الوجود الإيجابي لآل البصير في الصحراء وبني مسكين
يرجع نسب آل البصير إلى الشرفاء الرقيبات1، الذين ينتهي نسبهم إلى الشيخ الشهير سيدي أحمد الرقيبي2 دفين الرقيبة بوادي أدرى3 في اكتاوة ناحية زاكورة، المنحدر بدوره من الشيخ الشهير مولاي عبد السلام بن مشيش الإدريسي الحسني دفين جبل العلم من بلاد غمارة. أما زاويتهم ببني عياط بتادلة، فتعتبر أكبر وأشهر زاوية في هذا القطر بعد زاويتي الصومعة وأبي الجعد4.
اشتهر ذكر آل البصير أول الأمر في الساقية الحمراء وأحوازها، وكان سبب الشهرة الصلاح والتصوف. وأول من اشتهر من هذه الأسرة الفقير قاسم المدعو كيسوم، الذي عرف بالزهد والصلاح، حيث كان أهل تلك الناحية يخدمونه على عادة الناس5. ولم يكن “يُعرف عند أهل الصحراء ووادي نون إلا أنه رجل يسعى في الصلح وإطفاء النائرات، والبث في النوازل والمنازعات، وترك الخلافات والمناوشات”6. وبسبب ذلك علا شأنه بين ساكنة هذه المناطق سواء في حياته أم بعد مماته، فقبره مشهور بوادي أربيب7 بلاو بالساقية الحمراء، ولا يزال الناس يقصدونه للتبرك8. وعليه، يمكن القول إن سيرة هذا الشيخ كانت هي المنطلق الفعلي لشهرة آل البصير خاصة في الساقية الحمراء والمناطق المجاورة لها.
وبعد هذا الشيخ أخذت شهرة آل البصير تتسع شيئا فشيئا، وهكذا وصل خبرهم إلى بلاد شنقيط ومنها إلى السودان الغربي. وعُرفوا أول الأمر في هذه المناطق إما طالبين للعلم أو ممارسين للتجارة.
ومن الذين اشتهروا في هذه البقاع الشيخ إبراهيم البصير بن الفقير كيسوم دفين مشهد سيدي همو أولحسن بالأخصاص من سوس، الذي سافر به والده في سن مبكرة جدا إلى شنقيط9 لمتابعة دراسته. فكان علمه إلى جانب ما عرف به من الصلاح سببا في جعل كل رؤساء القبائل “يقدرونه قدره، ويُحْضِرُونَهُ مجامعهم”10. وزاد من شهرته أنه لما عاد إلى الصحراء، أخذ يجوبها طولا وعرضا مرشدا إلى الله، حتى قيل إنه أصبح يعرف وجهات الصحراء وأراضيها بمجرد شم تربتها، ويحكي المختار السوسي أن أصحابه “أرادوا مغالطته يوما، فخبأوا ترابا من بعيد ناولوه له حين طلب أن يشم ترابا من المكان الذي وصلوه، فما إن شم التراب الذي ناولوه حتى أبرك جمله، فتناول ترابا آخر، وقال لهم: أتريدون أن تغالطوني، إننا في المحل الفلاني، فإن الذي ناولتموني هو من المكان الذي صلينا فيه وقت كذا، ونحن الآن بمكان كذا، وهذا من عجائبه ولله في خلقه شؤون”11، ولهذا وذاك عمت شهرته وطارت في الآفاق، وصار مهابا معظما.
وبعد المناطق المذكورة وصلت شهرة آل البصير إلى سوس، فهم الفخذ الوحيد من بين قبائل الرقيبات الذي دخل تلك البلاد12، وكان أول من دخل منهم الشيخ إبراهيم البصير الجد، الذي نزل أول الأمر في قبائل أيت باعمران حيث أسس زاويته هناك، فأصبح سكان القبائل يحجون إليها باستمرار، و”يخدمونها بمن فيها”13. فكان لهذه المعلمة الدينية أثرها في زيادة انتشار صيت آل البصير.
ولم تقف شهرة هذه العشيرة عند هذا الرجل، بل زادت واتسعت مع أبنائه وأحفاده. وقد اشتهر من بعده على الخصوص ابنه سيدي مبارك البصير الذي خلفه على رأس زاويته، ثم ولدي هذا الأخير، سيدي محمد البصير، الذي كان له فضل كبير في تدعيم مكانة آل البصير ليس فقط في الصحراء وسوس، بل أيضا في جنوب الصحراء وحوض السنغال، ثم سيدي إبراهيم البصير مؤسس زاوية بني عياط في تادلة، الذي نقل شهرة هذا الفخذ إلى باقي ربوع المغرب، وهو الذي يهمنا في هذه المداخلة بشكل أكبر بحكم أنه هو أول من دخل من هذه العشيرة الطيبة إلى هذه المناطق كشيخ مربي ومصلح، فكان له تأثير واضح في مناطق تادلة والشاوية وبني مسكين، بل وفي غيرها من المناطق المغربية، وهذا ما جعل شهرته تفوق جميع أبناء هذا الفخذ، ولعل هذا ما دفع المؤرخ محمد المختار السوسي إلى القول: “إنه إن كان لكل آل البصير شفوف في أعصارهم فإن له [إبراهيم البصير الحفيد] عليهم شفوفا كبيرا بما تأتى له من شهرة كبيرة، متسعة الهالة، مستفيضة الأحاديث، فياضة الأخلاق والكرم”14.
فبالإضافة إلى سوس والصحراء وجنوب الصحراء، ذاع صيت هذا الشيخ في كل من مراكش والرحامنة، وبني مسكين، والشاوية، والزيدانية، وتادلة، وبني ملال، وبني عياط، وغيرها من المناطق المغربية، وسنقتصر في مداخلتنا هذه على وجوده في بني مسكين، فنقول وبالله نستعين:
إن أمر الدعوة إلى الله كان من أهم المهمات التي آخذ بها الشيخ إبراهيم البصير نفسه منذ أن التقى بشيخه سيدي الحاج علي الإلغي السوسي. ولعلنا لن نجانب الصواب إذا قلنا أن هذا الأخير اصطفاه لهذه المهمة دون غيرها. وكان أول أمر أصدره إليه هو الأمر بالسياحة في عدة مناطق، موضحا له أنه لا يريد منه شيئا غير “… تصفية القلوب وبنائها على التقوى، والإصلاح بين العباد وربهم …]لأنه[ لا أكبر ولا أعظم عند الله كتوجيه الناس إلى ربهم، وانتشالهم من الغفلة”15.
وهكذا أرسله إلى عدة مناطق، ومنها الرحامنة ودكالة والشاوية وبني مسكين لوعظهم والأخذ بأيديهم إلى الله16. ويبدو أن التوفيق كان حليفه في مهمته هذه حتى إن “كل الأماكن التي وصلها استجابت له بالإقبال على الله “17، وما من قرية يدخلها “إلا تهتز اهتزازا لا مثيل له بالذكر والمذاكرة … وما إن يدعوهم إلى التوبة والرجوع إلى الله حتى يندفع الناس نحوه اندفاع العطشان لحافة البئر”18، لحد أدهش شيخه الإلغي أثناء زيارته له بالرحامنة و”فرح فرحا كثيرا حين رآهم مقبلين على ربهم، وقد تابوا وأنابوا، واندفعوا اندفاعا غريبا في السير إلى الله”19.
أما فيما يخص منطقة بني مسكين، فقد ذكر سيدي إبراهيم البصير أنه لمّا وصل إليها “… وجدها مكتظة بحفظة كتاب الله وقراء السبع، ويكاد يكون حفظة القرآن نحو نصف السكان، وذلك من أجل أن عندهم قائدا يحرر كل من حفظ القرآن، ويزداد حظوة إن حفظ السبع، فترامى الناس على ذلك قصد الهروب من المغارم”20.
وسبب حفظهم لكتاب الله وبالروايات هو قائدهم في ذاك الوقت محمد بن بوحافة، هذا القائد كان فقيها وحافظا واعيا، وراعيا محنكا خبيرا بأحوال الناس وبصيرا بأمورهم، ساس قبيلته بالتي هي أحسن، ففي بداية أمره أعلن أن كل من حفظ ابنه القرآن فهو مُعْفى من المغارم، ومن الأشغال المخزنية فتسارع الناس بأبنائهم إلى الكتاتيب القرآنية، فلما حفظوه برواية ورش وكثر الحفاظ، قال لهم من لم يحفظ القرآن بالروايات لا يسمي نفسه حافظا، فتسارع الطلبة إلى حفظ الروايات القرآنية، ولذلك تسمع منهم، الفقيه الحمزاوي، والمكاوي، والبصراوي، وأضحى كل بيت في القبيلة لا يخلو من حافظ للقرآن.
لكن في المقابل أكد سيدي إبراهيم أنه لما دخل هذه البلاد وجدها في جهالة عجيبة غريبة من الجهل بأركان الإسلام، فمعظم دهماء هذه البلاد لا تعرف الصلاة، والقليل من يؤديها أو يرفع لها رأسا، حيث قال: “تكون القرية تجمع مئات من خيام وأكواخ، ولا تسمع فيها أذانا، ولا تحس منها للدين ركزا”21. لا من حملة كتاب الله ولا من العوام، الكل في غفلة تامة وسبات عميق، عن الإسلام وتعاليمه، بل وجد أن من بين حفاظ السبع من لم يضع قط جبهته على الأرض.
ولهذا جعل أمر إشاعة الصلاة أول أهدافه بهذه البلاد “فأقبل هو ومن معه على إرشاد [الناس]، ووعظهم بقبول أداء الصلاة … ولم يكن إلا قليل حتى شاع الخبر بأن أناسا جاءوا يتتبعون القرى، يعلمون الناس الدين، والتوحيد والحلال والحرام”22. ونتيجة لذلك قصده الناس من أطراف القبائل، وأخذوا “يتوبون أفواجا أفواجا … وهم كأنما يبتدئون الإيمان من جديد”23، بل إنهم سموا ذلك العام الذي زارهم فيه سيدي إبراهيم بـ ” العام الذي جاءتنا فيه الصلاة”24.
ومن جهة أخرى، أكد سيدي إبراهيم البصير أنه وجد بني مسكين أرضا خصبة وصالحة لزرع الإيمان وغرسه في النفوس، بسبب سياسة قائدها التي دفعت الكثيرين إلى حفظ القرآن، إذ بمجرد أن “… يخالطهم ويتلو عليهم أحكام الدين، وأحكام الطهارة، وما في تقوى الله، حتى يتراجع من يريد به الله خيرا إلى الطريقة المثلى والمحجة البيضاء “25.
وكمثال على ذلك، نورد هذه الحكاية التي حكاها سيدي إبراهيم نفسه عن سياحته في بني مسكين: قال الشيخ : “قمنا في الصباح الباكر رافعين اسم الجلالة نحو قرية أولاد افريحة التي هرع رجالها ونساؤها، شيبها وشبابها، مرحبين وفرحين مستبشرين، يذكرون الله معنا مقلدين الفقراء في العمارة، وبعد ختم الذكر، أخذنا في دروس الوعظ والإرشاد، فأقبل علينا الناس ورأينا منهم إقبالا لا مثيل له، فأخذ الكل الورد والعهد على ملازمة طريق الإسلام والذكر على كل حال، معلمين لهم مبادئه السمحة من الوضوء والصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاملات فيما بينهم، وطريق السلوك إلى حضرت ملك الملوك، ولما لم نجد لهم السبح، أخذنا الدوم وفتلناه حبالا وعقدنا لهم فيها مائة عقدة، وما هي إلا ليلتان حتى كان الدوار كله فقراء، وبدأ الناس يفدون علينا من نواحي أخرى، طالبين الأخذ علينا، ومما يثلج الصدر هو ما يراه الإنسان من الإقبال على الله، وبين عشية وضحاها، أصبح في عنق الراعي، والشيخ، والمرأة، والطفل، وشيخ القرية، سبحة في الأيادي متحمسين للتعليم، وحريصين على الاتباع والتقليد، وسار معنا من الدوار خلق كثير بزي الفقراء المتجردين، من مدشر إلى مدشر، فيتقدمون مبشرين بقدومنا إلى المداشر والقرى الأخرى، فاقبل الجميع على الله إقبالا حسنا، لم يكن لنا بالحسبان”26.
وذكر سيدي إبراهيم أنه ساح في جميع مناطق بني مسكين، وأنه كان يمكث في كل قرية من قراها ثلاثة أيام أو أربعة حتى يشعر أنه أدى ما عليه من واجب نحوها، ثم بعد ذلك دخل إلى عاصمة القبيلة، وهي البروج التي كان يسكن بها قائدهم محمد بن بوحافة، فاستقبله القائد وأخذ عليه الورد، وأصبح من تلاميذه المخلصين المحبين له في لله. وأشار إليه أن يبقى بين ظهرانهم.
لما رأى سيدي إبراهيم تلك الحفاوة وذاك الاستقبال مع تعطش الناس لدينهم، قرر أن يمكث في بني مسكين، فسكن دارا هناك في البروج واتخذتها زاوية له ولأصحابه، فبدأت الوفود تفد عليه من جميع الجهات، وبدأ عدد المتجردين يتزايد من حين لآخر، وهو مجتهد في تربيتهم وتعليمهم، حيث كان الشيخ يعقد مجالس الوعظ والإرشاد والذكر وتعليم أمور الدين، فتاب كثير من الناس إلى الله، وندموا على ما كانوا عليه من الإعراض والغفلة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإقبال الكبير لقبائل بني مسكين على الشيخ لا يعني أنه لم يجد أي عراقيل أمام دعوته في هذه البلاد، بل على العكس من ذلك، فكما يقال: من أبدع فقد استهدف، وهكذا فقد وُجِد في هذه القبيلة من حاربه جهلا بالدين، ووُجِدَ من اتهمه بالسحر والشعوذة، وسأذكر مثالين لذلك على سبيل المثال لا الحصر.
أولهما قصة وقعت له مع جماعة من الطلبة حفظة القرآن الذين “كانوا يناوئونه جهلا بالدين، وحسدا له أن يظهر أمامهم”27. حيث “… مر مرة بقرية وعظ فيها الناس، فاستتاب كثيرين على الصلاة، يأمرهم بالوضوء، وبالتيمم عند فقدان الماء أو المرض، وحين رجع مرة أخرى إلى القرية، اجتمع له جماعة من الطلبة، ونادوه بين العشاءين من بين أصحابه ليفضوا إليه بشيء، فخرجوا به وحده حتى أبعدوه عن الخيام، فاستداروا به يقولون: مالك تفسد الدين، ومتى كان في الدين هذا الذي تسميه بالتيمم، فصاروا يصولون عليه، وقد تبدت من تحت ذيولهم هراوات أعدوها له، فنهض إليهم بشجاعة ربانية كامنة منه، فقال لهم: عجبا هل جهلتم الدين إلى هذا الحد، وأنتم كما تزعمون طلبة؟ أين أنتم من قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة إلى قوله : فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا أليس هذا كلام الله؟ فسقط في أيدي الطلبة، وقد زأر عليهم، فصار بعضهم ينظر إلى بعض، ثم صار يقول لكل واحد منهم هل صليت؟ فيقول لا، فإذا بجميعهم لا يصلون، فخاصمهم، ولم يزل بهم وحده وهم منتبذون عن الناس حتى أعلنوا وهم تائبون أنهم ما كانوا يصلون قبل اليوم، وهكذا أسلسوا ودخلوا في دين الله، ثم صار معظمهم بعد ذلك من خيار أصحابه”28.
وثاني الأمثلة هو قصة الفقيه عبد القادر بن فضول المسكيني، حيث قال الشيخ: “وانتقلنا إلى دوار (أولاد أبو الشعير ) فاجتمع علينا من فيه من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، وعقدنا المجالس للذكر والمذاكرة، فأخذ علينا منهم خلق كثير، فلزمنا رفيقنا ومحبنا في الله الزاهد الذاكر المذكر المادح للنبي الفقيه سيدي عبد القادر بن الشيخ فضول المسكيني، وهو حين ذاك لا زال شابا في الرابعة عشر من العمر، لازمني يقرأ القرآن مع التلاميذ ويتفقه في الدين، فأبى عليه والده فضول بن المعطي الذي كان له دف يمدح به النبي من قصائد الملحون من نظمه، ويستدعيه الناس للولائم، وبعد أيام ارتحلنا إلى البروج، فأخذ ولده ورغبه وأرهبه كي لا يتبعني، قائلا له: إن تبعت هذا العريب الساحر (يعني الشيخ) فإني قاتلك لا محالة، فلم ينقاد له ولم يسمع وعيده، فأمر أخاه الأكبر سيدي إدريس بأن يقتله حين يراه، وفي يوم عطلة الأسبوع يوم الأربعاء وليلة الخميس، قلت للفقيه سيدي لحسن أبيضار احمله على بغلتي لزيارة والديه، ولما كانا قريبين من الدوار عند هضبة قريبة منه حيث كان أخوه سيدي إدريس مختفيا يحمل بندقية، ولما كان له هدفا رماه بعيارة نارية سمع لها صوت، ولكنها لم تصب أحد الراكبين، لا الفقيه ولا سيدي عبد القادر بأذى ولله الحمد، فانطلقت العيارة النارية لتصيب الوالد الذي كان في قرية أولاد عامر، يبعد عن مكان الحادث بمسافة تسع كلم، وهو وسط جمع من الناس سقط بينهم مغشيا عليه، ورائحة البارود تملأ أرجاء المكان ولم يسمعوا طلقة من بندقية ولا غيرها، فهرع الناس إلى الدوار ليخبروا أبناءه، فوجدوا ابنه سيدي إدريس يحمل بندقية، فأخبروه الخبر، فقال لهم أن والده هو الذي أوصاه بأن يطلق النار على أخيه عبد القادر إذا رآه، ففعل لكنه لم يصب رغم قرب المسافة منه، فانطلقت لتصيب الآمر بإطلاقها، فحملوه وجاءوا به إلى الشيخ يحملونه في لحاف، وهو يستغيث ويستغفر معلنا توبته، فقال له الشيخ: ما حملك على هذا؟ فبأي حق تأمر ابنك أن يقتل أخاه، وهو ابني لا ابنكم، ولكي تتأكدوا من صحة ما أقوله لكم، اذهبوا جميعا وأتوا ببنادقكم واجعلوا فيها النار، ثم اجعلوا عبد القادر هدفا لكم، فعند ذاك ستعرفون من يصاب أأنتم أم هو؟ أنت أب الجسم وأنا أبو الروح، وأبو الروح أولى من أب الجسم، فسلموا أمرهم واستسلموا عن آخرهم، بعدما كان هذا الشيخ أشدهم علي إنكارا وعلى أصحابي، أصبح من أتباعي ولازمني في آخر أيام حياته إلى أن توفي، وكانت هذه الكرامة التي أكرمنا الله بها سببا في إذعان كل هذه القبيلة، فعلمت أن الله يؤيد أهل نسبته ويغير عليهم ولو كانوا كاذبين، فكيف بمن يذكره وهو مخلص في دعوته لله سرا وعلانية”29.
وقد روى الشيخ سيدي محمد المصطفى بصير في كتابه الاغتباط قصصا كثيرة مماثلة، وذكر أن سيدي إبراهيم البصير كان يخرج من جميعها منتصرا، وذلك بإذعان الخصم لحجته، وإعلان توبته30. إلى أن تاب على يديه حتى اللصوص وقطاع الطرق31. واستجاب له أغلبهم، و”انقاد له ذوو الرأي، مثل القواد والمشايخ والعلماء والفقهاء”32. بل أصبح جلهم من تلامذته الذين لا يعصون له أمرا.
عموما، فقد بقي الشيخ مستقرا في البروج وتزوج فيها بالشريفة الشرقاوية لالَّة مومنة بنت الشريف سيدي صالح بن المعطي الشرقاوي، وهي أم ابنه مولاي علي، فلما تزوج عزم على الاستقرار النهائي في بني مسكين وتحديدا بالبروج، فإذا به يرى شيخه الإلغي في المنام، يقول له: لا نجوز لكم في هذا المكان، لكن عليك (بتخصايت)، فلما استيقظ، بقي حائرا أمام كلمة (تخصايت) لأن أهل سوس يطلقونها على (القرعة) وليس على مكان، لكنه هدي إليها بعد فترة، حيث جاءه رجل وقدم له حفنة من اللوز وقال له جئتك بها من تاخصايت، فسأله عنها، فأخبره أنها قرية قرب مشهد سيدي علي بن إبراهيم عند قدم الجبل.
لما علم الشيخ بذلك، خرج من البروج إلى أولاد موسى في بني خلوك وكان ذلك سنة 1328هـ/ 1910م، وفي تلك القرية وصله خبر وفاة شيخه الإلغي حيث تسلم رسالة من سيدي محمد الخليفة بن الشيخ مفادها أن الشيخ التحق بالرفيق الأعلى، وإنه قبل وفاته أوصى بهذه الأشياء لتكون عندك، وهي سبحته وعكازه وخاتمه الذي يختم به الرسائل ونسخة من كتاب الأمير المخطوط بخط اليد، الذي هو ترجمة للربع الأول من كتاب بلوغ المرام من أدلة الأحكام للأمير دحلان (باللغة الأمازيغية). وفوض الأمر إلى الله تعالى، ثم واصل السياحة في ربوع بني مسكين قرية قرية ومدشرا مدشرا.
وفي هذا التاريخ نعلم أن الاستعمار كان قد بدأ يستحوذ على عدد من المناطق المغربية، فقد احتلت وجدة والدار البيضاء ومناطق أخرى سنة 1907م، وبدأ الناس يتشاورون في أمر الجهاد، ولما كان الشيخ سيدي إبراهيم هو المطاع في بني مسكين اجتمعت كل قبائل بني موسى في موضع يقال له (أحميري) في ناحية بني مسكين، ولكن كانت منقسمة على نفسها إلى قسمين: قسم مع الاستعمار الفرنسي، وقسم مع الوطنيين المحاربين، فلما اجتمع بهم بدأ في تسكين هذه القبائل فيما بينها، كي يتركوا ما كان بينهم من الحقد والعداوة، لأن ما هم فيه لا يفيد سوى الخصم، ثم جمع من تيسر منهم وقال لهم: إن هذا الذي تريدون لا يتأتى لكم الآن لأسباب فساد النيات وعدم إخلاص الطويات، ولقلة ما بأيدينا من وسائله، لأن الصراع يكون بين شيئين متكافئين عددا وعدة وخطة، فعدونا يملك من القوة ما لا نملك، طائرات حربية تحلق فوق رؤوسنا، ولا وسيلة لنا لاقتناصها، وبوارج حربية عاتية جاثية على شواطئنا معتدية على ثغورها، ولا مال ولا عتاد، ولا عدة ولا وحدة صف، فالجهاد الذي تنادون له غير ميسر لنا ولكم، ولابد لنا من أن نماشي الأقدار، وإن كانت لا توافق أغراضنا (ولله الأمر من قبل ومن بعد). فتبعه البعض، بينما أنكر عليه البعض الآخر، وقال له لماذا لا نتبع خطى الشيخ الهيبة الذي جاء إلى مراكش ليدافع عنها، خاصة وأن ابن الشيخ مولاي أحمد، وأخاه سيدي محمد البصير كانا مع الهيبة في مراكش، فأجابهم:
اعلموا علم اليقين أنه لا سلطان الآن، وحيث لا يوجد فإن الشيطان موجود، أما الهيبة فإنه هارب الآن من مراكش، وسيتفرق عليه الناس، وأن النصارى داخلون إلى مراكش اليوم أو غدا، ولابد من استحواذ النصارى على كل المناطق، وما هي إلا ساعات حتى وصل سيدي محمد البصير رفقة مولاي أحمد ابن الشيخ، هاربين فيمن فر من القصف الوحشي الذي سلطه الجيش الاستعماري على المدنيين العزل في نواحي مراكش وعلى المدينة نفسها، وما إن سمع الناس الخبر حتى أجفلوا وعمت الفوضى والاضطراب وتفرقوا طوائف قددا، الكل يطلب النجاة بنفسه. وكان هذا أيضا سببا في خروج الشيخ سيدي إبراهيم من بني مسكين إلى الزيدانية بتادلة.
وبعد استعمار المنطقة بكاملها وانتقال الشيخ إلى الجبل، لم ينس الشيخ سيدي إبراهيم منطقة بني مسكين، بل كان الحنين يهزه إليها هزا، وحدث أن تعرضت زاويته لهجمة من هجمات السياب وقتل فيها عدد من الفقهاء والفقراء، عزم الشيخ على الرجوع إلى بني مسكين، واختار أولاد اشواوة ليبني زاويته ويستقر فيها، وبالفعل فقد حفر الأساس، وشرع في البناء، ولولا أن السلطات المخزنية منعته من البناء لكانت زاوية أل البصير في هذه المنطقة، فقد أوعزت السلطات للقائد محمد بن بوحافة بأن يمنعه قائلين له: إن سكن الشيخ سيدي إبراهيم هنا لن يبقى لك حكم على قبيلة بني مسكين، فهو كما تعلم يلتجئ إليه الناس في كثير من الحالات التي هي من اختصاصك، كفض المنازعات والخصومات وغيرها، وهو لا يطلب عوضا عما يقوم به هو وأصحابه، مثلك أنت ومن معك. وقد أكد الشيخ مولاي المصطفى بصير في كتاب الاغتباط أن الأساس لا زال هناك، وأن أدوات البناء وبعض الأواني لازالت إلى يومنا هذا عند أبناء الفقيه سيدي الجيلالي بن الفقيه، والعلم لله.
ومهما يكن، فقد شكلت بني مسكين محطة أساسية في حياة الشيخ سيدي إبراهيم البصير، فمن هذه المنطقة تزوج إحدى زوجاته، وفيها أخوال ابنه مولاي علي، وفي هذه المنطقة حصل على شارات وراثة الطريقة الدرقاوية، أعني سبحة وعكاز وطابع شيخه، ومن هذه المنطقة كانت انطلاقته إلى الحج مرتين الأولى سنة 1353هـ، وهي التي رافقه فيها ما يزيد على الثلاثين من أصحابه من جهات مختلفة، من بينهم القائد محمد بن بوحافة قائد بني مسكين، والثانية سنة 1355هـ وقد حج معه نحو أربعين من أصحابه. وهذه الأشياء إن دلت على شيء فإنما تدل على أن هذه المنطقة كانت فأل خير على الشيخ سيدي إبراهيم البصير، وأن هذا الأخير كان فاعلا وإيجابيا فيها، حيث أحيا بها الملة والدين، ونشر فيها طريق الصالحين، ولولا مشيئة الله، لكانت هذه المنطقة هي مقر زاويته وسكناه، ومنطلق دعوته إلى الله.