عن حدود الله، والذابّ عنها، الذي يحفظها، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويغار على دين الله، “والواقع فيها” أي الذي ينتهك حدود الله، ويفعل المحرمات، ويجترئ على المخالفات، “كمثل قوم استهموا على سفينة”، ارادوا السفر بحرا، وكانوا كثرا، لايتسع أعلا السفينة ليكونوا عليه جميعا، ولا بد أن تكون منهم طائفة في الطابق السفلي منها، فاقترعوا وصار حق هؤلاء أعلى السفينة، وحق الآخرين أسفل السفينة. قال ﷺ ” فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، بمعنى إذا أرادوا أن يأخذوا من ماء البحر لقضاء مآربهم، يحتاجون إلى الصعود إلى أعلى السفينة، وقالوا: نحن أشغلنا هؤلاء الناس وآذيناهم وضيقنا عليهم بصعودنا المتكرر إليهم، فما هو الحل؟ فقالوا: ” لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ مَن فوقنا”، بمعنى يجعلون ثقبا في أسفل السفينة ليكون لهم حظ من الماء يغنيهم عن الصعود إلى أعلى السفينة كل مرة، وهذا التفكير ليس صائبا، بحيث لو فعلوه لغرقت السفينة بأكملها، قال رسول الله ﷺ “فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً” إذن فلا بد من منعهم ومدافعتم حتى لا يجنون على أنفسهم وعلى من هم أعلا السفينة، قال تعالى: ” ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين”، وقال أيضا: “ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرَن الله من ينصرُه إن الله لقوي عزيز”،
أيها المؤمنون، إن ما يصيب المجتمعات الإسلامية اليوم إنما هو من جراء ما يجنيه عليه بعض الناس من شرور سببها الأنانية المفرطة، والإندفاع السلبي، الذي لا تكون خطواته محسوبة، وأكثر ذلك، عدم التقيد بالشرع الذي يوصي بلزوم الإتباع والتقيد بالمبادئ العامة للتعايش الإنساني، وقد صح في الحديث عن أبي نجيح العرباض بن سارية (ض) قال: وعظنا رسول الله ﷺ موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: “أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيري اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة”. فاللهم اهدنا الصراط المستقيم، واحشرنا في زمرة النبيئين والصديقين، ووفقنا لطاعتك في كل وقت وحين، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون، لاشك أن الكثير منا لا حظ تغيرا كثيرا في تصرفات الناس وأخلاقهم، بما فيهم نحن أيضا، وهذا التغير جاء نتيجة أنانيتنا المفرطة، الكل منا يريد جلب النفع لنفسه ولذويه، ويضرب بعرض الحائط مصالح الناس ومنافعهم، وهذا لعمري من المنكرات التي ينبغي تغييرها في أنفسنا أولا، وفي من يلينا ثانيا من أبنائنا وبناتنا وأزواجنا، وجيراننا ومن حولنا، جاعلين نصب أعيننا أننا نعيش في مجتمع ينبغي أن تتكافأ فيه الفرص، وأن حريتنا الشخصية تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين، وهذا السمو بالأخلاق لا يتأتى إلا بإيثار بعضنا لبعض، وبامتثالنا للقوانين والتشريعات التي سنت لتنظيم الروابط الإجتماعية والإنسانية بيننا، وها نحن نرى ونسمع منذ ما ينيف عن عشرين سنة ما وقع ويقع للمجتمعات حولنا من ويلات كان سببها الإندفاع والأنانية وعدم التقيد بالنظم والتشريعات، فكانت النتيجة خرابا للديار والإقتصادات، وتدهورا في الأخلاق، وندما لا ينفع على ماكان قد فات، فالحذر الحذر من سوء التصرفات، وأوصيكم ونفسي بتقوى الله، والعمل لصالح الأمة ورفع شأن العباد، واحذر أخي أن تثلم أمة الإسلام من جهتك، تخلق بأخلاق القرآن، واستن بمنهج النبي العدنان، قال الله تعالى: “وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون”. الدعاء
والله كلام جميل ندعو الله ان يهدينا