الهدي النبوي في التعامل مع المخطئين
الخطبة الاولى
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعد: فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.
أحبتي في الله : لا شك أن الإنسان اجتماعي بطبعه، ولا يمكن له أن يعيش بمعزل عن الناس، بل هو مضطر إلى أن يعيش مع الجماعة، فتنشأ بينهم علاقات متعددة، والتي ينتج عنها أحيانا وجود بعض الأخطاء أو العثرات التي تحتاج للتقويم؛ ووقوع الخطأ من الإنسان أمر طبيعي لا ينفك عنه، وهو جزء من الضعف الذي قال الله فيه: (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) [النساء:28]، فمهما بلغ العبد من مقامات العبودية، أو درجات التقوى فلا يسلم وقوعه في خطأ، ولا يسلم من وقوعه في معصية، وكل ابنِ آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون.جميعا نخطأ ، أبناءنا يخطئون ، أزواجنا وزوجاتنا يخطئون تلاميذنا يخطئون ولأن الخطأ بشري ولأننا في حاجة إلى التقويم والتصحيح وفي حاجة الى نمادج تربوية ، كان لا بد لنا أن نبحث عن أرقى الأساليب وأكثرها ايجابية وتأثيرا ، فلم نجد غير هذي النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمنا أرقى الأساليب في تعامله مع المخطئين وذلك من خلال سيرته العطرة وشمائله الكريمة، وسنرى كيف تعامل صلى الله عليه وسلم مع هذه الفئة وكيف قوَّم أخطاءهم، حتى نقتفي أثره، ونهتدي بهديه، فهو القدوة الحسنة الذي أرسله الله رحمة لنا. مصداقا لقول الله تعالى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾
أحبتي في الله ، إذا كانت المعاصي إرادة قدرية فإن علاجها بالطريق الشرعي، ولا يُعذر أرباب المعاصي والكبائر لكونهم بشراً، أو لوجود المغريات والفتن، تلك لا تعذرهم من توجيه نصيحة لهم لإصلاح أخطائهم، وتدارك نفوسهم، ولكن إصلاح الخطأ لا بد أن يكون وفق ما دل الكتاب عليه، وعلى هدي نبينا صلى الله عليه وسلم.
اخي في الله : إن من تأمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم في علاجه للأخطاء لَيجد أنه العلاج النافع المؤثر، (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3-4].
فمن معالم هديه صلى الله عليه وسلم في معالجة الأخطاء الرفق بالمخطئ بالعبارات، فكان صلى الله عليه وسلم يصلح أخطاء أصحابه بالعبارة اللينة، والكلمة الطيبة، قال الله جل وعلا: )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159]، فكان صلى الله عليه وسلم نموذجاً حقاً في علاج الأخطاء بقوله وفعله، فأما قوله، فهو القائل(ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع الرفق من شيء إلا شانه)، وهو القائل: (إن الله يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف).
وأما فعله صلى الله عليه وسلم فقد أخبرنا صحابي من أصحابه، وهو معاوية بن حكم الأسلمي، قال: قدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأتفقَّه في الدين، فعلم من فقه الدين مشروعية حمد الله لمن عطس وتشميت العاطس، قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه فعطس رجلٌ من القوم، فقلتُ يرحمك الله، قال فرماني القوم بأبصارهم، فقلت واثكل أمياه! ما لكم تنظرون إلي؟ قال فضربوا بأيديهم على أفخاذهم يسكتونني، لكني سكتُّ.
فلما انقضت الصلاة دعاني صلى الله عليه وسلم، والله ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، والله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني؛ بل قال: “إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن”.
فانظر إلى هذا التعليم العظيم، والتواضع الجم، والتربية الصالحة ليُشْعِر هذا الجاهل بالحكم الشرعي الذي خفي عليه فيعلمه، فكان هذا التعليم له أثر في صلاح ذلك الإنسان واستقامته، وهو القائل -بأبي وأمي- ما رأيتُ معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه! فصلوات الله وسلامه عليه.
احبتي في الله
من معالم إصلاح الخطأ في هدي النبي صلى الله عليه وسلم أيضا ، وسيلة الإقناع، أي أن تقنع المخطئ بأن فعله خطأ، فإذا اقتنع بأن فعله خطأ وترك هذا الفعل عن قناعة كان ذلك هو المطلوب، ليس الهدف أن أواجهه ساباً أو ناقداً أو شامتاً أو عائباً متفرحاً عليه بخطأ، لا، مهمتي أن أقنعه بأن ما عليه خطأ يجب أن يصححه، فلعله أن يترك ذلك عن قناعة، وإلا فالحجة قد قامت عليك؛ أما مواجهته بالإنكار ورفع الصوت والغضب الشديد فإن ذلك لا ينفع، وإنْ نفَع في ترك الخطأ، فإنه إذا توارى عنك فعل ما كان يفعل، لكن إذا اقتنع منك بأن قولك حق وأن فعله خطأ فذاك المطلوب.
ولهذا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فتى شاب، فقال يا رسول الله: ائذن لي بالزنا! سؤال غريب يستنكره ذوو الإيمان والتقوى، فالصحابة قالوا له: مَهْ! مَهْ! منكرين عليه قوله، رادِّين عليه قوله؛ لأنه طلب أمراً شديداً، يريد أن يحلل حراماً حرَّمَه الله.
ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئاً، وإنما دعاه: “ادْنُه”، فلما اقترب منه، قال: “يا هذا، أترضى بالزنا لأمك؟”، قال لا يا رسول الله، قال: “والناس لا يرضونه لأمهاتهم، أترضاه لابنتك؟”، قال لا يا رسول الله، قال: “والناس لا يرضونه لبناتهم، أترضاه لأختك؟”، قال لا يا رسول الله، قال: “والناس لا يرضونه لأخواتهم، أترضاه لعمتك؟”، قال لا يا رسول الله، قال: “والناس لا يرضونه لعماتهم، أترضاه لخالتك؟”، قال لا يا رسول الله، قال: “والناس لا يرضونه لخالاتهم”، ثم قال: “اللهم اغفر له، وطهِّر قلبه، واحفظ فرجه”، قال: فما التفت الرجل إلى شيء بعد ذلك.
انظر إلى هذا التعليم العظيم، والتوجيه النبوي، فتىً شابٌ أعزب يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيح له جريمةً محرمةً بالكتاب والسنة بإجماع الأمة، ومع هذا لم يبالِ بالإنكار وإنما أقنعه بأن هذه الجريمة نكراء، لا يرضاها المسلم لنفسه، فكيف يرضاها لغيره؟.
جاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت لي غلاماً أسود! يعني لون الغلام غيْر لونه، مِن أين أتانا هذا؟ معللاً بأن هذا الحمل ليس منه، وأن هذا الولد ليس بولده، لماذا؟ لأن اللون يخالف لون الأب، ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم أغلق عليه باب الوساوس وأبعده عن الشكوك والأوهام، وقنَّعه بأمرٍ هو في يده، فقال له: “هل لك من إبل؟” قال: نعم، قال: “ما لونها؟”، قال: حمر، قال: “وهل فيها من أورق؟” أي أسود، قال: نعم، قال: “من أين أتى هذا؟”، قال: لعله نزعه عرق، قال: “ولعل هذا نزعه عرق”، أي لعل في آبائك من لونه أسود تطرق إلى هذا الغلام، فأغلق باب الوساوس والمشككين الذين يتعلقون بأدنى ريبة وأقلِ شكٍ للطعن والقيل والقال.
أحبتي في الله
ومن معالم هديه صلى الله عليه وسلم في الرفق عند إصلاح الأخطاء أنه لا يواجه المخطئ أحياناً بخطئه؛ وإنما يلمِّح ويعرِّض ليفهمه وغيره، استبَّ رجلان عنده صلى الله عليه وسلم، فأحد الخصمين، أو أحد المتسابين احمرَّت عيناه، وانتفخت أوداجه من الغضب الذي سيطر عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: “إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”، فلم يواجه المخطئ، وإنما أراد العامة.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد الإنكار لم يُعيِّن المنكر عليه، بل يقول: “ما بالُ رجالٍ اشترطوا شروطاً ليست في كتاب الله؟!”، ما بال أقوام؟! لِيفهم الواقع في الأمر، ويفهم غيره، حتى لا يُخجَّل الإنسان، ولا يقع الذل، وإنما النصيحة الهدف منها الإصلاح والتقويم.
ومن معالم هديه صلى الله عليه وسلم في إصلاح الأخطاء السكوت عن الخطأ أحياناً، لا رضىً به؛ ولكن خوفاً من يأتي خطأً أكبر من ذلك الخطأ، يسكت عن خطأٍ خوفاً من أن يأتي خطأ أكبر من ذلك الخطأ، فإن من مقاصد الشرع ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أشدهما وأشرهما.
في عهده صلى الله عليه وسلم فئةٌ من الأوس والخزرج دخلوا في الإسلام ظاهراً وهم كافرون به باطناً، وهم المنافقون، آمنوا برسول الله فيما يظهر منهم، واللهُ يعلم إنهم كاذبون، (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقون:1]، فهم تظاهروا بالإسلام، يصلّون مع النبي، يجاهدون معه، يحسَبون من أهل الإسلام، ومع هذا فقلوبهم منطويةٌ على خبثٍ وعداءٍ لله ورسوله، متى ما سمحت الفرصة تفوهت الألسن بما انطوى عليه القلب من الخبث والبلاء والعداء لله ورسوله.
ومع هذا الخبث الذي يعلمه صلى الله عليه وسلم من أولئك لم يعاجلهم بالعقوبة ولم يعاقبهم، بل صبر وتحمل كل أذىً منهم، لا لذواتهم، ولكن رفقاً بالأمة أن يتصدع بنيانها، أو يقتل بعضُها بعضاً، أو يقوم أحد أقاربه ووده تحمله العصبية الجاهلية أن يقول ما يقول؛ فرفقاً وإغلاقاً لوسائل الشر ودعاة السوء والفساد صبَر عليهم وهو يقول: “لا تتحدث العرب أنَّ محمداً يقتل أصحابه”، فهو يصبر عليهم وهو يعلم حالهم، رفقاً بالأمة، وخوفاً عليها مِن تَصَدُّعِ بنيانها، وتفكك بنيانها، ونفوذ العدو اللدود لأجل أن يبث سمومه في المجتمع المسلم.
قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجد وأصحابه، إذ جاء أعرابي فبال في ناحية المسجد، بال في طائفة المسجد، يرى أن المسجد وغيره سواء، فبال في طائفة من طوائف المسجد، فلما رآه الصحابة أنكروا عليه، وقالوا: مَهْ! وكادوا أن يوقعوا به، انتهك حرمة المسجد وشرف المسجد، ودنَّس المسجد، وقذَّر المسجد، كيف يُترَك؟ ولكنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم الرحيم بأمته، الشفيق عليهم، الحريص على هدايتهم، قال: “دعوه! لا تزرموا عليه بوله”، فلما انتهى من بوله دعاه، وقال له: “إن هذه المساجد لا يصلح فيها البول ولا القذر، إنما لذكر الله، وتلاوة القرآن، والصلاة”، فخرج وهو يقول: اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر معنا لأحد!.
انظر أخي في الله إلى هذا الخلق العظيم، فالسكوت عن هذا الخطأ لا رضىً به، ولكن لو أُجبر هذا الأعرابي الجاهل على القيام من مكانه لدنَّس ملابسه وبدنه، وتفرق البول في أماكن معدودة، بينما هو محصورٌ في موضعٍ واحد، فدعا بذَنوبٍ من ماء فأفرغه على هذا البول، وانتهى الموضوع، وأُغلِقَ باب الشر، وأُصلِح الخطأ، ونُبِه الجاهل، فصلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.
ومن معالم هديه في إصلاح الخطأ تذكير المخطئ بعقوبة الله، وقدرة الله عليه؛ لأن مَن في قلبه إيمان إذا ذُكِّر بالله خاف، إذا ذُكِّر بعقاب الله وانتقامه من الظالمين دعاه ذلك إلى السمع والطاعة والبعد والارتفاع عن الظلم والعدوان، قال أبو مسعود الأنصاري: كنت أضرب غلاماً لي في السوق، فإذا منادٍ يقول: “اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود”، قال: فلما اقترب مني علمتُ أنه صلى الله عليه وسلم، فوضعت السوط من يدي إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “يا أبا مسعود، اعلم أن الله أقدر عليك منك عليه”، قال: فوالله ما ضربت مملوكاً بعد ذلك، فصلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.
ومن معالم هديه صلى الله عليه وسلم في إصلاح الأخطاء هجره أحياناً للمُخطئ أحياناً لكي يتصور الخطأ، ويعلم أن فعله فعلٌ غير مرضيٍّ وغير مطلوب، هجر ثلاثةً من أصحابه كعب بن مالك وصاحبيه لما تخلفوا عن غزوة تبوك، خمسين يوماً حتى تاب الله عليهم ومنَّ عليهم بالتوبة النصوح، وهذا الهجر يستعمل أحياناً إذا كان يؤدي غرضه، ولا سيما إذا كان من يَهجر له شأنه، ومن يُهجر أيضاً يُرجى استصلاح حاله، وتوبته إلى الله، كان صلى الله عليه وسلم إذا علِمَ بكذبٍ من أحد أصحابه أو أهل بيته ما يزال في نفسه عليه، يُعرض عنه حتى يعلم أنه قد تاب من ذلك الخلق الذميم خلقِ الكذب والافتراء.
ومن معالم هديه صلى الله عليه وسلم في إصلاح الأخطاء تنبيهه للحق، وإرجاعه للحق، جاء أبو بكرة -رضي الله عنه- والنبي صلى الله عليه وسلم راكعٌ فركع دون الصف ثم دخل في الصف، فلما سلم قال له صلى الله عليه وسلم: “زادك الله حرصاً، ولا تعد”، أي لا تركع دون الصف.
ولهذا قال عن كيفية الإتيان للصلاة: “ائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فأتموا، وما فاتكم فاقضوا”، فأبو بكرة ركع دون الصف ليدرك الركعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: زادك الله حرصاً وهدى، لكن لا تعد لمثل هذا الفعل، فلا تركع دون الصف واجعل ركوعك مع الصف، فهذا هو الواجب عليك.
ومن معالم هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الأخطاء أنه ينظر ويعتبر الغريزة المغروسة في نفوس بعض المخالفين والمخطئين فيرفق به لأجل ذلك، بينما هو في بيته إذ جاءته أم سلمة بصحفةٍ فيها طعام، وكان في بيت عائشة، فلما رأتها عائشة ضربت الصحفة حتى انشقت نصفين لكي تبطل الطعام الذي جاء في بيتها ولا ينتفع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الطعام الآتي له من بعض ضراتها، فلما وقع ذلك جمع النبي صلى الله عليه وسلم أجزاء الصحفة والطعام وقال: “كلوا، غارت أمكم، كلوا، غارت أمكم”، ثم أخذ صحفة عائشة وأرسل بها إلى أم سلمة، وقال: “طعامٌ بطعام، وصحفةٌ بصحفة”، وأُغلِقَ الباب، وانتهى الموضوع.
ومن معالم هديه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالمخطئ أنه لا يهوِّل الأمور الصغيرة فيجعل الصغائر كالكبائر، لا، الأخطاء قسمين: خطأٌ صغير له علاجه، وخطأٌ كبيرٌ له علاجه، فلا يجعل الصغير مثل الكبير، ولا تهوَّل الأمور، بل تعالج الأخطاء على قدرها، لا يهوَّل الكبير، ولا يُتهاون في الصغير، “أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم، إلا الحدود”، كل ذلك رفقاً بالأمة.
ومن معالم هديه صلى الله عليه وسلم في إصلاح الأخطاء النظر للمخطئ من جهلٍ وغفلةٍ وعلمٍ وشُبَهٍ تعرض له، فالجاهل يُعلَّم، الجاهل يعلم ويُبين له الحق الذي خَفِيَ عليه، والغافل يُذَّكر، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، والعالم يُوعظ ويُخوّف من الله، ويُذَّكر بأن علمَه الذي يحمله لابد أن يكون دالاً على العمل ومُعيناً على العمل، وأن من خالف علمُه عملَه شابه اليهود، (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً) [الجمعة:5]، (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ) [البقرة:44]، ومَن عنده شبهةٌ يحاور ويجادل ويناظر لكي تزول شبهته، ويعود إلى الحق.
كل هذه المعالم وغيرها من معالم هديه صلى الله عليه وسلم في إصلاح الأخطاء، وصدق الله: )لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128]، فصلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدَ لله حمداً كثيراً مباركاً فيه، كما يُحِب ربنا ويرضى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعد: أحبتي في الله ،
علِمنا هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم في معالجة الأخطاء وإصلاح الأخطاء، والدعوة إلى الخير والصلاح، فعلينا جميعاً أن نسير على هذا المنهج النبوي في إصلاح أخطائنا، في أنفسنا، في أهلينا، في مجتمعنا جميعاً.
أيها الأب الكريم: قد يحصل بينك وبين أولادك شيءٌ من الخطأ، هذا الخطأ عالجه تارةً بالرفق، وتارةً بالشدة، وتارةً بالتغاضي عن بعض الأمور، ثم لاحظ الفارق العمري والعلم وعدمه، ولاحظ صِغَر السن وكبره، فأوقع كلاً في موقعه، وأصلح كل خطأ بالطريق المناسب له، فليس خطابك للطفل الصغير كخطابك للكبير، ولا لمراهقٍ كالكبير ولا غيره، بل ضع الاعتبار العمري، والعلم، ونحو ذلك في موضع الاعتبار؛ ليكون التنبيه واقعاً موقعه.
أيها الاستاذ الكريم: التلاميذ يخطئون ويتصرفون، فكيف تعالج أخطاءهم؟ هل بالضرب؟ هل بالتأنيب؟ هل بخصم الدرجات والنقط ؟ لا، لابد من معالجة أخطاء التلاميذ بالتوجيه، والكلمة الطيبة، والتشجيع، والتنبيه، والتنافس الكريم بينهم؛ لكي تتوصل إلى إصلاح الأخطاء، ليشعروا منك أنك أبٌ رحيمٌ لهم، موجِّهٌ لهم، حريص على إصلاحهم وتنبيههم، وإصلاح أخطائهم.
وأنتما أيها الزوجان، أيها الزوج الكريم، أيتها الزوجة الكريمة إن الخلاف بين الزوجين ممكن، ويقع الخلاف بين الزوجين في أمورٍ أحياناً قد تكون ترَّهات لا قيمة لها، أمورٌ تافهة قد تُصعَّد حتى تكون أموراً قوية، فعلى الزوج وعلى الزوجة جميعاً أن يعالج كلٌ منهم أخطاء صاحبه، معالجتها بحكمةٍ وبصيرةٍ ورفقٍ ورويَّةٍ، من غير تدخُّل أيدٍ خفية، وعلى الزوج أو الزوجة أن يصبر كلٌّ منهم على ما قد يحصل من أخطاء الآخر، وفي الحديث، “لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة، إن كرِهَ منها خلقاً رضِيَ منها آخر”. وعلى المرأة الصبر على زوجها، وتحمُّل ما يمكن تحمله، وعدم إشراك الأهل فيما يحصل بين الزوجين، فاهتمام الزوجين ببيتهما، وإصلاح أخطائهما هي الوسيلة التي تُبقي البيت متماسكاً قوياً ثابتاً.
أيها الموظف، أيها المسؤول: ارفق بمن تحت يدك من موظفيك ومسؤوليك، وعالج أخطاءهم بالحكمة، وإياك أن تعالجها بغضبٍ، أو طيشٍ، أو قيلٍ وقال! وإنما يكون العلاج بالرفق وإقناع المخطئ، والبحث عن أسباب الخطأ، وقطع دابر الفساد.
أيها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والداعي إلى الله: إن المسؤولية عظيمة، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والداعي إلى الله، هدفه الإصلاح، هدفه تقويم الاعوجاج، هدفه نصيحة الناس وإنقاذهم مما هم فيه من الخطأ، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هدفه تغيير المنكر، لكن بأي سبيل؟ تغيير المنكر بإرشاد المخطئ، وتبيين خطئِه، وإقناعه بأن ما هو عليه منكَر مخالفٌ للشرع، فبهذا يعلم أنك رفيقٌ به، حريصٌ على هدايته، لا تُظهر الشماتة به، ولا الفرح بأخطاءه، فإنما تُريد إصلاح حاله، واستقامة أخلاقه.
أحبتي في الله
نحن في زمنٍ يجب أن يلتحم صفنا، وتتحد كلمتنا، ونخرج جميعاً بمظهرٍ المتَّحد، الأمةٌ المتحدة، المترابطة، المتعاونة، كالبنيان يشد بعضه بعضاً، نحن في زمنٍ تحدياته عظيمة، يجب أن نكون جميعاً يداً واحدة في إصلاح أمورنا، وإصلاح أخطائنا، ولْنتعاون جميعاً بنيَّةٍ صادقة، وعزيمةٍ صالحة، وإرادة خيرٍ، ليس هدفنا أن ينتقم بعضنا من بعض، أو يشمت بعضنا ببعض، أو نحط من قدر بعضنا ببعض، أو نتدخل في خصوصياتنا وشخصياتنا، وإنما نريد الإصلاح ما وجدنا إليه سبيلاً،(إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود:88].
هذا وصلوا وسلموا على سيد رسله وخاتم أنبيائه والشافع المشفع عند الله يوم نلقاه، المنزل عليه إرشادًا وتعليمًا وتشريفًا له وتعظيمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 566]، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الذين هم فيما عند الله راغبون، ومما لديه راهبون.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك العليا ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا واجعلهما الوارث منا ونحن عبيدك الضعفاء، فاقصف من يظلمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللهم انصر من نصر الدين واخذل كل من خذل المسلمين اللهم انظر إلينا بعين رحمتك وادم علينا سوابغ نعمتك.
اللهم عرفنا نعمك بدوامها ولا تعرفنا نعمك بزوالها اللهم اختم بالصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا واجعل إليك اعتمادنا ومآبنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا واجعل الجنة هي دارنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللهم ادفع عنا الغلاء والبلاء والوباء والربا والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن ، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، . اللهم اسقنا سقيا نافعة واسعة تزيد بها في شكرنا، وتوسع فيها على فقرائنا وتحيي بها أرضنا، أنت الحي فلا تموت وأنت القيوم فلا تنام بك نصول ونجول وعليك التكلان.
اللهم وفق ملك البلاد أمير المؤمنين محمد السادس لما تحب وترضى وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم كن له معينا ونصيرا وأعنه وانصره على أعدائه وأعداء المغرب .
اللهم امدده من عندك بالصحة و العزم و القوة و الشجاعة والحكمة و القدرة و التوفيق لما فيه مصلحة العباد و البلاد و الأمة الإسلامية قاطبة ، و اجعله لدينك و لأمتك ناصراً ، و لشريعتك محكماً .اللهم ، خذ بيده، و احرسه بعينيك الّتي لا تنام، واحفظه بعزّك الّذي لا يضام. واحفظه اللهم في ولي عهده الأمير الجليل مولاي الحسن وشد أزره بأخيـــــــه المولى رشيد وسائر الأسرة العلوية المجيدة وأيِّده بالحق وارزقه البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام.
.اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن كافة الصحابة من المهاجرين والأنصار وعن الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الستة الباقين من العشرة الكرام البررة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة،اللهم انفعنا بمحبتهم، ولا تخالف بنا عن نهجهم، يا خير مسؤول ويا خير مأمول..
عباد الله:اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.