الوفاء بالعهد

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الحمد لله الذي غرس محبته ومعرفته في قلوب الصالحين، وأقام على الفطرة السليمة والمحجة البيضاء هذا الدين، وجعل الصدق والأمانة والوفاء بالعهد شعارا للمؤمنين، والكذب والخيانة وخلف الوعد من خصال المنافقين، نحمده تعالى ونشكره على أن جعلنا من أمة سيد المرسلين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المتقين، ونشهد أن سيدنا محمدا رسول الله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات، في الجمعة الماضية تكلمنا عن خلق الوفاء في العهود والمواثيق والمعاملات باعتباره من أهم خصال الإسلام وعلامة على ترسخ الإيمان في هذه الأمة، وقلنا بأنه يرتبط ارتباطا وثيقا بمصالح الإنسان، وأنه عملة أصبحت ناذرة في هذا الزمان، واليوم وتتمة لهذا الموضوع أقول لكم أيها الإخوة المسلمون: لعلكم لا تدرون حينما تعدون إنسانا بشيء ما الذي رتبه على وعدكم له من المصالح والأعمال، وعلق عليكم بحسن ظنه من الآمال، فإذا أنتم أخلفتم وعده فقد خيبتم ظنه، وضيعتم بخلفكم آماله، وقوضتم أركان أمانيه، وحملتموه على عدم الثقة بكم وبدرتم بدور الشقاق والعداوة بينكم، فينقلب من محب لكم ودود إلى عدو لكم لدود، وهذا شأن كثير من الناس ممن بيدهم مصالح الناس إذا قصدتهم في مسألة تهمك أو تهم صديقا لك وسألته إنجازها أفسح لك المجال في مكتبه، وأظهر لك صدق نيته ورغبته، وجعلك تطمئن لمساعدته بما يسمعه لك من عذوبة في كلامه، ولطف في مجاملته، فتنصرف من عنده ونفسك مطمئنة راضية بوعوده، ثم تمر الأيام ولا تجد أثرا لتلك الوعود الخاوية، ومثل هذا ينطبق عليه قول الله تعالى: “يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم”، وهذا ليس من أخلاق المؤمنين الذين يقول فيهم محمد ص: “المؤمن إذا حدث صدق، وإذا أئتمن أدى، وإذا عاهد وفى”، وأين خلق هذا الإنسان من خلق عمر بن الخطاب ض، فقد روي عنه أنه لما أوتي له بالهرمزان أسيرا-أمير من أمراء الفرس قبض عليه في معركة القادسية- دعاه إلى الإسلام فأبى ورفض فأمر عمر بقتله، فلما عرض عليه السيف قال الهرمزان: لو أمرت لي يا أمير المؤمنين بشربة من ماء فهو خير من قتلي على الظمأ، فأمر له بها، فلما صار الإناء في يده قال: أنا آمن حتى أشرب؟، قال نعم، فألقى الإناء من يده وقال يا أمير المؤمنين، الوفاء نور أبلج، قال عمر: لك التوقف حتى أنظر في أمرك، فلما رفع عنه السيف قال الهرمزان: الآن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، فقال له عمر ض، ويحك أسلمت خير إسلام، فما أخرك؟ قال خشيت يا أمير المؤمنين أن يقال: إن إسلامي كان خوفا من الموت. ثم كان عمر يشاوره بعد ذلك في الشؤون الحربية ويأخذ برأيه. هكذا أيها المسلمون يفعل الوفاء بأهله، صدقوا ما عاهدوا الله عليه فجعلهم الصدق والوفاء والأمان خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله الملك الديان، فلنتخلق بخلق الوفاء، ولنتعامل به مع الأصدقاء والأعداء، ولنجعله مبدأ من مبادئنا في اختياراتنا، ولنحذر أن نكون من الذين قال الله تعالى فيهم: “لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم، فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم، ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا، إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون، ما عندكم ينفد وما عند الله باق، وليجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن من كانوا يعملون”، أيها المؤمنون، تعالوا معي إلى مدرسة سيدنا محمد التي خرجت عباد الله الأوفياء، اسمعوا إلى هذه القصة، أتى شابّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب (ض) وهما يقودان رجلاً من البادية فأوقفوه أمامه، فقال سيدنا عمر: ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، هذا قتل أبانا، فسأله أمير المؤمنين : أقتلت أباهم ؟ قال نعم قتلته ، قال : كيف قتلتَه ؟ قال : دخل بجَمَله في أرضي فزجرته فلم ينزجر فأرسلت عليه حجراً وقع على رأسه فمات، قال سيدنا عمر: القصاص إذن، ولم يسأل عمر عن أسرة هذا الرجل هل هو من قبيلة شريفة؟ هل هو من أسرة قوية؟ ما مركزه في المجتمع؟ كل هذا لا يهم سيدنا عمر(َض) لأنه لا يحابي أحداً في دين الله ولا يجامل أحداً على حساب شرع الله، قال الرجل: يا أمير المؤمنين: أسألك بالذي قامت به السماوات والأرض أن تتركني ليلة، لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية، فأُخبِرُهم بأنك سوف تقتلني، ثم أعود إليك، والله ليس لهم عائل إلا الله ثم أنا قال عمر: من يكفلك أن تذهب إلى البادية، ثم تعود إليَّ؟ فسكت الناس جميعا لإنهم لا يعرفون اسمه ولا خيمته ولا داره ولا قبيلته ولا منزله فكيف يكفلونه وهي كفالة ليست على أموال ولا على أرض ولا على ناقة إنها كفالة على الرقبة أن تُقطع بالسيف ومن يعترض على عمر في تطبيق شرع الله؟ ومن يشفع عنده؟ ومن يمكن أن يُفكر في وساطة لديه؟ فسكت الصحابة وعمر مُتأثراً لأنه وقع في حيرة هل يُقدم فيقتل هذا الرجل وأطفاله يموتون جوعاً هناك ؟ أو يتركه فيذهب بلا كفالة فيضيع دم المقتول ؟ وسكت الناس ونكّس عمر (ض) والتفت إلى الشابين، وسألهم أتعفوان عنه؟ قالا: لا من قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين، قال عمر: من يكفل هذا أيها الناس؟ فقام أبو ذر الغفاريّ بشيبته وزهده وصدقه قال: يا أمير المؤمنين أنا أكفله قال عمر: هو قَتْل، قال ولو كان قاتلا قال: أتعرفه؟ قال: ما أعرفه قال: كيف تكفله؟ قال: رأيت فيه سِمات المؤمنين، فعلمت أنه لا يكذب، وسيأتي إن شاء الله قال عمر : يا أبا ذرّ، أتظن أنه لو تأخر بعد ثلاث أني تاركك؟ قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين، فذهب الرجل وأعطاه عمر ثلاث ليال، يُهيئ فيها نفسه يُودع أطفاله وأهله، وينظر في أمرهم بعده ثم يأتي، يُقتص منه لأنه قتل، وبعد ثلاث ليالٍ لم ينس عمر الموعد وفي العصر نادى في المدينة: الصلاة جامعة فجاء الشابان واجتمع الناس وأتى أبو ذر وجلس أمام عمر، قال عمر: أين الرجل؟ قال لا أدري يا أمير المؤمنين، وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس وكأنها تمر سريعة على غير عادتها
وسكت الصحابة واجمين، عليهم من التأثر مالا يعلمه إلا الله وقبل الغروب بلحظات إذا بالرجل يأتي فكبّر عمر وكبّر المسلمون معه فقال عمر: أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك ما شعرنا بك وما عرفنا مكانك، قال: يا أمير المؤمنين والله ما عليَّ منك ولكن عليَّ من الذي يعلم السرَّ وأخفى ، ها أنا يا أمير المؤمنين تركت أطفالي كفراخ الطير لا ماء ولا شجر في البادية، وجئتُ لأُقتل، فاستغرب عمر بن الخطاب وقال : ما الذي أرجعك ؟ فقال الرجل: خشيت أن يقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس، فسأل عمر بن الخطاب أبو ذر لماذا ضمنته ؟، فقال أبو ذر : خشيت أن يقال لقد ذهب الخير من الناس
فتأثر أولاد القتيل، فقالوا لقد عفونا عنه، فقال عمر بن الخطاب: لماذا ؟، فقالوا نخشى أن يقال لقد ذهب العفو من الناس فاللهم اجعلنا وإياكم من الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون، أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون. آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
فيا أيها الإخوة المؤمنون، تعلمون جميعا أن في تاريخنا المغربي الحديث وغير بعيد، كنا نسمع عن سوق يسمى سوق عام، وسوق عام هذا هو مناسبة تجارية تقام مرة واحدة في السنة، في أقاليمنا الجنوبية الصحراوية قرب مدينة كليميم الآن، كانت تؤمه جموع التجار من شمال المملكة المغربية ليلتقوا بإخوانهم التجار القادمون من تخوم الصحراء، من دول مالي تشاد النيجر موريطانيا والجزائر، وكانوا يتبادلون فيه السلع ويقتنون أنواع التجارات، وعندما ينفذ ما معهم من مال وسلع يعطون لإخوانهم عهدا على اللقاء في العام القادم، وكانوا أحرص ما يكون على الوفاء بعهودهم هذه ولم يكن لهم شيكات ولا كمبيالات يضمنون بها سداد الدين، ومع ذلك كانوا يوفون، أما الآن فحالنا عجب، نتواعد ونشهد على المواثيق أهل الفضل، ونكتب الشيكات والكمبيالات، ومع ذلك نغذر في عهودنا ومواثيقنا، لآننا لا نعلم بأن خلفنا للوعود والمواثيق هو الذي جعلنا الآن نفقد أحسن قيمة وأفضل وسام للمسلمين وهو الثقة بين الناس. ألا فلنرجع لديننا نستمد منه هذه القيم وروحه المبنية على الإحسان والوفاء. ونبثها لإي أبنائنا ومن سيخلفنا بخير في هذا البلد، لنمده بمشعل الفضائل والمكرمات، تكون سمة من سماتهم، ويلتذون بها في تطبيقهم لشريعة الله المبنية على الوفاء بالعهود، ويكونون من الأبرار المستحقين لثناء الله عليهم بقوله بسحانه: “إنَ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا، يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا، إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا، فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا، وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا”، الدعاء.

مقالات مماثلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *